Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شيرين سامي تتأمل العلاقة الشائكة بين الرجل والمرأة

"الحجرات" رواية مصرية عن البيوت والأسرار والحزن الشفيف

لوحة للرسامة المصرية هبة أمين (صفحة الرسامة على فيسبوك)

المرور حيلة الزمن، يؤكد عبرها سطوته، مُخلفاً في مضيه الذكرى، التي تلتصق بالبيوت، الجدران والحجرات. فيغدو التشبث بها أكثر من كونه نوعاً من الحنين لما مضى، حيلة وحيدة للاحتجاج، على تسلل الأيام كمياه تعجز الأيدي عن القبض عليها، والإمساك بها. وحين يصبح التخلي عن البيوت وحجراتها، طريقاً إجبارياً تسلكه الشخوص؛ تنزف الحكاية حزناً شفيفاً، كالذي تجلى في "الحجرات" رواية الكاتبة شيرين سامي الصادرة أخيراً عن دار الكرمة- القاهرة.

على طريقة الحجرات أسست الكاتبة بناءها الروائي. وعبر أسلوب من السرد الذاتي استهلت النص، بصوت شخصية ثانوية، منحتها مساحة هامشية من الأحداث، لتَعبر من حجرة إلى أخرى. وتسلم شخصيتها المحورية صوت السرد، مستخدمة تقنية الرسائل. لكنها رسائل إلكترونية، تتناسب والحقبة التكنولوجية الراهنة.

دقيقتان تفصلان بين كل طلاق وآخر في مصر. هكذا أكد تقرير حديث للجهاز المركزي المصري للتعبئة والإحصاء، لتكون الحصيلة النهائية 2.5 مليون سيدة مطلقة؛ كانت الشخصية المحورية في النص إحداهن. جهَّلتها الكاتبة لتجسد عبرها صورة صادقة للبقية، أو كثير منهن. وراحت تمسك عبرها الأسلاك العارية، في علاقة جدلية شائكة، طرفاها الأزليان رجل وامرأة. تسبر عبرهما أغوار النفس الإنسانية، وما حلَّ بها من عطب، من دون أن تعتمد نسقاً زمنياً، ينتظم عبره تدفق الأحداث. وإنما بدأت السرد من لحظة آنية. واعتمدت أسلوب الاسترجاع، عائدة إلى ماض بعيد، ثم إلى ماض أبعد، ثم حاضر يسبق لحظتها الراهنة، التي تنتهي فيها إلى حيث بدأت، لتكشف عبر بنائها الدائري، عن الكثير من المسكوت عنه، بين طرفي الصراع. فترصد ذكورية مجتمع، يحول النساء بعد الزواج إلى حبات متشابهة من السمسم. يجردهن من إنسانيتهن، لتصبح المرأة مثل "كونسول" أو منضدة مثبتة إلى الحائط، لا دور لها إلا حفظ الأشياء. أو مرآة تعكس ما يريده الرجل، تتشكل وفق رؤاه فتكتسب طبقات من الزيف. وتصبح امرأة لا تعرفها، مسخاً صنعته لعبة كلاسيكية، ظاهرها الخوف عليها، وباطنها "لنعرف مقدار طاعتك!".

صراع محتدم


لكن الراوية تصنع من التمرد جناحاً، لتستحيل المرأة من جمادٍ إلى طائر يصنع العش، يضع البيض ويرعى الصغار؛ فتزيد وطأة المعارك، ويحتدم الصراع، ويحصد الطرف الأضعف جسدياً؛ حظه الأزلي من المذلة والإهانة النفسية والجسدية.

تخلل النسيج العديد من الثنائيات المتقابلة، التي تتسق وطبيعة الصراع، كالجمود مقابل الحركة، السجن مقابل البراح، الواقع مقابل الحلم، البدايات الزاهية مقابل انطفاء النهايات. وتجلت في غير موضع مقارنات صريحة، عقدتها الكاتبة بين علاقات قديمة تتسم بالرحمة والاحتواء "الآباء بالأمهات"، وعلاقات شابة تتسم بالقسوة والاستعلاء.

تسللت الكاتبة إلى العوالم الداخلية لشخصيتها المحورية، لتكشف عن صراع آخر يحتدم في دواخل المرأة، بعيداً من حرائقها ومعاركها الخارجية، مع الرجل ومع المجتمع. فرصدت صراع القلب والعقل، تناقض الرغبة في الرحيل والخوف من الفقد، الشوق للخلاص والحزن الذي يخلّفه الانعتاق من الحب.

وعبر لغة شعرية لم تعق وظيفة السرد؛ دعمتها تقنيات المونولوغ الداخلي، تمكَّنت شيرين سامي من اختراق مناطق بعيدة في عوالم النساء. وأضاءت المساحات الصامتة والمظلمة في شعورهن. فالتقطت تفاصيل دالة؛ تفسر أسباب سقوط بعضهن في براثن علاقات سامة، يصبحن فيها محوراً للتندر وفريسة لخرس أزواجهن، يقرصهن جوع المشاعر، وتنسحقن أمام ذكورية المجتمع، وسطوة شرقي يخاف امرأة واعية. ورصدت بالمقابل الحيل التي اعتدنها النساء في التعاطي مع الألم والشعور بالانسحاق... "أنا التي أكره الأشغال اليدوية، أجلس على أريكة وأشتغل الكروشيه، أمسك بإبرة وصوف ملون وأغزل كوفية، يوم اشتريت الصوف كنت حزينة وغاضبة، دخلت المحل الذي أمر به كل يوم، وقفت أمام الكرات الملونة كأني دخلت عالماً جديداً ناعماً خالياً من الهموم يشبه أحلامي القديمة، قررت فجأة أنني يجب أن أسلك درباً جديداً من دروب الهروب، لم يشفع لي النوم المبكر، لم تنقذني القراءة، واستعصت عليَّ الكتابة. كان يجب أن أشغل يدي ليرتاح قلبي ويهدأ عقلي، كان يجب أن أصنع شيئاً جميلاً يعوض كل القبح الذي اجتاح حياتي، كان يجب أن أداوي شتات نفسي بضم الخيوط وغزلها" ص59.

التناظر والتناص

عزَّزت الكاتبة من جماليات وقوة البناء، عبر استدعاء بعض الموروث الديني، بدا في عنوان الرواية "الحجرات"، وفي قصة النبي موسى عليه السلام. وأبرزت عبر استدعائها هذه القصة، حالة من التناص والتناظر في الوقت نفسه، فالشخصية المحورية في النص تركت طفليها، لإنقاذهما مثلما فعلت أم موسى، وأصبح قلبها أيضاً مثلها فارغاً.


تكرَّر التناظر في القضية نفسها عبر استدعاء رواية "ساحر بلدة أوز". إذ أبرزت سامي تماثلاً بين بطلتها وبين بطل الرواية، الرجل الصفيح، فكلاهما لا يحس، يضحك ضحكات آلية لكنه لا يشعر بشيء. ويشي تكرار تقنيات التناظر عند استدعاء مشهد التخلي المؤقت عن الطفلين، بمحاولة الكاتبة إبراز شعور عميق بالذنب، تكابده الأم المدفوعة لترك أبنائها. وربما كان اعتمادها تقنية التكرار في إبراز ما تعرَّضت له الراوية من العنف الجسدي، يضفي بعداً نفسياً على السرد. فالكاتبة لا تكتفي بتصوير شخوصها من الداخل. وإنما تستدعي حيلاً نفسية غير مباشرة من التبرير، تعادل شعور الشخصية بالذنب. وتُظهرها في كامل ضعفها الإنساني، ما يضمن دخول القارئ في حالة كاملة من التعاطف، مع الذات الساردة، والتماهي مع النص... "كنت تحت يديه يضربني على رأسي، حكى لي الطفلان أنني كنتُ أصرخ وأسب، بينما كنت أشعر أنني أتلاشى، أغيب عن الصورة التي رسمتها لنفسي، كان الظلام يسقط على عيني، لم أشعر بشيء إلا بسماعي نفسي وأنا أقول: مش شايفة... مش شايفة" ص214.

القهر المجتمعي

رصدت الكاتبة عبر شخوصها صوراً من القهر، التي يمارسها المجتمع تجاه المرأة، تبدأ من الأسرة التي تقتل الموهبة ولا تعززها، وتمر بالأم التي تحرض الابنة تحريضاً ضمنياً، على الإذعان لزوجها العنيف، ودفن رأسها في الرمال. وتبث تحريضها، مرة في ترديدها أغنية فايزة أحمد "يا تمر حنة"، ومرة أخرى في توصيف الخلافات بأنها ملح الزواج، وثالثة في نصحها "قربي من ربنا". ثم الشيخ الذي استجابت الابنة لأمها في الاتصال به، لتسمع منه فقهاً ذكورياً، لا يلوم الرجل قط، في حين يضع المرأة دائماً، في موقف المذنب والمقصر. وأخيراً المجتمع، الذي يعد على المرأة أنفاسها، ما دامت مطلَّقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شخوص العمل مألوفة غالباً. يدور أغلبها في فلك تنميط وظيفي، يعمد لتجسيد صورة شديدة الصدقية، ومعبرة عن الواقع، لا سيما الأب والأم، الزوج، الشيخ، المحامي، وأخصائي التنمية البشرية. لكن الكاتبة عمدت في الوقت نفسه للخروج عن التنميط في خلق شخصيتها الرئيسية، التي أضفت عليها طابعاً من التركيب والتعقيد، عبر مراوحتها بين التمرد والإذعان، الانكسار والجرأة، إفناء الذات والانتصار لها. ولم تقف عند حدود رصد المعاناة والألم، وإنما قدَّمت عبر الراوية "روشتة" نجاة لكل النساء، اللاتي تحرَّرن من علاقات سامة، وما زلن يناضلن للتحرر من ألم الاعتياد، فقد كان دواؤها في التذكر لا النسيان، تذكّر القائمة السوداء من كل ما تجرعته من الكلمات اللاذعة، والقسوة المجانية، والإيذاء الجسدي. وفي الوقت نفسه أحاطت نفسها بقائمة المحبة، التي منحتها كل ما تحتاجه من دعم.

تتحرر الراوية من الحب والألم، لكن الكاتبة لم تشأ أن تبلغ بهذه الحرية نهاية الأحداث، وإنما دفعت بأمل جديد في نهاية مفتوحة ومفاجئة، لتؤكد فلسفة مرَّرتها عبر النص ضمناً وصراحة، "أن الانفصال نهاية لنجاح وبداية جديدة لنجاح آخر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة