قليلة هي الأعمال المسرحية السورية التي كان لديها الجرأة الفنية في تجاوز حذافير النصوص العالمية التي اقتبستها، فوضعتها في سياقات مغايرة لزمن كتابتها، وفي ظروف اجتماعية وسياسية مختلفة عن تلك التي واكبت ظهورها الأول.
عرض "انتظار" لمخرجه طلال لبابيدي، حقق هذه الرؤية، فعلى الرغم من أنه جاء مقتبساً عن نص "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت (1906-1989)، فإنه أنجز توليفة محلية استطاعت التخلص من غربة النص الأصلي عن الجمهور، وجعلته مطواعاً لدلالات جديدة ضمن الإطار العام للمسرحية الأصلية، لكن من دون أن يلزمها ببيئتها الأجنبية، أو يجرفها لمحاكاة برانية للواقع السوري الراهن.
من هنا، تابع جمهور مسرح القباني في دمشق ذلك الإبدال لشخصيات الكاتب الفرنسي - الإيرلندي بشخصيات سورية، ولا سيما شخصيتي فلاديمير وأستراغون اللتين تنتظران - كما بات معروفاً - شخصاً يدعى غودو، ولتصبحا في النسخة السورية آدم (زين العابدين شعبان)، وأيوب (عدنان الشاطر)، إذ لم يتوقف ذلك على تعويض أسماء الشخصيات وحسب، بل طال تغييراً جذرياً في البينة الحكائية والاجتماعية لهاتين الشخصيتين، اللتين بدوتا وفقاً للإعداد الجديد بمثابة كائنين منعزلين في أرض مقفرة، وعلى طريق لا تحددها سوى شجرة عارية من الأوراق، ومن أي دليل على عودة الحياة إلى غصونها اليابسة.
الغرق في البحر
مع تقدم أحداث العرض نتعرف أكثر فأكثر على أستراغون (أيوب) الذي فقد ولديه غرقاً في البحر، بينما يطلعنا فلاديمير (آدم) على زوجته الحامل بولدهما الأول، والتي قضت هي الأخرى في تفجير سيارة مفخخة عشية عيد ميلاده، بينما عوض معد ومخرج العرض شخصية لاكي بشخصية فلك (بثينة ياسين)، العروس التي تنتظر عريسها المفقود (نوح) الذي غرر بها، وقضى وطره منها لائذاً بالفرار. ليبدو الجميع هنا "في انتظار نوح" بدلاً من غودو، والذي تارةً نعرف أن نوح هذا يعمل كمهرب للبشر، وتارةً أخرى كدونجوان يوقع النساء في أحابيله، ثم يلوذ بالهرب، ليتحول فيما بعد إلى مثل تضربه شخصية فرعون (غسان مارديني) تاجر الحرب الذي جاء كتورية لشخصية (بوزو) في النص الأصلي. وهو السيد المغرق في ساديته وتعاليه، والذي يجر عبداً بحبل موثوق من رقبته في رائعة بيكيت، بينما يظهر في عرض "انتظار" كلص ونشال حقائب.
شخصية الصبي الذي يظهر في نهاية النص الأصلي ليخبر كلاً من أستراغون وفلاديمير بأن السيد غودو لن يأتي هذا اليوم، وأنه سيأتي حتماً في الغد، عوض عنها لبابيدي بشخصية الفتاة المجهولة (أليسار كرادو)، الشخصية غير المرئية من بقية الشخصيات، والتي تترك غصناً أخضر على غصون الشجرة اليابسة في نهاية العرض، كدلالة ربما إلى أمل بالخلاص مهما طالت الغمة واشتد الكرب. إحالة تبدو عادية بالنسبة لمقولة النص الأصلي، ورؤية بيكيت العدمية للقدر والحياة والوجود، وموقع الكائن الإنساني منها. فالنهاية المفتوحة في نص بيكيت ظلت أكثر قوةً من النهاية التي اقترحها العرض السوري بعقد قران كل من آدم وفلك، وهروب فرعون بالحقائب وطرحة العُرس وحذاء أيوب (أستراغون).
ما يلفت في عرض "انتظار" هو الحفاظ على طبيعة الشخصيات وسلوكها، وذلك على الرغم من تغيير ظرفها التاريخي والاجتماعي، إذ التزم العرض السوري بتلك الصلة بين كل من أستراغون وفلاديمير، الكائنين اللذين لا قدرة لهما بالافتراق ولا بالاتفاق في الآن ذاته، وكأنهما صورة لصلة العقل بالمادة، أو الروح بالجسد على نسب متفاوتة. فالعلاقة بين هذين الرجلين بقيت في المقترح السوري على أشد الأحوال تقارباً وتناقضاً في الوقت نفسه، ما أبقى على الهيكلية العامة للنص، وترك المساحة لخلق ظروف مضادة تقاطعت مع ما كتبه بيكيت بعد الحرب العالمية الثانية، لتبقى الحرب هي القاسم المشترك بين النسختين، وليظل البعد الرمزي للعرض السوري مقبولاً ومتاحاً للقراءة في أكثر من مستوى. لا سيما تلك المسحة الوجودية التي حافظ "انتظار" عليها في موضوعة الانتظار، والتي كان بيكيت نفسه يتملص من تفسيرها، أو ربطها بالجانب الغيبي الماورائي، كي لا تتحول "في انتظار غودو" إلى أداة وعظية، مما يفك عنها ذلك الغموض الساحر، وتلك المسحة الغرائبية لشخصياتها المقذوفة في وجود سديمي مبهم.
طابع ساخر
تبقى مسألة الزمن حاسمة في نصوص بيكيت، ومعها عنصر الصمت، والذي تخلى عنه العرض السوري لصالح التفكير بالجمهور، وذلك للوصول إلى شرائح متنوعة من المتفرجين. وقد ابتعد عن تلك المستويات التشاؤمية من المستقبل في النص الأصلي، وعن ذلك الإيقاع المأتمي لظهور – أو غياب - الشخصيات، وما يفعله الزمن وطول الانتظار بمروره عليها. كل هذا جاء بطابع ساخر لا يخلو من المرارة في "انتظار"، لكنه جنح أحياناً إلى الخطابية المباشرة، وابتعد عن تلك الحسرة التي تخلقها العلاقة بين شخصيات بيكيت، وشعورها المزمن باللاجدوى والمرارة من انتظارها العبثي للمجهول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على مستوى آخر، دافع المقترح السوري عن مشروعيته بإبقائه على المستوى الرمزي للأحداث، لا سيما الشجرة التي توسطت الخشبة، والحبل الذي يوثق به فرعون شخصيات العرض إلى جذعها اليابس، بحيث توضح أن انتظار تلك الشخصيات لنوح ما هو إلا تذكير بقصة الطوفان الشهيرة، وفي ملاحم سومرية وبابلية كان أبرزها ملحمة جلجامش (الألف الخامس قبل الميلاد)، والتي تروي حادثة الطوفان التي جرت جراء طغيان البشر وفسادهم على الأرض، ومن ثم نجاة جماعة من البشر والكائنات على متن سفينة النبي نوح الرجل الصالح والعارف بالله.
ولعل هذه الإشارة في "انتظار" جاءت هي الأخرى مواربة وذكية دون أن تورط المتفرج في إسقاطها المباشر، بل تكفلت المعالجة الفنية للنص الجديد بأن تكون منسجمة مع تطلعات الشخصيات، وطموحها بالعيش الكريم والسلام. لعبة أدارها المخرج والكاتب طلال لبابيدي بحرفية عبر إضاءة (صممها عماد حنوش) وإعداد موسيقي (ريبال الهادي) ليعوض فصول المسرحية الأصلية بما يشبه لوحات متتالية قام الضوء والموسيقى بمفصلتها ضمن قالب درامي متناوب في أحداثه، ومع الحفاظ على شبه مساحة فارغة على خشبة المسرح. كل ذلك ساهم في التنويع بين الأداء الجماعي وعناصر السينوغرافيا التي اقتصد المخرج في استعمالها، تاركاً المساحة لأداء الممثل، وتجاور مونولوغاته الطويلة مع قصة الانتظار السورية المزمنة.