لا يفوت الرئيس التونسي قيس سعيد، مناسبة من دون أن يدعو فيها القضاء إلى تحمل كامل مسؤولياته في محاسبة المتورطين في نهب المال العام، أو تجاوز القانون، مهما كان موقعهم، مشدداً على ألا معنى لأحكام تصدر بعد عقود من دون أثر قانوني.
وتطرق سعيد إلى مشروع مرسوم متعلق باختصار مهل البت في تقارير دائرة المحاسبات المتعلقة بالانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2019. وأذن لوزيرة العدل في 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بإعداد مشروع يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، وذلك لدى إشرافه على أعمال مجلس الوزراء بقصر قرطاج الرئاسي.
تمسك باستقلالية القضاء
وأثار هذا الإعلان جدلاً في الأوساط القضائية والحقوقية في تونس، بين مَن يعتبر ذلك تدخلاً صارخاً من السلطة التنفيذية في سير المؤسسة القضائية، وبين مَن يرى أن جزءاً من الجهاز القضائي نخره الفساد، وعليه لا بد من التعجيل بتنقيته من الفاسدين.
وأصدر المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين، بياناً شدد فيه على تمسكه بـ"استقلال السلطة القضائية بأصنافها، العدلي والإداري والمالي، وبهياكلها من هيئات ونيابة عمومية، طبق الضمانات والمكتسبات الدستورية الواردة بالباب الخامس من الدستور". وأكد البيان أيضاً "التمسك بالمكسب الديمقراطي للمجلس الأعلى للقضاء، كمؤسسة مستقلة لنظام الفصل بين السلطات والتوازن في ما بينها، بما يضمن حسن سير القضاء واستقلاله، ويسهر على حماية الهيئات القضائية من الوقوع تحت أي ضغوط أو تدخل في المسارات المهنية للقضاة، أو يضعف ويقوض دورهم في مسؤولية حراسة الحقوق والحريات ودولة القانون، بالنزاهة والاستقلالية المستوجبة".
وشدد بيان جمعية القضاة على أن "مسار الإصلاح القضائي هو مشروع ممتد في الزمن، ولا يمكن أن يتحقق بإلغاء المكتسبات الدستورية لاستقلال القضاء، بل بالبناء عليها واستكمال نواقصها، وتقويم ما اعتراها من أوجه الخلل".
توجه أحادي
وأعرب الرئيس الشرفي لـ"اتحاد القضاة الإداريين" وليد الهلالي عن "الاستغراب من تكليف رئيس الجمهورية قيس سعيد وزيرة العدل بإعداد مشروع يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء". وعبر الهلالي، في تصريح صحافي، أدلى به على هامش ملتقى نظمه الاتحاد، عن "رفض القضاة الإداريين هذا التوجه الأحادي الجانب من رئيس الجمهورية"، معتبراً أنه "إقصاء وخطوة إلى الوراء في مسار إشراك المجلس الأعلى للقضاء والهياكل المهنية القضائية وجمعية القضاة في كل ما يتعلق بالشأن القضائي"، مضيفاً أن "هذا التوجه يُعد تدخلاً مباشراً في السلطة القضائية ومساً باستقلاليتها".
"الترهيب من أجل التركيع"
في سياق متصل، اعتبر القاضي السابق أحمد صواب، أن رئيس الجمهورية، يمارس ضغطاً على القضاء من أجل ترهيبه، وصولاً إلى تركيعه وتدجينه"، مشيراً إلى أن "بعض التوقيفات التي طالت شخصيات سياسية أخيراً، تستند إلى شبهات ولا تتطلب الإيداع بالسجن"، داعياً إلى تحييد المؤسسة القضائية عن التجاذبات السياسية.
وحذر صواب من "محاولات السلطة التنفيذية السيطرة على القضاء"، مؤكداً أنه "لا وجود لديمقراطية في العالم من دون قضاء مستقل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبخصوص البطء في حسم الملفات، أكد القاضي صواب أن "تعقيد الإجراءات الإدارية وعدم تحديث القوانين وملاءمتها لروح الدستور، جعلت الملفات القضائية تتكدس من دون حسمها بشكل نهائي"، داعياً إلى توفير كل الإمكانيات البشرية واللوجيستية للمؤسسة القضائية من أجل أن تضطلع بدورها في الانتقال الديمقراطي".
لا ضغوط على القضاء
في المقابل، نفى يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وجود أي ممارسات ضاغطة على المجلس من قبل الرئيس، لافتاً إلى أن "المجلس الأعلى للقضاء يقوم بدوره في إطار ما هو مخول به من صلاحيات" اعتبرها "محدودة نتيجة التشريع، وأيضاً لغياب آليات تضمن استقلالية القضاء، كالتفقديات وتكوين وانتداب القضاة".
وأقر بوزاخر بأن "المجلس الأعلى للقضاء هو محط أنظار الجميع في هذه الفترة"، معترفاً بأن "المجلس لم يقم بدوره كما يجب"، وداعياً إلى "بناء حقيقي لسلطة قضائية مستقلة". وشدد على أن "المحاسبة في المجال القضائي لا بد وأن تتم عبر آليات المحاسبة الموجودة في المؤسسة القضائية"، مشيراً إلى أن "دعوات رئيس الجمهورية للقضاء من أجل أن يضطلع بدوره، ناجمة عن تفشي الفساد في كل المجالات بما فيها المؤسسة القضائية".
ويذكر أن مجلس التأديب بمجلس القضاء العدلي عقد في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، جلسة بمقر المجلس الأعلى للقضاء، أصدرها على أثرها قرارات تأديبية عدة شملت إيقافات عدد من القضاة عن العمل وإحالة عدد آخر على النيابة العامة بسبب إخلالات وظيفية.
توظيف سياسي
في الأثناء، اعتبر أنور الزياني، الباحث في القانون، والكاتب العام للجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، أن "الدستور التونسي أكد استقلالية السلطة القضائية وأخرجها من دائرة السلطة التنفيذية".
وأقر بأن القضاء في وضعية صعبة، منذ عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ولم يتم منذ عام 2011، إصلاح القضاء بطريقة مثلى"، لافتاً إلى "التوظيف السياسي للمؤسسة القضائية"، وداعياً إلى "فتح ملف القضاء عبر سياسة تشاركية وتسريع بتحديث المجلة الجزائية وملاءمتها مع أحكام الدستور".
وبخصوص تأخر النظر في الملفات المحالة إلى القضاء، اعتبر الزياني أن "الآجال القانونية طويلة نسبياً ما عدا القضايا الاستعجالية، إضافة إلى أن المرفق القضائي في حاجة إلى إصلاحات داخلية كرفع عدد القضاة وتحسين الظروف داخل المحاكم".
وكان سعيد، أكد لدى لقائه وزيرة العدل ليلى جفال في 1 نوفمبر الحالي، أنه لن يقبل أبداً بالمساس باستقلالية القضاء والقضاة، وأنه يسعى إلى أن تتوفر في المحاكم آليات وظروف العمل المناسبة".