Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثلاثية "السيرة الحية" للبريطانية ديبورا ليفي تكتمل بمفاجآتها

تعيد الروائية كتابة هويتها النسوية انطلاقا من مفهوم الزمن والمكانم المؤقتين

الروائية البريطانية ديبورا ليفي (دار بنغوين)

تشهد أعمال الكاتبة البريطانية ديبورا ليفي إقبالاً في بريطانيا والولايات المتحدة وفي الدول التي تترجم إلى لغاتها، ومنها فرنسا التي فازت فيها العام السابق بجائزة "فيمينا" الشهيرة. وقد عرفت ثلاثيتها الشهيرة "السيرة الحية"، رواجاً خصوصاً في ما تحمل من تأمل حميم وأليف في مظاهر حياة النساء، انطلاقاً من فكرة المكان وملكيته.

ولدت الكاتبة ديبورا ليفي في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا في السادس من أغسطس (آب) 1959، وهي حفيدة لمهاجرين ليتوانيين، كان والدها نورمان ليفي أكاديمياً ومؤرخاً وعضواً في المؤتمر الوطني الأفريقي، ثم هاجرت الأسرة في عام 1968 إلى لندن، وهناك انفصل والداها عام 1974.

في بداية مسارها، ركزت ليفي على المسرح، فكتبت العديد من المسرحيات، بما في ذلك "أيقونة السلام"، و"البدع"، ثم اتجهت إلى الرواية. وحملت رواياتها المبكرة عناوين مثل "المسوخ الجميلة" و"جغرافيا الابتلاع" و"بيلي والفتاة". وأدرجت الأحدث منها "منزل السباحة" و"حليب ساخن" في قائمة البوكر القصيرة، كما أدرجت "الرجل الذي رأى كل شيء" في القائمة الطويلة 2016. صدر لها حتى الآن ثلاث مجموعات قصصية "أوفيليا والفكرة العظيمة"، "وسادة تتحدث في أوروبا وأماكن أخرى"، و"الفودكا السوداء"، التي وصلت إلى القائمة المختصرة لجائزة فرانك أوكونور الدولية للقصة القصيرة 2013. ويعد "خطاب غرامي في ضواحي الجحيم" ديوانها الشعري الوحيد، استوحته من رؤية ويليام بليك الملائكة الجاثمة على شجرة في بيكهام كومون، وفيه تطرح قضيتها الرئيسة المتكررة في كل أعمالها: الحرية والحياة المريحة.

تجربة ممتدة في الشكل والحياة

تعتبر ليفي من أهم الروائيين المفكرين في عصرنا، بدأت في نشر أولى أطروحاتها "أشياء لا أريد أن أعرفها" في عام 2014 عن الكتابة والحب والخسارة. على الغلاف كتبت باللون الوردي "لكي أصبح كاتبة، كان عليَّ أن أتعلم مقاطعة الكلام، والتحدث، ورفع صوتي قليلاً، ثم أعلى، ثم أتكلم فقط بصوتي الذي لا يرتفع على الإطلاق".

يبدو أن شيئاً في الكتاب الذي استلهمته من مقال جورج أورويل "لماذا أكتب؟" شق طريقه إلى حياة ليفي الكاتبة والإنسانة، فراحت في ردها البارع على أورويل تمزج سيرتها الذاتية ولحظات طفولتها في جنوب أفريقيا، حيث كان والدها معتقلاً سياسياً آنذاك، بسياسة النوع والفلسفة والنظرية الأدبية.

في عام 2018، نشرت الجزء الثاني "تكلفة المعيشة: سيرة ذاتية عملية"، حول أبعاد الحب والزواج والحداد والقرابة، ويتناول الفترة التي انفصلت عن زوجها بعد زواج طويل، وانتقلت مع بنتيها إلى شقة في شمال لندن. نال "تكلفة المعيشة" إشادة عالمية، ومهد الطريق لحالة من الترقب استمرت ثلاث سنوات حتى صدور آخر أجزائها "العقارات: سيرة ذاتية حية"، في سبتمبر (أيلول) 2021 عن دار هاميش هاملتون، وبه تكتمل ثلاثية ليفي، الممتدة مع الشكل والمكان.

