منذ سنوات وسياسة التفلت من العقاب تسود في لبنان، ففي وقت ارتكبت فيه عشرات الاغتيالات السياسية والأعمال الأمنية الخطيرة، لم تعلن السلطات عن توقيف المجرمين، أو التوصل إلى الجهات المنفذة، الأمر الذي ترك البلاد مكشوفة أمام مزيد من الاختراقات كان أبرزها في المرحلة الأخير انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، وما تبعها من اغتيالات غامضة.
إلا أن التحقيق في قضية المرفأ شكّل استثناءً عن القاعدة العامة السائدة في لبنان، حيث برزت الاستدعاءات القضائية بحق مسؤولين سياسيين وأمنيين كبار، ما صدم الطبقة السياسية الحاكمة ودفعها للتماسك بهدف محاصرة التحقيق من خلال استغلال الحصانات، وصولاً إلى التهديدات العلنية للمحقق العدلي بالقضية، طارق بيطار، والتي جاءت على لسان أمين عام "حزب الله"، حسن نصر الله، وعدد من قيادات حزبه.
استحضار المؤامرة
المواجهة العلنية والعنيفة التي أعلنها الحزب بوجه التحقيقات، أعادت الأذهان إلى الأسلوب الذي استخدمه الحزب بمواجهته تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعدد من السياسيين والأمنيين المناهضين آنذاك للوصاية السورية وسلاح "حزب الله".
واعتمد الحزب حينها سياسة تعطيل الحكومة التي كان يرأسها فؤاد السنيورة بهدف الضغط السياسي، ومن ثم أعلن استقالة الوزراء الشيعة، متهماً المحكمة الدولية بالتآمر لمصلحة إسرائيل، معلناً رفض التعاون معها أو الاعتراف بأحكامها.
وعلى الرغم من توصل المحكمة بعد 15 عاماً من الاغتيال، لكشف ملابسات اغتيال الحريري، واتهامها سليم عياش أحد كوادر "حزب الله" في إدارة تنفيذ الجريمة، إلا أنه رفض تسليمه، ولم تتمكن السلطات اللبنانية من تنفيذ الحكم القضائي.
ويرى متابعون أن منهجية رفض المحكمة الدولية التي اتبعها الحزب خلال الأعوام الماضية، تستنسخ من جديد في مواجهة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، فالحزب يعود ويستحضر نظرية المؤامرة وتسييس التحقيقات، إضافة إلى اتهام المحقق العدلي بتنفيذ خطة أميركية لاتهامه.
والأمر نفسه يتكرر لناحية تعطيل الحكومة واتخاذها رهينة للضغط السياسي ومحاولة عزل القاضي طارق بيطار.
المتهمون "القديسون"
وفي هذا السياق، لفت نائب رئيس "تيار المستقبل"، النائب السابق مصطفى علوش، أن الحزب يستخدم نظرية المؤامرة للتبرير نفسه. وقال إن "الحزب الذي اغتال رفيق الحريري، حمى المتهمين من الملاحقة، وسمى القتلة قديسين"، وعلى الرغم من كل القرائن التي أثبتت تورط الحزب بقتل الحريري لا يزال يؤمن الحماية للقاتل ويمنع الدولة من تطبيق القانون.
في حين اعتبر النائب في البرلمان اللبناني عماد واكيم، أن الحزب يستكمل حماية جميع المتهمين في قضية تفجير مرفأ بيروت ويؤمن لهم الحصانة من المحاسبة أمام القضاء، ويفتعل الأحداث الأمنية المتنقلة بهدف حرف الأنظار ودفن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير إلى وجود مروحة ممن ادعى عليهم القاضي لأنهم "وفق منهجيته تسلموا تقارير خطية تحدثت عن شحنة نيترات الأمونيوم، وأنها إن تفجرت تفجر مدينة بيروت ولم يتحملوا مسؤوليتهم"، لافتاً إلى أن "حزب الله" تدخل وباشر ضغطه على القضاء لمنع الحقيقة والعدالة.
اغتيالات مترابطة
وفي سياق الربط بين قضية اغتيال الحريري وتفجير مرفأ بيروت، يشير المحامي في القانون الدولي، أمين بشير، إلى أنه بعد الشبهات الكبيرة حول تورط "حزب الله" باغتيال الحريري، هرب باتجاه افتعال حرب تموز 2006 مع إسرائيل، إذ "يمكن طي موضوع التحقيق باغتيال الحريري من خلال حدث أكبر منها"، إلا أنهم لم ينجحوا بذلك، خصوصاً بعد أن انتقل الملف إلى المحكمة الدولية، ما أدى إلى "لجوء الحزب لإقناع اللبنانيين بأن هذا التحقيق مسيس، بحيث نشروا فيديو مفبركاً لقاضي تحقيق يرتشي أموالاً، وغاصوا بمسألة شهود الزور، الذي اعتمد الحزب عليهم لتضليل المحقق".
ويوضح بشير أنه "عندما نقارن منهجية الحزب بمواجهة المحكمة الدولية بجريمة المرفأ، نلاحظ السيناريو نفسه، بحيث يحاول الحزب اختلاق موضوع أضخم من حدث المرفأ ليتمكن من طي هذه الصفحة والقول إن هناك قضية أكبر من المرفأ، وذلك عبر إشعال الفتنة الأهلية التي برزت في أحداث الطيونة الأخيرة".
ويتابع بالقول إن "حزب الله يعمل على إخماد أي صوت على علم بما حدث"، وأن "الاغتيالات التي عقبت الانفجار من العقيد جوزيف أبو رجيلي، إلى المصور جو بجاني، والصحافي لقمان سليم، تهدف لطمس أي دليل يكشف عن حقيقة التفجير"، مشبهاً سلسلة الاغتيالات بتلك التي عقبت اغتيال الحريري عام 2005، واستهدفت بشكل رئيس أمنيين توصلوا بالتحقيقات إلى أدلة تطاول الحزب.
دسائس أميركية
في المقابل، تصر مصادر "حزب الله" على اعتبار "التحقيق الذي يجريه بيطار سياسي بامتياز"، متهمةً الأميركيين بتركيب اتهامات معلبة ضد الحزب عبر المحقق العدلي، جازمة الاستمرار باستخدام جميع الوسائل المتاحة حتى عزل القاضي، مشددة على أن الأميركيين والإسرائيليين حاولوا إلصاق تهمة اغتيال الرئيس الحريري للحزب، "إلا أنهم حين فشلوا انتقلوا إلى محاولة جديدة عبر قضية المرفأ".
وفي وقت سابق اتهم الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، القاضي بيطار بأنه "مسيس"، وقال إن "هذا المحقق يشتغل سياسة والتحقيق مسيس"، و"المطلوب إعادة الملف إلى المسار الطبيعي".
معادلة جديدة
إلا أن اللافت بعد التصعيد الأخير، أن حزب الله استطاع أخذ الأمور باتجاه خطير، حيث برز استدعاء المحكمة العسكرية لرئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، على خلفية أحداث الطيونة، الأمر الذي يطرح تساؤلات إذا ما كان الهدف الضغط بهدف إزالة العقبة الأخيرة التي يجسدها جعجع بالدفاع عن التحقيق ورفض محاولات عزل بيطار، ولا سيما أن صيت تلك المحكمة ذائع لناحية تأثير الحزب في قرارتها، ومدى العلاقة المميزة التي تجمع بين مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي ومسؤولين من "حزب الله"، الأمر الذي اعتبره النائب السابق، فارس سعيد، محاولة مكشوفة لـ"حزب الله" عبر المحكمة العسكرية لفرض معادلة التحقيق بالمرفأ مقابل فتح ملف قضائي بحق جعجع، في وقت سجل فيه موقف جديد لرئيس حزب القوات اللبنانية من موضوع استدعائه، إذ غرد عبر حسابه على "تويتر"، "أنا كرئيس حزب لبناني شرعي تحت القانون، ولكن لتستقيم العدالة، على القضاء أن يتعاطى مع كل الأطراف في البلد على أساس أنهم تحت القانون. يظهر أن الطرف الأساسي في أحداث عين الرمانة يعتبر نفسه فوق القانون، وللأسف يجاريه القضاء العسكري حتى الآن بهذا الاعتقاد".
في المقابل، أثنى أمين عام "حزب الله"، حسن نصر الله، على جهود المحكمة العسكرية بإجراء تحقيق اعتبره شفاف لكشف ملابسات أحداث الطيونة، ملمحاً إلى تأييده استدعاء المحكمة لجعجع بهدف الاستماع إلى إفادته.