التصعيد في مواجهة روسيا من جانب حلف الناتو والولايات المتحدة يتزايد يوماً بعد يوم. وها هو ذا حلف الناتو يواصل ما سبق وأقدم عليه من الدفع ببوارجه ومدمراته الصاروخية جنباً إلى جنب مع سفن الأسطول السادس الأميركي إلى حوض البحر الأسود، تأكيداً من جانبهما على تحويل البحر الأسود إلى منطقة عمليات لسفنهما وشركائهما من البلدان المطلة على هذا البحر الذي طالما كان أقرب إلى "البحيرة السوفياتية".
في تحدٍّ سافر، يأتي في أعقاب إعلان روسيا عن إغلاق ممثلية الناتو في موسكو وتجميد الشراكة بين الطرفين، قرر الحلف العودة إلى مناورات جديدة تجري مشاهدها على مقربة مباشرة من شبه جزيرة القرم، غير بعيد من سيفاستوبول القاعدة الرئيسة للأسطول الروسي في البحر الأسود. وذلك في توقيت مواكب لتصعيد أوكرانيا عملياتها الاستفزازية باستخدام الطائرات التركية المسيرة ضد منطقة الدونباس، التي تتمتع بحماية روسية منذ إعلانها الانفصال من جانب واحد عن أوكرانيا في عام 2014.
وتعليقاً على ما يجري في هذا الصدد، نقلت صحيفة "أزفيستيا" عن قسطنطين سيفكوف، نائب رئيس الأكاديمية الروسية لعلوم الصواريخ والمدفعية، تصريحاته حول أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يحاولان الضغط على روسيا بمناوراتهما في البحر الأسود. وتوقع الخبير الروسي "احتمالات وجود أكثر نشاطاً لسفن دول التحالف يمكن أن يبدأ في هذه المنطقة، بمشاركة سفن الولايات المتحدة، وكذلك بريطانيا العظمى وفرنسا". وأضاف أن ما يصدر عن الجانب الأميركي من تصريحات تقول إن الولايات المتحدة مع دول الحلف ستعمل في البحر الأسود وتجري نوعاً من العمليات هناك لم يعد خبراً جديداً، فيما عزا ذلك إلى حقيقة أن البحر الأسود صار جزءاً مما يسمى منطقة العمليات للأسطول السادس الأميركي. وثمة ما يقترب من الإجماع حول أن تكرار المناورات وما يجري إعداده من مناورات في منطقة البحر الأسود على مقربة من حدود روسيا الاتحادية يحمل في طياته احتمالات التحول نحو الاستفزازات الخطيرة.
وبهذا الشأن قال المعلق السياسي دميتري سولونيكوف في تصريحاته إلى صحيفة "أزفيستيا" إن مثل هذه التحركات تستهدف روسيا بوصفها الخصم الوحيد لحلف الناتو والولايات المتحدة في المنطقة. وجاء ذلك على خلفية ما نشرته الصحيفة من أخبار تقول نقلاً عن وزارة الدفاع الروسية في مطلع الشهر الحالي "إن محطات الرادار الروسية رصدت 48 طائرة استطلاع أجنبية وعشر طائرات استطلاع من دون طيار بالقرب من حدود البلاد في غضون أسبوع. وأطلقت القوات المسلحة الروسية مقاتلاتها في الجو أربع مرات لمرافقة طائرات استطلاع أجنبية". ومن جانبه أعرب الخبير العسكري إيفان كونوفالوف، مدير التطوير في مؤسسة مساعدة تقنيات القرن الحادي والعشرين، في حديثه إلى صحيفة "أزفيستيا" "عن يقينه من أن دول حلف شمال الأطلسي تلتف حول حقيقة أن اتفاقية مونترو تحظر الوجود في حوض مياه البحر الأسود بالنسبة إلى السفن الحربية التابعة لقوات البلدان غير المطلة على البحر الأسود لأكثر من ثلاثة أسابيع، وهو ما يدفع إلى القيام بـ(تدوير) السفن في البحر الأسود خلال 21 يوماً. وذلك ما يفسر الوجود الدائم لهذه السفن الحربية التابعة لحلف الناتو والولايات المتحدة في حوض البحر الأسود، مما يخلق المشاكل لروسيا". وأضاف كونوفالوف "إنهم يزيدون فقط من درجة التوتر العام ولا يسهمون في استئناف نوع من عملية التفاوض، وإنما يعززون ويضاعفون المواجهة المتبادلة"، فضلاً عما يتسبب في استمرار الأعباء الملقاة على كاهل الجانب الروسي، المدعو إلى رفع درجة استعداده على الدوام لمواجهة مختلف الاحتمالات.
وكان الرئيس فلاديمير بوتين تناول هذه القضايا في حديثه الأخير إلى المشاركين في منتدى فالداي في سوتشي في معرض حديثه حول ما تعرضت له روسيا من "خداع" من جانب قيادات الناتو، التي سبق وحنثت بوعودها حول عدم توسيع البنية التحتية العسكرية للحلف في اتجاه الشرق لأبعد مما كانت عليه إبان سنوات وجود "الألمانيتين". وفيما استعرض ما قام به الناتو من "ابتلاع بلدان شرق أوروبا" بعد الإعلان عن حل حلف وارسو في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وما أعقبه من ضم بلدان البلطيق السوفياتية السابقة، توقف بوتين عند التهديدات التي تشكلها علاقات أوكرانيا مع حلف الناتو. وقال إنه "على الرغم من حقيقة أن كييف قد لا تصبح عضواً كامل العضوية في التحالف، فإن أراضي الدولة يتم تطويرها بالفعل من جانب التحالف العسكري". وأوضح أن الأمر قد لا يتطلب إنشاء قواعد عسكرية سواء في أوكرانيا أو جورجيا المجاورة، ومن الممكن أن يجري تعويض ذلك من خلال تحويل مراكز التدريب العسكرية إلى ما هو أقرب إلى القواعد ومخازن الأسلحة. وأكد بوتين أن موسكو وبكين، وعلى النقيض مما يفعله الناتو، لا تنشئان حلفاً عسكرياً، وليس لديهما مثل هذه الخطط، وبالتالي فإن مخاوف الدول الغربية لا أساس لها. وإذ أعرب بوتين عن استعداد موسكو للتواصل المباشر مع الناتو، قال إن بلاده لا تنوي إبلاغ أي شخص عن التدريبات التي تجري على أراضيها. ولفت الانتباه إلى حقيقة أن الجيش الأميركي وحلف شمال الأطلسي يجريان التدريبات والمناورات بشكل دوري، فضلاً عن أن ذلك يجري على مقربة مباشرة من الحدود الروسية.
ولعله لم يعد سراً اليوم أن حلف الناتو يواصل على مدى العام إجراء مناوراته وتدريباته في العديد من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق ومنها بلدان البلطيق وأوكرانيا. وتقول المصادر الروسية إن عدد هذه المناورات والتدريبات تضاعف خلال الأعوام الخمسة الماضية ليصل إلى ما يقرب من 90 مناورة في العام الواحد. كما تزايد عدد القوات المشاركة بشكل كبير، ليبلغ عدد الزيادة من 60 ألفاً إلى 110 آلاف جندي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن ذلك وحسب تقديرات العديد من الخبراء والمعلقين، لا يمكن أن يكون القول الفصل فيما يتعلق بموازين القوى في حال اندلاع مواجهة عسكرية في حوض البحر الأسود. وفي هذا الصدد نقل ميخائيل خودارينوك المعلق العسكري لصحيفة "جازيتا.رو" الإلكترونية عن مجلة "The National Interest" الأميركية افتراضاتها حول أن "موسكو تتمتع الآن بميزة مطلقة في البحر الأسود ويمكنها أن تدمر حتى حاملات الطائرات الأميركية بسرعة وسهولة في حال ظهورها في هذه المنطقة". وذلك في توقيت لما يجري نشره في الكثير من وسائل الإعلام الغربية حول وجود ثلاثة سيناريوهات مختلفة من المواجهة المسلحة "الافتراضية" بين موسكو والتحالفات الغربية. وتتعلق هذه السيناريوهات بالمناطق الثلاث وهي في الجنوب الروسي في منطقة شبه جزيرة القرم، وفي مقاطعة كالينينغراد على شواطئ البلطيق غرباً، وفي جزر كوريل المتنازع عليها في الشرق الأقصى بين روسيا واليابان، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بوصفها المناطق الافتراضية التي يمكن أن تشهد اندلاع الحرب. وبغض النظر عن مدى واقعية وموضوعية هذه السيناريوهات، فإن هناك ما يشير إلى أن الأبواب تظل مفتوحة أمام مختلف الاحتمالات. وذلك على وقع تقديرات الخبراء العسكريين حول أن القوات البحرية محكوم عليها بالهزيمة في معظم الأحيان إذا ما دخلت المعركة من دون حماية جوية، وهو ما أثبتته معارك الحرب العالمية الثانية. غير أن هناك من الخبراء والمعلقين من يقول إنه وعلى الرغم من أن قوات الفضاء الروسية وما تملكه روسيا من قوات حديثة وأنظمة للدفاع الجوي في شبه جزيرة القرم وفي المناطق المجاورة يمكن أن توفر لروسيا في الوقت الحالي مثل هذا التفوق الجوي في هذه المنطقة، فإن الأطراف الأخرى تملك وضعية مشابهة تساندها البلدان أعضاء الناتو المطلة على البحر الأسود وهي رومانيا وبلغاريا وتركيا، فضلاً عن احتمالات انضمام كل من أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو بموجب وعود الجنرال لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي لكل من البلدين خلال الأيام القليلة الماضية. وذلك ما استعرضت جوانبه مجلة "The National Interest"، التي نقلت عن البنتاغون إعلان أن "الطريق إلى الناتو مفتوح دائماً أمام كييف وتبليسي".
وكتبت المجلة تقول إن الولايات المتحدة نفسها "لطالما كانت قلقة بشأن أمن شريكي الناتو الرئيسيين على حدود البحر الأسود، رومانيا وبلغاريا، وكلتاهما عضو في الناتو، لديهما سواحل طويلة تجعل بوخارست وصوفيا عرضة لهجمات من الغواصات الروسية أو السفن السطحية". ومن هنا قد يقول قائل إن توسيع الحلف في هذه المنطقة يمكن أن يغير الوضع بشكل كبير لصالح الناتو، على سبيل المثال، مع قبول أوكرانيا في صفوف الناتو البحرية، وهو أمر ترد عليه المصادر الروسية بما يصدر عن الكرملين وممثلي المؤسسة الصناعية العسكرية الروسية من بيانات تقول إن ذلك كله محسوب حسابه، منذ أولى سنوات الولاية الثانية للرئيس بوتين الذي كان عقد العزم على تعويض ما فات روسيا في تسعينيات القرن الماضي من تحديث لترسانتها المسلحة، وهو ما أعلن عنه في أكثر من مناسبة منذ إعلان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن عن خروجه من معاهدة الأنظمة الصاروخية. وكان بوتين كشف أيضاً عما توصلت إليه موسكو من أسلحة حديثة وفرط صوتية في خطابه إلى الأمة في عام 2018، قال إن الدول الغربية لن تستطيع التوصل إلى مثل بعضها قبل عام 2925. وذلك ما قد يكون وراء اختيار العقيد متقاعد ميخائيل خودارينوك، المعلق العسكري لصحيفة "جازيتا.رو" الإلكترونية، عنوان مقاله التحليلي الذي نشره حول المناورات المرتقبة لـ"الناتو" في حوض البحر الأسود "قوات الناتو سوف يجري تدميرها في البحر الأسود في غضون ساعات"، وهو المقال الذي حرصت هيئة تحرير الصحيفة على تذييله بالتحذير المتعارف عليه حول "أن رأي الكاتب ليس بالقطع يتفق مع رؤية هيئة التحرير".
ومع ذلك فقد كشف الجانب الروسي عن أنه حسم أمره صوب قبول التحدي والاستعداد للدخول في المواجهة الحتمية ضد خصومه من الناتو والولايات المتحدة. وذلك ما كشف عنه سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في تصريحاته التي أدلى بها على هامش أعمال قمة العشرين في روما. وبهذا الصدد قال لافروف "إن علم البحرية الأميركية رفرف غير مرة في البحر الأسود"، معيداً إلى الأذهان ما صدر عن الولايات المتحدة من تصريحات كانت تبرر فيها دخول سفنها الحربية إلى البحر الأسود بمهام "ردع روسيا ومنع ظهور مخاطر من قبلها على حلفاء أميركا" في المنطقة. وإذ أشار لافروف إلى خطط إنشاء قواعد أميركية بحرية جديدة في رومانيا وبلغاريا، التي قال إنها لا تتوافق حسب اعتقاده مع مصالح حسن الجوار في منطقة البحر الأسود، أعلن عن تحذيراته من مغبة مثل هذا السلوك الذي قال إنه "لا يسهم في تعزيز الاستقرار الدولي". وحمل وزير الخارجية الروسي الولايات المتحدة مسؤولية محاولات "دفع الدول الساحلية المنتمية إلى حلف الناتو في حوض البحر الأسود إلى انتهاج سياسات صدامية إلى حد كبير". وأكد أن بلاده على استعداد لمواجهة أي أخطار، وليس لديها أي مشاكل فيما يخص ضمان أمن الأراضي الروسية والأمن في البحر الأسود بشكل فعال، "غير أننا نؤيد دائماً تمرير مشاريع مبنية على مبدأ التعاون وليس على مبدأ المواجهة". وذلك كله يقول إن الأوضاع في المنطقة تظل بعيدة عن الاستقرار، بل وهناك من المؤشرات التي تقول إنها تتحول شيئاً فشيئاً إلى المزيد من التوتر الذي قد تزيد القيادة الأوكرانية بتحركاتها الأخيرة، من حدته وسخونته، بدعم واضح من الولايات المتحدة وعدد من الدوائر الغربية.