كثير من الأسئلة وقليل من الأجوبة

تقدم الثلاثية صورة مضيئة عن الكيفية التي تستطيع بها المرأة إعادة كتابة قصتها باستمرار، ففي كل جزء تنتقل ليفي من مجتمع إلى مجتمع ومن ظروف معيشية إلى ظروف أخرى، ومن مرحلة عمرية إلى مرحلة أكثر نضجاً، ومن سكن مؤقت إلى سكن مؤقت بدوره. تتساءل بمرارة: كم يكلف المرأة بناء منزل أو هدمه؟ في "تكلفة العيش" كانت تتفحص قرار امرأة في الخمسينيات من عمرها، ترغب في إنهاء زواجها الذي دام 23 عاماً وهدم المنزل الذي أسسته، والعيش في بيت من نوع مختلف، في "مبنى سكني متداعٍ" مع ابنتين في سن المراهقة؛ أسوأ تجربة تمر بها الأم على الإطلاق. غير أنها تفاجئنا باكتشافها أن "من المفترض أن تكون الفوضى أكثر ما نخشاه، لكنني اعتقدت أنها قد تكون أكثر شيء نريده. إذا لم نؤمن بالمستقبل الذي نخطط له، المنزل الذي نسكنه، الشخص الذي ينام بجانبنا، فمن الممكن أن تقربنا عاصفة (كامنة في السحب لفترة طويلة) مما نريد أن نكونه في العالم".

في تلك المرحلة تحديداً، تشق الكاتبة طريقها بقوة إلى الحرية، ومن ثم إلى الإبداع وهي التي توقفت عن الكتابة خمس عشرة سنة. في فوضى هذه الأسرة المكونة بكاملها من النساء، تقضي وقتها تستجوب الذات، تحلل البنى الثقافية، تطرح الكثير من الأسئلة وإن كانت لا تملك الكثير من الأجوبة، ولكنها تملك الحس الساخر المضحك جداً حين تطرح ما يعنيه أن تكون كاتبة، وكيف تتحول الهموم تدريجياً إلى مزحة، والأوضاع المأزومة إلى فنون من التندر اللاذع في بحثها الدائب عن رائحة البيوت، تلك المساحة "الجندرية" التي لطالما اعتبرت مجالاً للمرأة.

شجرة رمان في الحديقة

تنتقل ليفي في "العقارات" إلى الخطوة المنطقية التالية في استكشافها القائم على الذات، وقد بلغت الستين، والتحقت ابنتها الصغرى بالجامعة، عتبة التحرر من الالتزامات المنزلية وما يترتب عليها من مواجهة السؤال الذي ينبثق لتوه: هل يوفر لها العش الفارغ الحرية التي طالما تاقت إليها؟ حجم الجيشان النفسي الذي يعتمل داخلها يتوازى مع الإزاحة الجغرافية جراء حصولها على زمالة في باريس ومغادرة المنزل في الوقت نفسه الذي تغادره ابنتها، لتخلق لنفسها عشاً فارغاً فعلياً في مكان مؤجر ومؤثث بالكاد في الدائرة الثامنة عشرة، بينما تتخيل "ممتلكاتها غير العقارية": "منزل قديم كبير مع شجرة رمان في الحديقة".

تحلم ليفي بمنزل كبير فيه مدفأة بيضاوية وشجرة رمان في حديقتها، بما يتناسب مع الأفكار الرومانسية التي تراود بعضنا بشأن السكن، ونحن في تلك المرحلة من عمرنا مشغولين بلذة الاستقرار. نصحها أحد الأصدقاء أن تكتب نصاً مبتذلاً حتى تتمكن من تحمل تكاليف "منزلها القديم الواسع"، لكن هذا آخر شيء تستطيع القيام به. تقول في بداية "العقارات" "إذا كانت العقارات صورة ذاتية وصورة طبقية، فهي أيضاً جسد يرتب أطرافه للإغواء".

