Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روح الصحراء... كيف نجت المها العربية من انقراض وشيك

أُدرجت في قائمة الأنواع الحية المنقرضة في البرية، ولكن الآن تتكاثر قطعان منها في مختلف أنحاء السعودية. أحمد البوق من "المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية" يتحدث عما يحمله قادم الأيام لقصة نجاح استثنائي في مجال حفظ الحيوانات

حيوانات من المها العربي داخل "المركز الوطني لبحوث الحياة الفطرية" في الطائف بالسعودية (اندبندنت)

إذ يبرز من رأسها زوج من قرون مستدقة موسومة بحلقات تمتد إلى الأعلى كسيفين طويلين معقوفي النصل، وقد غطى جسدها معطف لامع شديد البياض بلون الحليب، تجسد المها العربية رمزاً لا تخطئه عين من رموز الحياة البرية في الشرق الأوسط.

"جمال عينيها وحده كان كافياً لإلهام شعراء العالم العربي"، كتب علماء من "المركز الوطني لبحوث الحياة الفطرية" National Wildlife Research Centre (اختصاراً NWRC) في المملكة العربية السعودية في ورقة بحثية نُشرت عام 1998 في مجلة "أوريكس" Oryx (المها) - ما يبدو ملائماً تماماً - التي تصدر عن "الهيئة الدولية لحفظ الحيوانات والنبات"، وكان ذلك احتفاء بمرور عقد من العمل في سبيل الحفاظ على الطبيعة وحماية أنواعها الحية.

ولكن "لسوء الحظ"، على ما تابع الباحثون، "لم يكتب لهذا الجمال البقاء، وعبر مئات السنين تعرضت المها العربية للمطاردة والصيد في معاقلها الأكثر بعداً في الصحراء."

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المها العربية التي كانت سابقاً تجوب مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية، كانت مساحة انتشارها قد تراجعت بشدة أصلاً بحلول عام 1800، فيما تفاقم جور الإنسان عليها خلال القرنين الـ 19 والـ 20.

الرحالة والكاتب البريطاني ويلفريد ثيسيغر، المعروف بحبه لشبه الجزيرة العربية، أصدر عام 1948 كتاباً يروي رحلاته بعنوان "عبر صحراء الربع الخالي"Across the Empty Quarter ، ذكر فيه كيف أن الثراء الحديث آنذاك في شبه الجزيرة العربية أتاح لأعداد أكبر من الصيادين مطاردة حيوانات المها في مركبات آلية، فقد سمح لهم شق طرقات جديدة بالوصول على حين غرة إلى مناطق ما وراء الحدود كان يتعذر بلوغها في الماضي، حتى 1972 عند رصد آخر حيوانات المها العربية متبقية في البرية وتسجيلها باعتبارها تعيش في عُمان، ثم قتلها بعد ذلك بأسابيع قليلة.

رعي الماشية الجائر لموائلها الصحراوية الطبيعية، واحتفاظ البعض بها ضمن مجموعاتهم الخاصة، كانا العاملين الأقل إسهاماً في أفول المها العربية، غير أن العامل الأخير كان أيضاً طوق نجاة بالنسبة إلى هذه الحيوانات، على ما يشير أحمد البوق، المدير العام للدراسات الأرضية في "المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية" National Centre for Wildlife  في السعودية.

"أخذ تلك الحيوانات من البرية والاحتفاظ بها ربما اعتبر مشكلة في البداية، بيد أنه في نهاية المطاف أنقذ هذا النوع من الانقراض"، يقول البوق.

العودة من الانقراض

اليوم يُقدر تعداد المها العربية التي تندرج ضمن أنواع أربعة يضمها جنس المها، علماً أن الأنواع الثلاثة الأخرى موجودة فقط في إفريقيا، بنحو 1200 مها تعيش في البرية في المملكة العربية السعودية، علاوة على ستة إلى سبعة آلاف مها تعيش في الأسر (في حدائق الحيوان والمحميات والمجموعات الخاصة).

 

تعتبر المها العربية الحيوان الأول الذي أرتأى "الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة" (IUCN)، السلطة العالمية المعنية بصون الأنواع المهددة، إخراجه من قائمة الأنواع الحية المنقرضة في البرية وضمه إلى قائمة الأنواع المهددة بالانقراض.

ولكن كيف تحقق ذلك؟

في الحقيقة لم يكن الحؤول من دون اندثار المها العربية بالمهمة اليسيرة. مع اختفاء أعدادها في البرية، كان تكاثرها داخل الأسر السبيل الوحيد الممكن لإنقاذها. في السعودية، بدأت عملية إكثارها عام 1986 عندما نُقل نحو 50 حيواناً من المها العربية المحتجزة في "مركز الملك خالد لأبحاث الحياة الفطرية" إلى "مركز الأمير سعود الفيصل لأبحاث الحياة الفطرية"، المرفق المخصص لهذا الغرض في محافظة الطائف جنوب غربي المملكة العربية السعودية.

آنذاك، لم تكن أعداد المها العربية تزيد على بضع مئات على أقصى تقدير، وكان هذا النوع على حافة الهاوية. وبغية تعزيز التنوع الجيني للحيوانات المتبقية استقدمت أيضاً أعداد من المها من مجموعات خاصة أخرى وحدائق حيوان في الأردن وقطر والولايات المتحدة الأميركية.

وازداد التحدي صعوبة إذ اكتشف مديرو الحياة البرية فوراً مشكلة كانت لتتسبب بكارثة للبرنامج الحديث العهد، فقد كانت أعداد كثيرة من تلك الحيوانات مصابة بالسل (اختصاراً TB).

 

معلوم أن الطريقة المتبعة عادة عند مواجهة مشكلة من هذا النوع قتل الحيوانات المصابة، ولكن نظراً إلى أن هذا "النوع من الحيوانات كان مهدداً بالانقراض آنذاك، فإننا لم نتمكن من اللجوء إلى ذلك الحل"، كما يقول الدوق مضيفاً، "استدعينا خبراء بيطريين من خارج البلد، وضعوا بروتوكولاً صحياً للتخلص من السل، عزلوا بموجبه الحيوانات في حظائر وحملوها على تناول الدواء اللازم عبر إضافته إلى المياه المخصصة لها".

لم يغفل الخبراء أي تفصيل، إذ أُخذت العجول المولودة لإناث مصابة بالمرض لتربيتها بعيداً من أمهاتها، ذلك أن السل ينتقل إلى الصغار عبر حليب الأم.

وهكذا أنتج النهج الصارم الذي يهتدي بالعلم أبناء معافين تماماً من هذا الداء، وكانت تلك الحيوانات التي سميت بـ "الجيل" ضرورية لتنفيذ الاستراتيجية الطويلة المدى، ألا وهي إعادة توطين المها العربية في البرية.

كانت إعادة توطين المها العربية عام 1989 في "محمية محازة الصيد"Mahazat as-Sayd في وسط المملكة العربية السعودية لحظة بالغة الأهمية. "حضرت حفل إطلاق" الحيوانات، يقول البوق بسرور باد على وجهه، موضحاً أنه كان "واحداً من الجنود السريين في هذه القصة المكللة بالنجاح من حفظ" الأنواع الحية.

في ذلك الوقت كان قد انضم حديثاً إلى "المركز الوطني لبحوث الحياة الفطرية"، ولاحقاً اضطلع بدور بالغ الأهمية في البرنامج المستمر للتربية في الأسر الذي ما زال يكتسي أهمية حيوية.

سبق أن اتخذ القرار بإحاطة 2553 كيلومتراً مربعاً كاملة، منطقة بحجم مقاطعة دورست في جنوب غربي إنجلترا، من "محمية محازة"Mahazat reserve  بسياج يبلغ طوله 240 كيلومتراً. وقد اعتبر هذا الإجراء ضرورياً لإبعاد الماشية والصيادين عن الرقعة في مقابل إبقاء الأنواع البرية فيها.

كذلك شهدت إطلاق حيوانات محلية أخرى فيها من بينها الغزلان العربية والنعام الحمراء العنق [النعام ذو الرقبة الحمراء] وطيور الحبارى.

وفق "الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة" يقدر عدد الحيوانات التي تعيش في "محمية محازة" اليوم بـ 500 حيوان تقريباً، مما يجعلها المجموعة البرية الوحيدة الأكبر مقارنة مع أي مكان في شبه الجزيرة العربية.

أما الهدف التالي فتمثل في إعادة توطين المها العربية في جنوب المملكة العربية السعودية.

اتخذ المديرون المعنيون بحفظ الحياة البرية قراراً بشأن إنشاء "محمية عروق بني معارض للحياة البرية" Uruq Bani Ma’arid Wildlife Sanctuary التي تمتد على مساحة ضخمة تبلغ 12 ألف كيلومتر مربع، عند الحافة الغربية للربع الخالي، المنطقة الصحراوية الشاسعة حيث شاهد الرحالة ثيسيغر أعداد المها العربية تنوء تحت عبء الصيد الجائر في أربعينيات القرن الـ 20.

بدأ إدخال المها إلى هذه المحمية في منتصف التسعينيات وهي تحتضن الآن نحو 100 حيوان منها، لذا تشكل مجموعة كبيرة أخرى (إلى جانب مجموعة "محمية محازة") من المها، والمجموعة الأكبر فعلاً في العالم التي تعيش طليقة وفق نظام النطاق الحر.

أيقونة الجزيرة العربية

عبر العمل الذي نهض به "المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية" طوال السنوات الـ 35 الماضية، اكتشف العلماء كثيراً من التكوين البيولوجي للمها العربية الذي كان قبل ذلك مجهولاً، أو غير واضح.

تتغذى المها العربية بشكل أساس على الحشائش، لكنها تأكل أيضاً جذور أشجار الأكاسيا ودرناتها وبراعمها وأوراقها. أما حاجاتها من الماء فيحددها الغذاء الذي تستهلكه، وبفضل عمليات التكيف الفيزيولوجية التي تسمح لها بالتحكم بشدة بدرجة حرارة أجسادها، في وسعها أن تخفض كمية الماء التي تفقدها إلى أدنى حد ممكن. في سن الثانية تقريباً تبدأ الإناث منها في الإنجاب، ويبلغ معدل عمرها الطبيعي في البرية نحو 12 عاماً، وفق التقديرات.

في الظروف العادية تعيش المها العربية ضمن قطعان يضم الواحد منها بين 12 و18 رأساً تقريباً، ولكن في الوديان الخصبة ذات الأشجار والغطاء النباتي الجيد يمكن أن يصل عددها إلى 60 حيواناً. في كل قطيع ذكر واحد مهيمن، وعدد قليل من الذكور شبه البالغة غير القادرة على التكاثر بعد، وبقية الحيوانات من الإناث.

أحياناً ستترك الحيوانات المهيمنة (الذكور) القطيع عندما تلد أنثى، وحالما تعود عليها أن تقاتل من أجل استعادة هيمنتها من أي ذكور أخرى استولت على مكانتها.

وفق البوق، "في العادة يفوز الذكر الجديد. يُطرد الذكر الأول السابق من القطيع ويصبح وحيداً. اللافت أن الشعر العربي القديم قد وثق هذا السلوك، ففي أي وقت يُطرد فيه الرجل من قبيلته كان يقارن نفسه بذكر من حيوانات المها العربية خسر حريمه".

جهود حفظ مستمرة

عام 2021 وبعد مضي 35 عاماً تماماً على إنشائه، وضع "المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية" استراتيجية جديدة ترمي إلى جعل عودة المها العربية كنوع بري، سواء داخل السعودية نفسها أو في أماكن أخرى كانت هذه الحيوانات تجوبها سابقاً، اتجاهاً لا رجعة فيه.

كان هدفها الأول إعادة مجموعات المها العربية التي في مقدورها أن تحافظ على وجودها بنفسها من دون تدخل من أحد إلى الجزء الشمالي من السعودية، في "محمية شرعان الطبيعية" Sharaan Nature Reserve. عُين هذا الجزء من العلا، ذات الطبيعة الصحراوية التي تحتضن جبالاً أخاذة من الحجر الرملي في شمال غرب المملكة العربية السعودية، باعتباره موقعاً محتملاً لإعادة توطين الفهود العربية Arabian leopards، التي يتهددها أيضاً خطر الانقراض.

 

سبق أن شهدت محمية شرعان بضع عمليات إطلاق لأعداد من المها العربية، ولكن لا بد من تنفيذ مزيد منها خلال العقد المقبل، وفي محميات أخرى في المنطقة الشمالية من السعودية. "تهدف الخطة إلى إنجاز عمليات إطلاق في 15 موقعاً مختلفاً سنوياً"، على ما يقول البوق. كذلك سيتضمن المشروع ممرات آمنة تربط بين المناطق المحمية بغية السماح بما يسمى تدفق أو انسياب الجينات (يعرف أيضاً بهجرة المورثات) بين المجموعات المختلفة، مما يعزز الأمن الطويل الأجل بالنسبة إلى المها العربية.

الحال أن مجهوداً عظيماً يبذل في سبيل التأكد مما إذا كان الموئل في منطقة معينة مناسباً لإعادة توطين المها، ومعرفة عدد الحيوانات التي يمكنه احتضانها، وما إذا كانت ستحظى بالحماية الكافية. "القدرة الاستيعابية [العدد الأقصى من الحيوانات التي في مقدور محمية معينة أن تضمه بشكل دائم] واحدة من أهم المسائل، ولكن في الصحاري، ليس احتساب ذلك عملية سهلة"، كما يقول البوق.

تبقى تفاصيل كثيرة رهناً بالتطورات في مواسم الأمطار، إذ لن تتكاثر المها إلا بوجود موسم أمطار جيد، ذلك أن بهذه الطريقة فحسب تتأكد الإناث من قدرتها على الاهتمام بصغارها، ولكن ذلك يختلف بشكل كبير بمرور الوقت ولا يمكن التنبؤ به. يقول البوق إنه "بشكل عام، تكون الحيوانات التي تسكن الصحراء من قبيل المها العربية انتهازية، إذ تنتقل من منطقة إلى أخرى بحثاً عن الطعام، ولهذا تحظى بموائل ذات مساحات ضخمة، تصل حتى 2000 كيلومتر مربع."

لكن إعادة توطين المها العربية يتعدى كونه عملية إنقاذ نوع حي من الانقراض. في الحقيقة، "من منظور ثقافي تعتبر المها العربية روح الصحراء. إذا تأملنا قدرة هذه الحيوانات الصحراوية وغيرها على البقاء على قيد الحياة في البيئة القاسية للصحراء، نستقي منها دروساً عدة"، كما يشرح البوق.

في نهاية المطاف، يريد أحمد البوق وزملاؤه إنشاء محميات عابرة للحدود مع بلاد مجاورة للسعودية، الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان واليمن، كي تعود المها مجدداً سمة راسخة حقاً في شبه الجزيرة العربية. وكما يقول المدير العام للدراسات الأرضية في "المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، "عندما تطلق سراح الحيوانات سيتعذر عليك أن تتحكم في المكان الذي تقصده، وسوف تراها ترتحل إلى حيث تجد موئلاً جيداً لها".

"مبادرة السعودية الخضراء"Saudi Green Initiative  نهج حكومي شامل في المملكة العربية السعودية لمكافحة تغير المناخ.

© The Independent

المزيد من بيئة