Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاضطرابات الأمنية المتكررة في محافظة ديالى قد تنذر بتغيير ديموغرافي

المقدادية "شهربان" مدينة البرتقال بين مرمى الجماعات الإرهابية والميليشيات

جانب من تشييع ضحايا الهجوم على قرية الرشاد في محافظة ديالى (أ ف ب)

لم يكُن تنوع القوميات والمذاهب في ديالى نقمةً في يوم، فتلك المحافظة كانت تتسع للجميع على اختلاف مشاربهم، فسلة "غذاء العراق" كما يطلق عليها البعض بسبب غنى بساتينها بالحمضيات وأشجار النخيل، تصدّعت أمنياً واجتماعياً تحت سطوة السلاح المنفلت للميليشيات وخطابات التحريض الطائفي.
وتقع محافظة ديالى في القسم الشرقي من وسط العراق وهي من المحافظات التي لها حدود دولية، تحديداً مع إيران من الشرق، بينما تحدها من الشمال محافظة السليمانية وجزء من محافظة صلاح الدين، ومن الغرب محافظتا بغداد وصلاح الدين، ومن الجنوب محافظة واسط. وتبلغ مساحة ديالى 17774 كيلومتراً مربعاً، وهي تشكل نسبة 4.1 في المئة من مساحة العراق البالغة 434128 كيلومتراً مربعاً. كما أن ديالى ذات شكل طولي يمتد إلى أكثر من 200 كيلومتر، وتشتهر بالزراعة وبالأخص زراعة الحمضيات، لا سيما البرتقال.
وبقيت ديالى تدفع ثمناً باهظاً مقابل تنوعها العرقي – الطائفي (عرب وأكراد وشيعة وسنة)، إذ تنازعت على "العراق المصغّر" وهي التسمية التي تُطلق على ديالى، التوجهات السياسية السائدة في البلاد منذ ما بعد عام 2003، فنظام المحاصصة الذي كرسته العملية السياسية ناجم من تنامي الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، فتفاقمت الأوضاع الأمنية للمحافظات المتنوعة قومياً أو طائفياً كما هي الحال في ديالى. فعلى سبيل المثال، يصرّ الأكراد على تبعية بعض أقضية ديالى مثل خانقين وجلولاء لإقليم كردستان، نظراً إلى وجود غالبية كردية فيها.

بين "داعش" والميليشيات

احتُلّت ديالى من قبل "داعش" عام 2014 وطُرد التنظيم منها عام 2015. وما إن تمّت استعادة المحافظة منه، حتى بدأت الميليشيات بعملية التهجير القسري والتغيير الديموغرافي ومنع عودة النازحين إلى قراهم. البعض يرى أن ديالى هي المنطقة الواصلة بين إيران وسوريا عبر محافظة صلاح الدين، فمن الطبيعي أن تسعى طهران وعبر الميليشيات المرتبطة بها إلى تأسيس منطقة آمنة فيها، على اعتبار أن لها حدوداً مع إيران وتُعدّ النقطة الأقرب إلى العاصمة بغداد ومحافظة صلاح الدين. كما ترغب طهران من خلال الهيمنة عليها بأن تخلق مناطق فراغ جديدة على شاكلة منطقة جرف الصخر.

انتهاكات مستمرة

تكررت المأسي التي عاشتها ديالى في الأعوام الأخيرة، فأي خرق أمني تتبعه حملات انتقامية من قبل الميليشيات ضد قراها ومساجدها، والإحصاءات تؤرخ لحوادث مأساوية شهدتها، يصعب علينا حصرها. في بعقوبة مركز المحافظة، تعرض جامع سارية في 17  مايو (أيار) 2013، لهجوم مسلح أدى إلى مقتل 65 شخصاً، كما تعرض جامع أبي بكر الصديق في ناحية الوجيهية التابعة لقضاء المقدادية لاعتداء في العام ذاته، أسفر عن مقتل 36 شخصاً. أما التفجير بواسطة عبوتين وُضعتا في أجهزة التبريد داخل جامع أبي القاسم محمد في منطقة أم العظام في بعقوبة، فراح ضحيته 42 قتيلاً.

 وفي ناحية بهرز التابعة لقضاء بعقوبة، هُدمت أربعة مساجد في 23 مارس (آذار) 2014 وراح ضحية تلك الهجمات أكثر من 30 قتيلاً. كما تعرّض جامع مصعب بن عمير في منطقة حمرين التابعة لناحية السعدية في قضاء خانقين لهجوم في 22 أغسطس (آب) 2014، سقط ضحيته 34 شخصاً. وفي 9 مايو، تعرّض سجن الخالص في مركز قضاء الخالص، لهجوم من قبل الميليشيات أدى إلى مقتل 35 معتقلاً فيه. أما الاعتداءات على مساجد وقرى قضاء المقدادية التي وقعت في 16 يناير (كانون الثاني) 2016، فراح ضحيتها 15 قتيلاً وفُجّرت تسعة مساجد.

حادثة المقدادية

يتردد اسم قضاء المقدادية في معظم العمليات الأمنية التي تشهدها ديالى، اسمه الأصلي الذي كان يُعرف به هو "شهربان"، وهو ثاني أكبر قضاء في المحافظة بعد مركزها، مدينة بعقوبة. سُمّيت المقدادية بهذا الاسم نسبةً إلى العالم الصوفي المقداد بن محمد الرفاعي، وهي تقع على مسافة 40 كيلومتراً شمال شرقي بعقوبة، ونحو 90 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من مدينة بغداد. تمتد المقدادية على أرض زراعية خصبة تزيد مساحتها على 200 ألف دونم وتشتهر بالبساتين، بخاصة النخيل والرمان والبرتقال. ويخترقها نهر وهو أحد روافد نهر ديالى ويُسمّى بنهر المقدادية. يتنوع النسيج الاجتماعي لسكانها البالغ عددهم 280 ألف نسمة من العرب والأكراد إلى جانب التركمان.
في 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تعرّضت قريتا الرشاد ونهر الإمام في القضاء لهجمات مسلحة. الرواية المتداولة ذكرت أن "داعش" هاجم الأولى لتقوم بعدها الميليشيات بالانتقام والاعتداء على القرية الثانية بحجة أن عناصر التنظيم انطلقوا من نهر الإمام. الهجوم الأول على قرية الرشاد خلّف 14 قتيلاً وأكثر من 15 جريحاً. أما "ردّ" الميليشيات على قرية نهر الإمام، فأسفر عن مقتل 12 شخصاً 12 بينهم امرأتان، كما أُحرق المستوصف الصحي الوحيد في القرية ومسجدها وطالت حوادث الانتقام حرق منازل عدة وتجريف بعض البساتين ونزوح أكثر من 300 عائلة إلى مناطق أكثر أمناً.

الحكمة السياسية أو الحكمة العسكرية

ويرى الناطق الرسمي السابق باسم مكتب القائد العام ووزارة الدفاع العراقية ضياء الوكيل أن الخروقات الأخيرة في قضاء المقدادية بيّنت أن الوضع الأمني في بعض مناطق محافظة ديالى "هشّ ومقلق ومعقّد" وقابل للاختراق الإرهابي والاستدراج نحو العنف الطائفي، وأن القوة الماسكة لقاطع المسؤولية ومسرح الأحداث "فشلت في إحباط الهجوم الإرهابي الأول الذي استهدف ناحية الرشاد وتسبب باستشهاد وإصابة عدد من المدنيين الأبرياء، وأخفقت في اتخاذ التدابير الاحترازية لمنع الهجوم الارتدادي الذي استهدف قرية نهر الإمام والقرى المجاورة وتسبب بسقوط عدد آخر من الشهداء ونزوح مئات العائلات".
وقال الوكيل "إذا كان الهجوم الأول مباغتاً ومدبّراً، فإن الهجوم الثاني كان متوقعاً ومحتملاً، وكلاهما وجد الطريق سالكاً نحو كسر الجدار الأمني". ويتساءل  "ألم يكُن الوقت كافياً ما بين الهجومين لرفع درجة الاستعداد والجاهزية الأمنية لتطويق التداعيات المحتملة للحادثة الإرهابية، ومنع تدهور الأوضاع نحو هاوية العنف والفتنة؟".
سؤال ربما تفكك إجابته جزءًا من الغموض الذي يلف الأحداث، فالإجابة توضحها علوم الاستراتيجية الحديثة ونصّها أن "الحكمة هي سياسية أو عسكرية، فإذا غابت الحكمة السياسية، فإن القوة العسكرية لا تستطيع أن تنتج تأثيراً استراتيجياً يساوي وزنها العسكري".

"داعش" والإرهاب ورقة استخباراتية

يستبعد الوكيل وجود "خلايا نائمة"، لكنه يعتبر أنها "خلايا كامنة" تنشط عندما تجد "زوايا ميتة ومناطق رخوة في الجدار الأمني، وداعش والإرهاب أصبحا ورقة استخباراتية ترتبط بأجندات دولية وإقليمية، والعراق على خط التماس في الصراعات المحتدمة في المنطقة".
ودعا إلى "ضرورة الانتباه والحذر لإسقاط هذا الاحتمال أو مواجهة العواقب وهي خطيرة، فهناك من يستثمر في هذه الورقة، ويدفع البلد نحو مربع دموي غادره العراق منذ أعوام طويلة، وهذا يحمّله ما لا يطيق، وربما يتجاوز قدرته على الاحتواء والاحتمال".
واعتبر أن "الغموض والتعتيم والتعاطي الإعلامي والسياسي المرتبك مع الأحداث أثارت علامات استفهام وأسئلة مشروعة ومنها، كيف استطاع الإرهابيون التسلل إلى المنطقة المغلقة، وتنفيذ الجريمة، والفرار من دون اعتقال أي واحد منهم؟".

لا يمكن أن تكون مثل جرف الصخر

وأوضح الوكيل أنه "لا يمكن النظر إلى ما يجري في العراق بمعزل عن التوترات والصراعات في المنطقة، وذلك لا ينفي أن الداخل العراقي يعاني من أزمات سياسية وتحديات خطيرة، ما زالت تلقي بظلالها القاتمة على مجمل الوضع الراهن". وتوقع أن "يشهد المسرح الاستراتيجي في البلاد خلال المرحلة المقبلة تفجير تناقضات وأحداث وألغام وعلى دفعات، فالمطلوب ضمن قواعد اللعبة الحالية أن يبقى العراق متوتراً ومتصدعاً ومضطرباً". كما يستبعد الوكيل تشبيه ديالى بمناطق أخرى مثل جرف الصخر، موضحاً أن لكل منطقة خصوصيتها وتركيبتها وظروفها الاجتماعية والتاريخية.
وختم "المؤسسات الحكومية والوزارات المعنية تبذل جهوداً كبيرة لتطويق الأحداث وضبط إيقاعها والحيلولة دون تدهورها وانفلاتها نحو هاوية العنف والفوضى والفتنة، فإذا استطاع الجهد الرسمي أن يمضي بنفس الزخم والاندفاع لمعالجة تداعيات الأزمة والجراح الملتهبة والتصدعات الاجتماعية والطائفية العميقة، بالتعاون مع الأهالي، فإننا سنرى انفراجاً في الموقف ولكنه وبكل تأكيد سيكون بطيئاً وحذراً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


التخادم بين الميليشيات و"داعش"

وأوضح أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر أن "الجماعات الإرهابية تعمل كثيراً على ردود الأفعال، فهي تستغل الجيوب والخاصرات الرخوة في المناطق المتنوعة طائفياً والقائمة في الأساس على  التوزان الهش بسبب غياب الإجراءات الأمنية والمعلومات الاستخباراتية التي تحدّ من نشاطات الجماعات الإرهابية". ويرى أن "الجماعات الإرهابية تعتمد على الاستراتيجية القديمة التي تتمثل في شن هجمات مسلحة، تتبعها ردود أفعال من الميليشيات تستهدف الأبرياء في القرى الآمنة، ومن ثم تحاول هذه الميليشيات أن تقدم نفسها على أنها القادرة على حماية السكان أمنياً بدلاً من الحكومة التي أخفقت في حمايتهم. وهذه استراتيجية كانت ناشطة بعد عام 2006 ومن نتائجها ظهور تنظيم داعش".

غياب الإجراءات الحكومية

 وتابع إياد العنبر أن "ضعف الإجراءات الحكومية لمواجهة تداعيات أحداث المقدادية تمثّلت في غياب موقف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي كان له سابقاً حضور واضح في أحداث الطارمية، وأوقف حضوره تداعيات عدة، علماً أن الطارمية ليست بخطورة ديالى". وعزا سبب غياب الكاظمي عن أحداث المقدادية لرغبته بالنأي عن مجابهة الميليشيات. وقال إنه "لا يريد أن يتصادم مع الفصائل التي لديها حضور سياسي كي لا تستخدم الفيتو ضده في حال ترشحه لولاية ثانية، لذلك تجنّب الحضور في هذا المشهد على الرغم من أن تداعياته أخذت منحى خطيراً جداً".
ولفت العنبر إلى أن "الاستثمار السياسي في الأزمات الطائفية يجعل التداخل بين المشهد السياسي والأمني خطيراً جداً"، وعلى الرغم من ذلك قال إن "هناك عدم اكتراث لعودة الخطاب الطائفي بسبب الرفض التام من قبل الجمهور لهذا التوجه، فغالبية المواطنين يعارضون أي تصعيد أمني طائفي من قبل الميليشيات".

التعايش السلمي

وأوضح المتخصص في علم النفس السياسي والاجتماعي حيدر الجوراني أن "محافظة ديالى لا تختلف من حيث التركيبة الاجتماعية التي يتميز بها العراق من حيث التنوع، إلا أن كثافة التنوع في مجتمع ديالى هو ما يميزها. وتتضح هذه الكثافة في تنوع وتداخل الهويات الثانوية التي تكمن خلف الهوية الوطنية العراقية لأهالي ديالى. فقد يتداخل التنوع العرقي ضمن الطائفة الواحدة والعكس صحيح، بل أحياناً حتى بين الأسرة أو العشيرة الواحدة".

وقال الجوراني إن "أحداث المقدادية الأخيرة ربما تفتح الباب لتجارب سابقة من الاحتقان الطائفي الذي عاشته المحافظة عامَي 2005 و2006، إذا ما حدث تحفيز لها"، لكنه لفت إلى أن "المجتمع في ديالى غير راغب بعودة أعوام الاحتقان الطائفي"، لكنه تخوّف في الوقت ذاته من انعاكس المشهد السياسي على الأوضاع الأمنية بشكل "ربما يعمّق الخلافات ويعيق المصالح السياسية وإمكانية الحفاظ على التعايش السلمي، إذا استمر الفشل في إدارة الملف الأمني والإفلات من العقاب". وأردف "لا يمكن أن تكون هناك مناطق معزولة إلا إذا كانت هناك أجندات سياسية تحت غطاء الوصمة الاجتماعية لمنطقة أو عشيرة معينة ووصمها بالدعشنة وهذا بالتأكيد غير منصف".

نتيجة الهجمات عوائل نازحة

وأشار مرصد "أفاد" الإعلامي المعني بالقضايا الحقوقية وتسليط الضوء على الانتهاكات ضد الإنسانية في العراق، إلى الخروقات التي تعرّضت لها قرية نهر الإمام من قبل الميليشيات، إذ تروي سيدة كيف هجمت عناصرها على دارها وأحرقتها وقتلت زوجها المسن. أما الشهادة الأخرى التي نشرها المرصد، فكانت لسيدة مسنّة من القرية، قالت إن الميليشيات اعتدت بالضرب عليها وعلى بناتها، مؤكدة خسارتها لممتلكاتها وأموالها ومواشيها.
ونزحت العائلات التي تعرّضت لهجوم الميليشيات من قرى نهر الإمام والميثاق الأولى والثانية والعامرية والرشاد إلى مناطق أكثر أمناً بعد خسارتهم منازلهم وممتلكاتهم ومنهم من فقد حياته إثر هذه الأحداث.
وأوضح المتحدث باسم وزارة الهجرة والمهجرين علي عباس لـ"اندبندنت عربية" أن الوزارة شكلت فرقاً لاستقبال الأُسر في أطراف هذه القرى ونقلهم إلى مناطق آمنة.
وأشار إلى أن غالبية العائلات قصدت مركز مدينة بعقوبة ورصدت الفرق الجوالة التابعة لوزارة الهجرة نزوح أكثر من 300 أسرة، انتقل أفراد معظمها إلى منازل أقارب لهم، فيما تم استئجار سكن لحوالى 41 عائلة لفترة شهر كمرحلة أولى.

وأشار عباس إلى صرف مبلغ مليون دينار عراقي (684.93 دولار أميركي) للنازحين، فضلاً عن مساعدات إغاثية تم تأمينها في الساعات الأولى. كما قدّم متبرعون ومنظمات مساعدات إغاثية عاجلة. وأضاف أن "الوزارة تسعى مع الوقف السني إلى تأهيل المؤسسات التي تعرّضت لهجوم، بينها المدرسة والمستوصف تمهيداً لعودة الحياة بعد تحصين المنطقة أمنياً وضمان عودة آمنة للأُسر".
لا تلبث الأحداث الأمنية في ديالى أن تستقر إلا وتعود إلى التصعيد والاضطراب وتُزهق أرواح سكانها وهناك من يستثمر هذا الواقع المرير بهدف تحقيق مكاسب سياسية على حساب دماء الضحايا.

المزيد من تحقيقات ومطولات