تشبه قراءة ليفي تفحص حبيبات رمال خلال مجهر، صوت ذكي وجريء، يرسم ببراعة الروابط بين اللحظات المشحونة في حياتها. بعد أن ترى الرمال تتساقط من حفرة في جدار منزلها المستأجر، تفكر وهي في طريقها إلى السباحة، في المنزل وهو ينهار. "وماذا عن السلطعون، الذي يحفر ثقوباً في الرمال لبناء منزله؟ عندما يمحو المد والجزر منزله، يتعين عليه بناء منزل آخر. نحن جميعاً مستأجرون على الأرض، وهي موطننا المؤقت".

ليست مجرد مسألة ملكية

ماذا لو امتلكنا الحرية التي طالما تُقنا إليها؟ سؤال يلح على كل امرأة حلمت طويلاً باستقلالها وحصلت عليه بعد انقضاء العمر. تحدثنا ليفي عن رغبات المرأة وكيف ستكون إذا أمكن فصلها عن توقعات الثقافة الأبوية "أنت لا تعرف أبداً ما تريده المرأة حقاً حيث يتم إخبارها دائماً بما تريد". إن الرغبة في السكن، التي تجسدت منذ فترة طويلة في فكرة فيرجينيا وولف في غرفة تخص المرء وحده، هي، بالنسبة إلى ليفي، ليست مجرد مسألة ملكية، بل تتعلق بحصتها من المكان على نحو جمالي، كما حصتها في الإبداع. في إحدى الحفلات في لندن، تقابل كاتباً من عمرها يبدو عازماً على التقليل من نجاحها الأخير، تعلق على تصرفه "الحقيقة أنه ينظر إلى كل كاتبة على أنها مستأجرة تجلس على أرضه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في أحد المشاهد تصدم بإهداء من زوجها السابق على صفحة الكتاب؛ تحاول التواصل مع المرأة التي أهدي إليها. "كنت أعلم أنها لن ترغب في رؤيتي، لم أكن أرغب في رؤيتها أيضاً، لكننا، أنا وهي يطارد بعضنا بعضاً عبر الزمن". تبدو ليفي منشغلة، ليس فقط بإبداع نسخ أكثر تحرراً من الشخصيات النسائية، ولكن بالأحرى كيف تصبح هي نفسها إحداهن. "بدا لي مرة أخرى أننا في كل مرحلة من مراحل الحياة لا يتعين علينا أن نتوافق مع الطريقة التي كتبت بها حياتنا لنا، وبخاصة من قبل أولئك الذين هم أقل منا إبداعاً".

في سلسلة من المشاهد السريعة العابرة للقارات، تقدم لنا تفاصيل الحياة اليومية للمرأة: التسوق والملابس والمحادثات العرضية، لتدلف من خلالها إلى حوار بين الفن والحياة، الأمهات والبنات، الماضي والحاضر، مستعيدة أفكار الكاتبات اللائي أثرن فيها، وقدمن في أعمالهن لمحات عن كيفية التعايش مع الحرية الفكرية (سيمون دي بوفوار، مارغريت دوراس، سوزان سونتاج، لويزا ماي ألكوت) لكنها غالباً ما تكون في حوار مع نفسها السابقة.

في "العقارات" تطرح ليفي أسئلة عما ستحظى به هي وجميع النساء غير المكتوبات وغير المرئيات في المحافظ العقارية في نهاية حياتهن. "ما الذي تستحقه، وتملكه، وتهجره، وتورثه؟ أهو العقار الذي يملكه النظام الأبوي؟ بهذا المعنى، فإن العقارات أمر شائك. نحن نؤجرها ونشتريها ونبيعها ونرثها، ولكن يجب علينا أيضاً أن نهدمها".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة