Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطفل المعاق يقلب حياة العائلة في رواية "التأقلم"

الروائية الفرنسية كلارا دوبون مونو فازت بجائزة "فامينا" عن عمل يفيض إنسانية

الروائية الفرنسية الفائزة بجائزة فيمينا كلارا دوبون مونو (دار ستوك)

في وقت يتجه العالم الغربي إلى الفردية والعزلة، تحصد رواية "التأقلم"  (دار ستوك) للكاتبة الفرنسية كلارا دوبون مونو، جائزة "فامينا" لعام 2021، وفيها تخوض مغامرة روائية بالغة الحساسية مُركزة على مجموعة من القيم العائلية، مُعلية من أهمية الترابط الأسري والاجتماعي، من خلال سؤال مطروح على مدار الرواية وهو: كيف يمكن لأي أسرة أن تعيش حياتها بعد وصول ابن مصاب بإعاقة تمنعه من العيش بشكل طبيعي؟

الإجابة على هذا السؤال، تتمثل في كل التفاصيل التي تحشدها الكاتبة، التي اختارت أن تروي عبر ثلاثة فصول ردود فعل الأطفال في العائلة منذ لحظة معرفتهم بإعاقة أخيهم الأصغر، وكيف تتغير حياتهم بعد هذا الحدث الصادم. كانت لحظة مريرة حين مررت الأم برتقالة أمام عيني الطفل الصغير، لكنه لم يتجاوب مع حركتها، لم يتحرك ولم ينظر، بل علت وجهه ابتسامة، مجرد ابتسامة تدل على غيابه في عالمه الخاص. هذه اللحظة الفارقة من اكتشاف وجود طفل معاق، سوف تُغير طبيعة حياة الأسرة للأبد، وتسبب لهم فجوات في الحاضر والمستقبل. التعايش القصير مع أخ صغير مختلف سيشكل إلى الأبد شخصيات أشقائه، الذين يتفاعلون بمشاعر متناقضة مع إعاقته.

هناك أعمال روائية أخرى رصدت حالة وصول طفل غير طبيعي إلى حياة أسرة ما، منها رواية " الطفل الخامس" لدوريس ليسينغ، ترجمها إلى العربية مدحت طه، وتحكي عن التحولات التي حصلت في حياة الزوجين ديفيد وهاريت بعد ولادة طفلهما الخامس "بن"، وكيف تبدلت الحياة الهانئة إلى دراما كابوسية تؤدي إلى تغير واقع كل أفراد الأسرة، مع انسحاب الأب عاطفياً من أي مساندة لزوجته هارييت.

رواية أخرى للكاتبة إيمانويل لابوري بعنوان "صرخة النورس" من ترجمة دينا مندور، تتناول حياة فتاة صماء، فالكاتبة وهي بطلة الرواية، اختارت أن تُعبر من خلال روايتها عن مشاعر المصابين بالصمم، وانفعالاتهم. لقد لاحظ والداها وهي طفلة كيف تصدر عنها همهمة تشبه أصوات النوارس، ومع رحلات البحث عن علاج لحالتها أدركوا عجزها عن الكلام والسمع، لكن إيمانويل تغلبت على إعاقتها بتعلم الكتابة باللغة الفرنسية في مدرسة الصم والبكم وأنتجت روايتها هذه، التي ساعدتها على إيصال أصوات أصحاب الحالات المشابهة لها، والمطالبة بحقوقهم.

تعاطف كبير

في "التأقلم" تتبع كلارا دوموند التحولات التي تحدث في حياة الابن الكبير، الذي يُلغي طفولته فجأة، كما لو أنه اكتسب نُضجاً فجائياً، فيكرس حياته لحماية أخيه الأصغر، لا يُرافق أصحابه في نزهاتهم، ويقلص من حضوره الاجتماعي لأنه يحس بمسؤولية مساعدة أسرته في رعاية الصغير العاجز. وعلى النقيض منه يبدو سلوك الابنة الوسطى التي تحتمي بطفولتها، ورغبتها في عيش سنواتها بحرية، فتنطلق في المجتمع وترتبط بصداقات ومعارف كثر، وبسبب وجود الأخ "ذي الاحتياجات الخاصة" تقرر أن تذهب للإقامة في بيت جدتها.

أما الطفل الأخير الذي يأتي إلى العالم بعد موت الابن المعاق، فيغمره إحساس طوال الوقت بأن حياتهم جميعاً مظللة بحضور ذاك "الغائب"، الذي دمغ حياة والديه بحزن لا يزول، ويعتبر أن قدومه إلى العالم جاء تعويضاً لهما عن عذابات عايشاها لمدة عشرة أعوام مع طفل غير طبيعي.

اختارت كلارا أن لا تمنح أبطالها أي اسم، تلقبهم "الابن الأكبر"، "الابنة الوسطى"، والابن المريض تقول عنه "الطفل"، ثم الذي يأتي لاحقاً "الأخير"، وكأنها بهذا الاختيار تمنح أبطالها شمولية الحدث. أي أن هذه المعاناة من الممكن حدوثها في أي زمان ومكان وفي أي أسرة، كما أن ردود الفعل المتباينة هي نتاج طبيعي لسيرورة الواقع، الذي لا يُنتج سلوكاً متشابهاً حتى ضمن أفراد الأسرة الواحدة، فتتباين المواقف إزاء الحدث ذاته، ويختلف التصرف ومقدار التعاطف.

يأتي تميز هذه الرواية أيضاً من أن الكاتبة تمنح صوتاً للحجارة العتيقة في البيت كي تصف ما حدث، الحجارة هنا لها قلب وآذان وعينان، وكأن لسان حال ديموند يقول: إن الحجارة تتكلم، لتحكي عما تراه من معاناة هذه العائلة وآلامها.

سخرية متخيلة

إن تداخل السرد وانتقاله يمنحان النص حالة سحرية متخيلة بين المرئي والخفي، الكتابة هنا تستنفر الحواس كلها بين أحاسيس شتى، تتنوع ما بين الرأفة والحزن عند الابن الأكبر، والاشمئزاز والعار والذنب، مشاعر مؤلمة تهاجم الابنة الوسطى وتتركها فريسة الحيرة والاضطراب. إنهم عائلة صغيرة سعيدة تقريباً، حتى لحظة وصول الابن المريض جداً، الذي تمضي حياته من دون إشارات، من دون نظرات، من دون كلمات، وسوف يحيا حياة قصيرة، لكنها تقلب كل ما في حياتهم إلى سلسلة مفتوحة من الدراما التي لا تنتهي.

لم يستطع "الطفل" الرؤية أو الإمساك بشيء أو الكلام أو المشي، لكنه كان يسمع قليلاً، لذا يتخذ الابن الأكبر من الكلمات والأغنيات وسيلة للتواصل معه، ليس عبر الأغنيات فقط بل من خلال كل الأصوات: الضوضاء، ونقرات الماء، وصوت الحجارة على الأرض، يهمس له ويحكي القصص، يصف له العالم الخارجي وألوان الشجر وتدرجات اللون الأخضر في الطبيعة. لم يتحدث الأخ الأكبر مع أي أحد بالقدر الذي تحدث مع "الطفل". حكى له عن البلدة وحدائقها، عن الحيوانات والنباتات، عن الخنازير البرية والطيور الجارحة، كان يتقمص دور الحامي بالنسبة للأخ المريض.

في مقابل هذا، نفرت الأخت الوسطى من الطفل، لم تتحمل رؤية إعاقته، ولم تجد أسلوباً للتعامل معه، كان وجوده ضاغطاً على أعصابها، تمسكت بالطفولة ورغبة التحرر من الأعباء، هي لا تريد الاندماج في الدراما العائلية، فآثرت الابتعاد نفسياً ومكانياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد رحيل الطفل في عامه العاشر في إحدى دور الرعاية الدينية، يصاب الابن الأكبر بالألم لرحيل أخيه بعيداً عنه، ولعدم قدرته على الغناء له مرة أخرى، ويظل الحزن طافياً في قلب الأبوين، لم يتمكنا من تجاوزه حتى بعد قدوم طفل آخر مُعافى إلى الأسرة.

ربما نالت دوبون مونو الجائزة عن هذه الرواية القصيرة نسبياً - مئة وسبعين صفحة- لأنها تضع يدها على جرح مفتوح في كثير من العائلات في كل أنحاء العالم، إلى جانب طرحها لسؤال جوهري، حول مفهوم الإعاقة، ومفاهيم أخرى مثل التعاطف والرأفة والشفقة في مجتمعات مهووسة بالجسد الكامل والمثالي. إنه اختبار للإنسانية الحقيقية والهشة، اختبار لما نعرفه عن أنفسنا، وما نتخيل أنه بامكاننا احتماله من عدمه. لكن كلارا دوبون مونود لم تكتب هذا كدرس في الأخلاق، أو المشاعر الطيبة اللزجة، بل تركز على خطورة الموضوع وحزنه، وتفسح مجالاً للأمل في قدرة الإنسان المرنة على التكيف مع الدراما السوداوية، من خلال الأخوة الحقيقية والتعاطف النبيل مع الآخر الضعيف والمختلف.

تناقش دوبون مونو بشكل غير مباشر جوهر "العطف" والإحساس الأمومي الغريزي الذي يمكن وجوده عند بعض الأشخاص سواء كانوا رجالاً أو نساء، إحساس العطف هنا مقترن بحس داخلي بالانتماء للآخر، والتعاطف معه وإيثار حمايته عن التجرد من مسؤولية التواجد معه.

رواية "التأقلم" تحمل دعوة للتفكير بالآخر المختلف، الذي تنبض فيه الحياة لكنه عاجز عن التعبير والقيام بأي فعل. ولعل الإبداع الحقيقي في هذا العمل يكمن في اختيار الكاتبة أن تضع العجز البدني في موازاة  منح الحجر الروح والقلب لتتمكن من السرد والوصف بصوت شاعري، كما في الحكايات الخيالية حيث يمكن للجماد أن يتحدث؛ وكأن دوبون هنا تستدعي مقولة ترد في إنجيل لوقا تقول: "إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة