Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سعيد الغانمي يقترح قراءة جديدة للتراث وسردياته

"مفاتيح خزائن السرد" كتاب بحثي يعتمد الطريقة الموسوعية والمنهج العلمي

الناقد والباحث العراقي سعيد الغانمي (صفحة الكاتب على فيسبوك)

كتاب "مفاتيح خزائن السرد"، (2021) الصادر عن دار الرافدين، يفسح المجال واسعاً للكلام عن الناقد العراقي سعيد الغانمي، الباحث في السرديات العربية، وصاحب الكشوفات والمصطلحات التي استحق بها نيله جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2017، عن كتابه "فاعلية الخيال الأدبي"، وفقاً لما يقدمه الكتاب الجديد، ولما يعرضه الباحث من وقائع مستمدة جميعها من التراث السردي العربي، بعد أن عاود قراءته بكل ما يمتلك من عدة نقدية، وبمنهجية علمية وموضوعية، ترفدهما موسوعية، ولغة ترقى إلى الأدب أو تكاد، كرمي للمنجز النقدي، يتلقاه القارئ على طبق الحسن. وكنت للصدفة، مأخوذاً بالترجمة المنجزة لكتاب "العرب والغصن الذهبي" لمؤلفه ياروسلاف ستيتكيفيتش، وكان مترجمه إلى العربية سعيد الغانمي، ذا الثقافة الموسوعية واللغة الناصعة والنباهة العلمية التي تخوله التصرف في صوغ المصطلحات العربية الأنسب للتراث العربي، والأدل على نظيراتها الأجنبية.

يقول الغانمي في التوطئة الكتاب عن الغاية من إعداده الكتاب: "أختار هذا الكتاب إذاً أن يكون البحث في الهوية الصنفية للأصناف السردية المختلفة موضوعاً له. وهو موضوع لم يبحث فيما يبدو سابقاً، فضلاً عن الفقر النظري الفاضح في الكتب المكرسة لنظرية الأدب في الثقافة العربية" (ص:12).

قراءة شاملة

ولمجرد العلم فإن عملاً بحثيا كهذا يتطلب من الباحث، عدا التمكن المنهجي المشار إليه، استغراقاً في قراءة غالب التراث السردي في التراث النثري العربي، وهذا لعمري لا تقوى عليه المؤسسات الجامعة، فكيف بالإنسان الفرد. ولعل هذا المطمح يذكرني بما أقدم عليه الباحث الروسي فلاديمير بروب ذو النهج البنيوي، حين اختار درس مئات الحكايات في اللغة الروسية، من أجل ان يكتشف وظائفها الأساسية ( 31 وظيفة)، بيد أن ذلك الجهد المبذول في قراءة التراث السردي العربي، على اتساع مدونته، وتقصي تشابهاته واختلافاته، وتصنيف "أصنافه" الأدبية، والتي يعني بها أنواعها أو أجناسها وفقاً لترجمتها عن الفرنسية والإنجليزية، ما كان ليصده عن مغامرته البحثية الناجحة والمثرية.   

وفي سبيل ذلك عمد الباحث إلى أمرين متكاملين، أولهما كشفه عن قصور النقد العربي التقليدي، وتخلف مصطلحاته الواصفة ومفارقتها لطبيعة التراث، مثل "مصطلح الرومانسية" والأسطورة وغيرهما.

وبالمقابل فقد جهد نظرياً لإرساء مصطلحات واصفة محايدة فكرياً يتسنى له بفضلها أن يعاود تقويم الأصناف (الأنواع) السردية الماثلة في المدونة العربية المعتمدة، وهاتان الكلمتان (مدونة ومعتمدة) مصطلحان مستمدان من علم اللسانية الحديث، لا سيما علم تحليل الخطاب، والسيمياء السردي، وكان الباحث قد عرفهما بالترجمة والدرس، وتعنيان على التوالي: مجموعاً من العبارات والملفوظات محدداً لغاية تحليلها، أما المعتمد (وهي الصفة المنسوبة إلى الأدب)، فيعني به ذاك المعترف به رسمياً من قبل جماعة النقاد وأهل السلطة، ولم يقف الباحث عند هذا الحد، وإنما تعداه إلى تقويم بعض المصطلحات الأجنبية المستعارة من السيمياء البنيوية الأجنبية، وإن تكن من بروب الذي يتبع منهجه السالف الذكر، إذ ينفي مصاقبة مصطلح الصنف (أو النوع) للحكاية الشعبية، جاعلاً إياها أكبر من صنف، لكونها تنطوي على شعر وسرد وموتيفات مختلفة، مثلما ينفي إسقاط النقاد العرب هؤلاء تصوراتهم الإطلاقية في أن العرب لم يعرفوا الملحمة، على سبيل المثال، وفي رده عليهم، يعود الباحث الغانمي إلى التراث الشعري الأشوري السابق لنشأة الملحمة، ومثله التراث الشعري اليوناني الممهد لتشكيل الملحمة، فيجد أن الحكاية الشعبية البطولية المفردة، في كلا التراثين مهدت لتكوين الملحمة (جلجامش والإلياذة)، وأن من الخطأ الظن بأن العرب لم يعرفوا الملحمة ولا الشعر الملحمي، بدليل وجود الحكايات البطولية المفردة، والسير الملحمية (عنترة، أبوزيد الهلالي، سيف بن ذي يزن) المعتبرة خليطاً من نتاج "أيام" العرب والحكايا البطولية فيها وشعر الحماسة وغيره.

البنيوية التكوينية

وبناء على ذلك تغدو قراءة الباحث سعيد الغانمي البنائية والتكوينية والتزامنية - التعاقبية في آن، نوعاً من إعادة تصنيف للتراث السردي العربي، واستنباطاً لأصناف (أنواع - أجناس) سردية جديدة، كانت لا تزال طي المدونة الأدبية المعتمدة.

ولما كان متعذراً مقارنة المقاربة التي اعتمدها الغانمي بغيرها، في مجال النقد السردي، فإنه من المفيد عرض أهم الأصناف التي استخلصها الباحث من مدونته تلك، ولا سيما أنه خصها بـ 10 فصول، وجعل كل صنف في فصل بعينه.

 إذاً، بعد كلامه على صيغ الأدب البطولي في السرد العربي القديم، بناء على مقارناته ما بين الملاحم الإغريقية، وقصص جلجامش السومرية، وبين حكايات البطولة العربية، أي حكايات "الأيام" العربية من مثل حكاية "فناء طسم واحتلال اليمامة" وحكاية "جذيمة والزباء وعمرو" وحكاية "حرب البسوس" واستخلاصه منها أن للأدب الشعبي العربي "حكاياته البطولية" التي تناظر ما لدى اليونان مما دعي لاحقاً بالملحمة، على ما صنفه أرسطو.

وبعد ذلك انتقل الغانمي للحديث عن "حدود السرد التاريخي" في الفصل الثالث، وفيه يبين الباحث ما خالط كتابة تاريخ العرب من سرد خيالي، لا يتفق والوقائع التاريخية، بعد أن يستطلع الروايات والأخبار المنقولة من على ألسنة المؤرخين والرواة العرب، أمثال الطبري والمسعودي وابن النديم وكتاب السيرة، ويخضعها لشبكة من المعايير المستفادة من علوم التأويل والفلسفة وعلم الأنثروبولوجيا وغيرها، بل إن ذلك الخلط الذي أمكن له ترتيبه في صيغ أربع، وإن دل فعلى أن التدوين التاريخي كان لا يزال إلى عهد قريب رهناً لمقدار النضج لدى المدون وجمهوره.

حكاية الرؤيا

ومن ثم يفرد الفصل الرابع للحديث عن صنف من الحكايات سماه "حكاية الرؤيا"، ومفاد ذلك أن العرب شأن الشعوب الشرقية القديمة تميل إلى الاعتقاد بوجود الجن، وأنهم يستسيغون ابتكار القصص عن الشياطين والجن، من مثل حكايات وادي عبقر وحكايات وردت في متون المسارد الأدبية، مثل "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري وقبلها رسالة "التوابع والزوابع" والتي منها اقتبس الأخير "فكرة الرحلة السماوية"، وغيرها من الحكايات التي تؤكد شيوع هذا الصنف وحسن تعبيره عن خصوصية في وجدان العرب الشرقيين.

ثم كان الفصل الخامس الذي خصه الباحث الغانمي بدرس "حكاية الحيوان في كليلة ودمنة"، وفيه يبين الباحث بالعودة إلى التراث السومري والأشوري والسرياني والفارسي على السواء، أصالة هذا الصنف في التراث العربي وانتماؤه إلى الأدب المشرقي الذي يميل إلى تنبيه الضمير الإنساني من كل ما يحط من قدره أو يعرضه للاستغلال أو الظلم أو الخيانة، ولكن عبر ابتداع حكايات تتولى فيها الحيوانات أدوار البشر ومنطقهم وحركاتهم وأفعالهم.

ويذكر الغانمي في أصالة هذا الصنف أن السومريين أنفسهم كانت لديهم مناظرات بين الحيوانات تناقلها الفرس وغيرهم، وأضافوا إليها ما صار مادة لكتاب "كليلة ودمنة" الذي اقتبس عنه بتصرف عبدالله بن المقفع، على أن الجديد في درس الغانمي اكتشافه وجود حكاية إطارية، أو بمنظور اللسانية التوليدية الحكاية المولدة التي تكون قالباً لإنشاء عدد متتال من الحكايات الفرعية، الأولى تستكمل نهاياتها في حكايات أخرى على غرار ما هو حاصل في "ألف ليلة وليلة"، وبالتالي فإن هذا الصنف الذي استخلصه الباحث الغانمي إنما يؤشر إلى خصوصية بنيوية وأسلوبية في التراث السردي العربي والفارسي على حد سواء، بحيث يستحيل إغفاله لدى مقارنته بنوع الحكاية الغربي.

المدونة الأدبية

وعلى هذا النحو من المراجعة الدقيقة للمدونة الأدبية (السردية) المعتمدة في التراث العربي، ومن تقصي مظاهرها وأساليبها ومراحل تكونها في مدونات شرقية أخرى، ومن استنباط للأصناف السردية محمولة على مفاهيم نقدية في السرد حديثة ومعاصرة، يمضي الباحث مع قرائه في درس السيرة الشعبية العربية، وحكاية "الخضر منقذاً"، وفي درس المقامة "صنفاً أدبياً" قائماً بذاته، وفي درس الروايات بصيغتها الأولية في التراث السردي عند الواقدي أو أبي مخنف، وفي الرسالة البغدادية وغيرها، قبل أن يبلغ العرب مفهوم الرواية المعاصرة على يد الصحافة المكتوبة، أوائل القرن الـ 19 ومباشرة بعض الكتاب الصحافيين، أمثال خليل الخوري وسليم البستاني الخوض في ترجمة الروايات الغربية والكتابة على غرارها، ونشرها مسلسلة على صفحات جرائدهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي هذا الشأن أعني في تاريخ الأنواع، لا سيما نوع الرواية الحديثة والمعاصرة، يمكن المناقشة في أمر انطباق التعريف القديم للرواية، لم يكن ثمة تعريف لها وبين نوع الرواية الحديث الجاري اعتماده منذ ثرفانتيس إلى اليوم.

مما لا شك فيه أن كتاب "مفاتيح خزائن السرد" لصاحبه العلامة المترجم سعيد الغانمي، أفلح صاحبه في منح القراء مفاتيح قراءة تراثنا السردي، والنفاذ إلى أسراره ونفائسه المخبوءة تحت طي التصورات الخاطئة والمسبقة، أو ليس هذا فضل النقد العلمي والموضوعي الحق؟ بلى. وللغانمي إلى حينه حوالى 45 كتاباً في النقد الأدبي والشعر والسرد، ومنها اللغة علماً والمعنى والكلمات وأقنعة النص والكنز والتأويل (قراءات في الحكاية العربية) ومعرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة ومنطق الكشف الشعري وملحمة الحدود القصوى وغيرها من الأعمال.

كما أن للغانمي 28 كتاباً مترجماً من الإنجليزية، ومن أهمها "كتاب الرمل" لخورخي لويس بورخيس و"السيمياء والتأويل" لروبرت شولز، و"النظرية الأدبية المعاصرة" لرامان سلدن و"العرب والغصن الذهبي" لياروسلاف ستيتكيفيتش و"الوجود والزمان" لبول ريكور، وغيرها كثير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة