Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القصف المداري الصيني... هل يشعل سباق التسلح مع أميركا أم يخلق استقرارا؟

طور السوفيات هذا النظام في الستينيات لكنهم تخلوا عنه بعد عقدين

الصين اختبرت نظام أسلحة تتجاوز أضعاف سرعة الصوت (رويترز)

منذ أن كشفت صحيفة "فاينانشال تايمز" قبل أيام عن أن الصين اختبرت نظام أسلحة تتجاوز أضعاف سرعة الصوت، حظي الأمر باهتمام دولي كبير، غير أن ما أثار قلق الأميركيين ليس الصواريخ الفرط صوتية الموجودة بالفعل لدى بكين منذ فترة، وإنما قدرة الصينيين على إدخال هذه الصواريخ إلى المدار حول الأرض مع إمكانية تحميلها برأس نووي، وإعادة إطلاقها نحو هدفها على الأرض، وهو ما يطلق عليه خبراء التسلح "نظام القصف المداري"، فما هو هذا النظام ولماذا يثير قلق واشنطن؟ وهل سيؤدي إلى إشعال حرب نجوم جديدة مثلما كانت الحال مع السوفيات قبل عقود، أم يمكن أن يحقق الردع والاستقرار بين القوى العظمى النووية؟

نظام "فوبس"

لم يكن نظام القصف المداري، الذي أجرت الصين تجربة لاستخدامه في أغسطس (آب) الماضي، ابتكاراً جديداً، كما قد يعتقد البعض، فقد نشر الاتحاد السوفياتي نظاماً مماثلاً خلال الحرب الباردة ولمدة عقدين تقريباً، لكن اختبار الصين لمثل هذا النظام المطور يثير قلق الكثيرين في الولايات المتحدة، ليس لأنها تقنية مستقبلية رائعة، ولكن لأنها قد تكون خطوة أخرى في سباق تسلح عديم الجدوى ومكلف وخطير.

ويعد نظام القصف المداري أو القصف المداري الجزئي، المعروف اختصاراً في اللغة الإنجليزية باسم "فوبس"، هو ثمرة الجهود السوفياتية لإيصال الأسلحة النووية إلى الفضاء، وقد تم تطويره في ستينيات القرن الماضي، لإطلاق رؤوس حربية نووية إلى مدار أرضي منخفض قبل إسقاطها على أهدافها في الأرض، ويعود السبب في تطوير السوفيات هذا النظام إلى أن الولايات المتحدة بدأت من الستينيات، العمل على نظام دفاع صاروخي أطلق عليه "سيفغارد"، ويتكون هذا النظام من عدد من الصواريخ المسلحة بأسلحة نووية تهدف إلى تدمير الصواريخ الباليستية السوفياتية العابرة للقارات، ما يعني بالنسبة للسوفيات تهديداً للعلاقة القائمة على الردع النووي.

ولأن فكرة الردع النووي تقوم على أنه إذا بدأ أحد الأطراف حرباً نووية، فإن الجميع يموتون، فإن حصول الخصم على مجموعة من الدفاعات، قد تدفع قادته إلى التفكير في أنه يمكنهم البقاء على قيد الحياة، بل وتحقيق النصر، وهذا يجعل بدء القتال خياراً مغرياً بشكل خطير، ولهذا كان القصف المداري أحد الحلول التي طورتها موسكو بالفعل.

ما هو القصف المداري؟

لمعرفة طبيعة القصف المداري وكيفية عمله، ينبغي أولاً التعرف على أساسات الحركة في المدار القريب من الأرض، فقد يسأل البعض عن السبب وراء عدم سقوط الأجسام التي تدور في الفضاء مثل الأقمار الصناعية على الأرض؟ والإجابة هي أنها تسقط، ولكن بعد فترة زمنية طويلة جداً، ذلك أنها تحلق بسرعة كافية تسمح لها بأن تستمر في الدوران في حلقة لا نهاية لها، هذه الحلقة تسمى "مدار"، ويعني ذلك أن تكون هذه الأجسام في حالة سقوط حر بطيء جداً، الأمر الذي يفسر أن رواد الفضاء يكونون في حالة انعدام الوزن نتيجة وجودهم في المدار، ولكن في المدار الأرضي المنخفض هناك قدر ضئيل من السحب الجوي، لذلك تعود الأجسام خلال فترات زمنية طويلة جداً إلى الأرض.

وإذا كنت ترغب في إعادة رواد الفضاء إلى الأرض أو إلقاء سلاح نووي على بلد آخر، ولا يمكنك الانتظار لمدة عشر سنوات، فأنت بحاجة إلى استخدام مزيد من الطاقة لإبطاء السرعة والعودة إلى الأرض، وهذا ما يفعله على سبيل المثال، مكوك الفضاء، حيث تطلق المركبة المدارية محركاتها الدافعة، لإبطاء سرعتها في ما يسمى "حرق الخروج من المدار"، والذي يسمح لها بدخول الغلاف الجوي مرة أخرى والعودة إلى الأرض.

القصف المداري الجزئي

ويعمل نظام القصف المداري "فوبس" بالطريقة نفسها، أي إطلاق صاروخ كبير يضع رأساً نووياً في المدار، ويتصل بهذا الرأس محرك صاروخي صغير، وكان بإمكان السوفيات إطلاق هذا المحرك الصغير لإبطاء الرأس الحربي، وإعادته إلى الأسفل في المكان الذي يريدون استهدافه، لكن معاهدة الفضاء الخارجي تحظر الآن وضع الأسلحة النووية في المدار، لذلك أطلق السوفيات على النظام اسم "نظام القصف المداري الجزئي" على اعتبار أنه لن يدور في مدار كامل، بما يجعل الشرط المدرج بالاتفاقية لا ينطبق عليه، غير أن المدارات الجزئية تظل في نظر رجال القانون الفضائي مدارات، ولهذا اعتبروا أنه إذا أطلق السوفيات هذا النظام وزودوه بسلاح نووي حقيقي، سيكون انتهاكاً للاتفاقية.

وقدم نظام القصف المداري الجزئي "فوبس" للسوفيات عدداً من المزايا بالمقارنة بالصواريخ الباليستية العابرة للقارات (آي سي بي أم)، ذلك أن الصواريخ الباليستية تطير في قوس كبير جداً تصل في أعلى نقطة من القوس المتجه من روسيا إلى الولايات المتحدة على سبيل المثال إلى 1300 كيلومتر (800 ميل) فوق الأرض، لكن صواريخ نظام "فوبس" السوفياتية تدخل المدار على ارتفاع أقل بكثير، أي على ارتفاع بضع مئات من الكيلومترات، وهذا يعني أنها ستصل إلى الولايات المتحدة في وقت أسرع بنحو 10 دقائق، ونظراً لأنه من المستحيل تحديد مكان إطلاق صاروخ بنظام "فوبس" إلا بعد خروجه من المدار باتجاه الأرض، فلن يكون هناك سوى بضع دقائق فقط من التحذير قبل أن يصطدم الصاروخ بالهدف المحدد.

نشر الصواريخ

كانت إحدى المزايا الكبيرة هي أن أنظمة "فوبس" يمكن أن تتجنب رادارات الإنذار المبكر الأميركية، والتي تتجه صوب القطب الشمالي، حيث إن المسار تسلكه الصواريخ السوفياتية الباليستية العابرة للقارات، ذلك أن نظام "فوبس" كان يتيح للسوفيات التحليق لمسافات طويلة، وصولاً إلى القطب الجنوبي وضرب الولايات المتحدة من الخلف، حيث لا توجد أي رادارات أميركية للرصد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من أن نظام "فوبس" كانت به بعض الجوانب السلبية الخطيرة، لأن عملية وضع رأس حربي في المدار تتطلب الكثير من الدقة والجهد، فإنه تمتع بقدر كبير من الإعجاب في موسكو، إذ تقول مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، إن الاتحاد السوفياتي نشر 18 صاروخاً من نظام "فوبس آر 360"، ووضعها في الصوامع السوفياتية لتكون جاهزة لمهاجمة الولايات المتحدة من الجنوب، وذلك في الفترة من أواخر الستينيات، وحتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من أن السوفيات كانوا مدركين لعيوب النظام، فإنهم تخلوا عنه فقط بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن نظام الدفاع الصاروخي "سيفغارد"، الذي كان يهدف إلى هزيمته.

الجديد القديم

كان الصينيون أيضاً قلقين من وجود هذا النظام، وفكروا، بحسب ما يقول الأميركيون، في الاستعداد لنظام مماثل للقصف المداري في الفترة نفسها، ولكن بحلول الوقت الذي كانوا فيه جاهزين للقيام بذلك، تم وقف نظام "سيفغارد" الأميركي.

لكن الجديد الآن أن الصينيين أجروا اختباراً، الصيف الماضي، على نظام محدث من هذا النظام وفق ما ذكرت صحيفة "فاينانشال تايمز"، نقلاً عن خمسة مصادر، ودخل الصاروخ الصيني المدار، وأكمل دائرة كاملة حول الأرض بلغت نحو 40 ألف كيلومتر (25 ألف ميل)، ما يجعله مطابقاً للقصف المداري الجزئي "فوبس"، والذي يبدو أن الولايات المتحدة كانت تعلم بما تفعله الصين، حيث كشف وزير القوات الجوية الأميركية، فرانك كيندال، الشهر الماضي، عن دراسات أكاديمية في جامعات الدفاع الصينية تتعلق بهذا التطوير.

انزعاج أميركي

وفي حين نفى الصينيون أنهم أجروا تجربة قصف مداري، قائلين إن الولايات المتحدة اختلط عليها الأمر عندما أطلقت بكين مركبة فضائية في يوليو (تموز) الماضي، فإن الأميركيين بدوا منزعجين من هذا التطور لأن الفارق بين النسخة الصينية المحدثة من "فوبس" والنسخة السوفياتية القديمة، يتمثل في أن مركبة إعادة الدخول إلى الغلاف الجوي هي عبارة عن مركبة تنزلق بالقنبلة النووية بسرعة إلى الهدف المحدد على الأرض، وهو ما قد يعطي الصينيين قدرة كبيرة على الردع عبر هزيمة الدفاعات الصاروخية الأميركية.

ولعل هذا السبب هو الذي دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى التعبير عن قلقه من تطوير الصين هذا النظام، على الرغم من فشل الصاروخ الصيني من إصابة هدفه بعد إطلاقه من المدار، وعلى الرغم من قدرة الولايات المتحدة على تطوير نظم دفاعية والدخول في سباق تسلح نووي مكلف وخطير.

لكن ما يثير قلق الأميركيين أن نظام "فوبس" الصيني مصمم لضمان أن تتمكن بكين من هزيمة الدفاعات الصاروخية الأميركية والرد على الولايات المتحدة، على الرغم من أن لديها بالفعل القدرة على إطلاق صواريخ نووية كضربة انتقامية ضد الولايات المتحدة إذا تعرضت لضربة نووية استباقية من واشنطن.

ضد التسلح النووي

ومع ذلك، تفجر الجدل بين المؤيدين للحد من التسلح وبين المطالبين بتعزيز القوة النووية للولايات المتحدة، فبالنسبة لمؤيدي الحد من التسلح النووي، ومنهم جيفري لويس، مدير برنامج الحد من التسلح في معهد "ميدلبري" للدراسات الدولية، فإنهم يرون أنه من الجنون أن تبني الولايات المتحدة أمنها على تهديد الإبادة المتبادلة إلى الأبد، وأنه إذا كان هناك بعض الشكوك حول مشروع الردع النووي، فإن الحل يتمثل في تقليل الأسلحة النووية، وليس الدخول في سباق تسلح متجدد مع الصينيين والروس.

ويلتمس بعض المتخصصين العذر للإجراء الصيني، مثل إيمي آشفورد، الباحثة في مبادرة أميركا الجديدة في المجلس الأطلسي، إذ تقول إن نظام الدفاع الصاروخي الأميركي في ألاسكا لا يزال يعمل، وهو مؤشر على أن الولايات المتحدة تسعى لعرقلة ضربة نووية مقبلة، كما أن القوات النووية الأكبر حجماً للولايات المتحدة، والتي تزيد على القوة النووية الصينية بأكثر من عشرة أضعاف على الأقل، فضلاً عن التحديث المستمر لها، يثير احتمال أن تكون واشنطن قادرة بالفعل على القضاء على العديد من الأسلحة النووية الصينية بشكل استباقي في أي صراع، ولن يتبقى سوى القليل منها، والذي قد يتم اعتراضه بصواريخ دفاعية أميركية، بينما يحل نظام القصف المداري الجزئي "فوبس" هذه المشكلة من خلال الهجوم من اتجاه مختلف وتجنب الدفاعات القائمة على ألاسكا، ولهذا يرى أنصار الحد من التسلح ضرورة التوافق مع الصين وروسيا للحد من التسلح النووي المكلف والمضر للاستقرار.

سباق تسلح

في المقابل، يرى آخرون، ومنهم ماثيو كورينغ، نائب مدير مركز "سكوكروفت" للاستراتيجية والأمن، والأستاذ في جامعة "جورج تاون"، أن المشكلة تتمثل في مقاصد وسياسات الرئيس الصيني شي جينبينغ، إذ كان لدى الصين نهج مستقر وناجح للسياسة الخارجية والداخلية لعقود من الزمن وضعه دنغ شياو بينغ في الثمانينيات، ولكن منذ عام 2014، ألقى شي كل ذلك خارج النافذة، وتراجع عن الإصلاحات الليبرالية التي وعد بها الحزب الشيوعي الصيني، وعن تعهد "دولة واحدة ونظامان" لهونغ كونغ وتخلص من نهج "الاختباء والتكتم" في السياسة الخارجية وأطلق الصين على مسار أكثر تشدداً مع العالم الخارجي.

ويرى كورينغ أن الرئيس الصيني يفعل الشيء نفسه في سياسة الأسلحة النووية، فمنذ عهد ماو تسي تونغ ودينغ شياو بينغ، كانت للصين استراتيجية ووضع نووي مستقر يتمثل في ترسانة نووية "هزيلة وفعالة" يمكن أن تضمن الانتقام، ولكن ليس أكثر من ذلك، لكن يبدو أن الرئيس شي يريد أن تكون الصين قوة عظمى وجيشاً من الدرجة الأولى، وهو يبني قواته الاستراتيجية في كل المجالات، ويضاعف حجم الترسانة النووية أربع مرات، ويصنع صواريخ باليستية جديدة عابرة للقارات، وقاذفات نووية جديدة، وغواصات جديدة مسلحة نووياً، ودفاعات صاروخية جديدة، وصواريخ تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت.

ولهذا، فإن اتباع سياسة الحد من التسلح لن تحقق نجاحاً وقبولاً من الصين، بالتالي ينبغي على حكومة الولايات المتحدة ضمان علاقة ردع مستقرة، كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي، وهو ما يتطلب الحفاظ على قوة استراتيجية قوية، وتحديث قوات الولايات المتحدة النووية الاستراتيجية، وبناء أسلحة غير استراتيجية لإلغاء المزايا النووية الروسية والصينية في أوروبا وآسيا، وبناء نظام دفاع صاروخي محلي وإقليمي محدود، بما في ذلك البحث المستمر في الدفاعات الصاروخية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت بهدف عدم السماح للأنظمة الاستبدادية في الصين وروسيا ببناء أسلحة تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها والنظام الدولي القائم على القواعد ولردع العدوان الروسي والصيني، فإذا كان بإمكان جيش التحرير الشعبي الصيني أن يجعل واشنطن أكثر حذراً من خلال زيادة تعرض الولايات المتحدة للهجوم النووي الصيني، فإن بكين ستتمتع بحرية أكبر في غزو جيرانها، مثل تايوان من دون خوف من التدخل الأميركي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل