Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روسيا تلقي بظلالها التاريخية والرومانسية على مهرجان "الجونة"

فيلمان يستعيدان فترة تمتد من زمن ستالين إلى مرحلة أكثر حرية ورومنطيقية

مشهد من "الرقيب فولكونوغوف هرب" يعرض البطش الروسي (موقع الفيلم)

منذ تأسيسه قبل أربع سنوات، اشتهر مهرجان الجونة السينمائي بسجادته الحمراء لا بل أصبحت تلك السجادة تختزل حدثاً ثقافياً وفنياً كاملاً، وهذا أمر مجحف في حق هذه التظاهرة السينمائية التي تعرض كل عام عشرات الأفلام التي يختارها منظموها من بين ما يعرض في أبرز المواعيد الفيلمية التي تجري في الغرب. يشتكي القراء وعشاق الشاشة العرب أن وسائل الإعلام التقليدية لا تنقل لهم سوى النميمة وأخبار الفساتين وكل ما يحدث حول المهرجان من مسائل سطحية لا تمت إلى الفن والثقافة بصلة، وفي هذا إهانة كبيرة لأهداف هذا الحدث الذي انطلق هذا العام بلا فيلم افتتاح نزولاً عند رغبة الإدارة، ذلك أن الحضور كان في الدورات الماضية يغادر الصالة فور انتهاء مراسم الافتتاح، من غناء على المسرح وتقديم لجان التحكيم وإلقاء بعض الكلمات. رغم هذا كله، لا يمكن تقييم أي مهرجان سوى انطلاق من مستوى برنامجه ونوعية عروضه وأهمية ضيوفه، وفي هذه المجالات تمكن "الجونة" إلى حد ما كسب الرهان عاماً بعد عام، ولو أن هناك كثيراً من الجهد في انتظار المهرجان الفتي طوال السنوات المقبلة، إضافة إلى عدد من الأخطاء التي ينبغي تلافيها. 

من "كان" إلى "الجونة"

من لا يكترث الكثير للبهرجة وقضاء لياليه في السهرات الصاخبة، ثمة عالم كامل من الأفلام يفتتح أمامه. هذه الدورة كغيرها من الدورات السابقة، استقطبت نخبة من الأفلام التي شاركت في مهرجانات الصف الأول كبرلين وكان والبندقية، إضافة إلى أفلام تعرض للمرة الأولى. لا يوجد فيلمان يتشابهان، لا على مستوى المواضيع المطروحة أو المعالجة. ينتقل المشاهد باستمرار من الماضي إلى الحاضر، ومن هذا المكان إلى ذاك في تنوع يعبر عن السينما المعاصرة. كثيرة هي الأفلام التي كنت شاهدتها قبل الوصول إلى الجونة، لكن بعضها يستحق مشاهدة ثانية، مثل الفيلمين اللذين نتناولهما في هذا المقال، واللذين تجري أحداثهما في روسيا. وروسيا التي نكتشفها هنا هي روسيا قبل عقود خلت، تمتد من زمن ستالين إلى فترة أكثر حرية ورومنطيقية. الفيلم الأول هو "مقصورة رقم 6" للفنلندي يوهو كوسمانن، المخرج الذي كان ذاع صيته مع "الرجل المبتسم" الفائز بالجائزة الكبرى لقسم "نظرة ما" في مهرجان كان قبل خمس سنوات. مع "مقصورة رقم 6" دخل كوسمانن مسابقة كان، فأسندت إليه "الجائزة الكبرى" مناصفة مع المخرج الإيراني أصغر فرهادي عن "قهرمان".

إذاً تجري أحداث هذا العمل المختلف في روسيا ويتعقب خطى عالمة آثار فنلندية (سايدي هارلا) جاءت إلى هنا للدراسة وتعلم اللغة. هذا من حيث المكان، أما الزمن فهو غير محدد، ولكن يمكن القول إنه قبل اختراع الهاتف الخلوي. مغامرة لورا (هذا اسمها) تأخذ من القطار مسرحاً لها. لورا ستركب القطار للانتقال من مدينة روسية إلى أخرى. في الأصل، كان من المفترض أن تقوم برحلتها مع صديقتها، إلا أنها في النهاية سترحل وحدها. في القطار، ستتعرف على رجل روسي مدمن الكحول (يوري بوريسوف). هذا الأخير سيكون رفيق سفرها الوحيد أياماً عدة، وصولاً إلى الوجهة التي تقصدها (مورمانسك) حيث في انتظارها ما تسميه منقوشات صخرية عمرها آلاف السنوات. ورغم أنه لا شيء يجمعهما، فتقارب ما سيحدث بينهما نكتشف تفاصيله في الفيلم. إنه لقاء الأضداد في هذا الفيلم الذي يحمل في داخله روحاً روسية يحلو الغوص في أعماقها، ويلتقطها المخرج بكثير من الطبيعية والعفوية والعاطفة. 

غير قليل عدد الأفلام التي تجري في قطار، لكن كوسمانن ينفض الغبار عنها جدياً، من خلال أفلمة رواية روزا ليكسوم (بالعنوان نفسه) وجعلها مشبعة بلحظات القلق والتوتر التي تتبلور تصاعدياً. لورا تشعر بحزن، فهي اضطرت إلى الرحيل من دون صديقتها التي منعها ظرف ما من اللحاق بها. الخوف من الوحدة أقوى منها، نراها حساسة وهشة وهذا ما يرميها في أحضان رجل نكتشفه شيئاً فشيئاً. فهذا الأخير يبدو لنا في البداية شخصاً لا يطاق وصاحب طباع سيئ، لكن لقطة بعد لقطة تألفه الكاميرا وتتكيف معه لورا إلى حد الانسجام والتعاطف اللذين يأتيان بجرعات قليلة عندما يشرف الفيلم على نهايته. حزن لورا يتبدد عندما تقرر الإذعان لمنطق اللحظة، وعيشها بأي ثمن. ما سيحدث بينها وبين الرجل الذي سيشاركها المقصورة حسي وينقل الفيلم إلى مصاف آخر. ينطلق من سوء فهم ليتحول في يد المخرج إلى حكاية فيها العديد من المفاجآت والدعابة. من حكاية بسيطة، يستمد كوسمانن لحظة سينمائية ستصمد في الذاكرة. هذا عمل تقال فيه الأشياء بالمسكوت عنه بقدر ما تقال بالكلمات. ولعل إحدى أجمل اللحظات يتجسد في الرحلة الأخيرة المحفوفة بالمخاطر التي تقوم فيها لورا لإلقاء نظرة على المنقوشات الصخرية، فنلمس من خلال الصقيع تلك الروسيا التي تبقى بعيدة وقريبة في آن معاً.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تمرد على المنظومة

البعد، الزمني هذه المرة، هو ما يسعى إليه الفيلم الروسي "الرقيب فولكونوغوف هرب" إخراج ناتاشا ميركولوفا التي تعمل مع زوجها ألكسي تشوبوف منذ عام 2013، تاريخ عرض فيلمهما الروائي الطويل الأول "أجزاء حميمية". يحملنا جديدهما إلى ثلاثينيات القرن الماضي، تحديداً إلى روسيا عشية الحرب العالمية الثانية، ويتمحور على شخصية فيدور فولكونوغوف، رقيب يتمرد على المنظومة التي كان حتى الأمس القريب جزءاً لا يتجزأ منها. ينقلب عليها على الرغم من المكانة التي يشغلها داخلها. يشعر رجل الأمن هذا بأن حياته في دائرة الخطر، فيلوذ بالفرار قبل أن يتم توقيفه من السلطات السوفياتية التي تحكم البلاد بقبضة حديد. في فيلم يبدو كل شيء فيه أكاديمياً إلى حد كبير، المفاجأة التي ستقلب الأشياء رأساً على عقب تتمثل في التحذير الذي يتلقاه الرقيب، ومفاده ضرورة طلب المغفرة من أهالي الضحايا الذين أسهم في تعذيبهم. فنراه يزور هؤلاء فرداً فرداً، تفادياً لعذابات الآخرة وطمعاً في الجنة الموعودة، شرط أن تتحقق التوبة وينال المغفرة الصادقة، في دولة أمنية تقوم على مبدأ العقاب الاحترازي، أي تصفية كل من تعتقد السلطات أنهم لن يكونوا أوفياء لبلدهم في الحرب المقبلة. 

يندرج "الرقيب فولكونوغوف هرب" في إطار الأفلام الروسية التي تتصفح كتاب التاريخ الأسود منتقدة حقبة سياسية واجتماعية كاملة مرت فيها "الأمة الروسية". مع ذلك النقد ليس لاذعاً والنظرة الملقاة على تلك المرحلة من جانب المخرجة ناتاشا ميركولوفا والمخرج ألكسي تشوبوف ليست سياسية بقدر ما هي دراسة للإنسان في محاولته للفكاك من الظروف التي زج فيها ولا يملك فرصاً للنجاة. بدلاً من سيناريو تأملي يتخذ من الإيقاع البطيء أسلوباً للتعبير، يضعنا الفيلم في لعبة قط وفأر تحبس الأنفاس في بعض اللحظات. فولكونوغوف مصمم على تنفيذ مهمته لإنقاذ روحه، لكنه يملك القليل من الوقت، لذلك سباقه هو سباق ضد الزمن. الحركة في الفيلم متواصلة، وهي تبدو في لحظات معينة هدفاً في ذاتها، إلا أن الرسالة واضحة: لا يوجد أدنى شك في أن للجميع القدرة على التحول إلى جلاد إذا قرر النظام ذلك! ولكن هل من خلاص؟

المزيد من سينما