من خلال أحد عشر فيلماً وسعفتين ذهبيتين، تكرس اسم الأخوين البلجيكيين جان بيار ولوك داردين ضمن أبرز أقطاب السينما اليسارية الأوروبية، وبخلاف رفيقهما في نادي "أصحاب السعفتين"، كين لوتش، لا مكان في أفلامهما للموقف الإيديولوجي المسبق.
وعلى غرار البريطاني مايك لي، الذي يُعد هو الآخر من كبار رموز هذه السينما ذات النفس الاجتماعي، يسلك الأخوان داردين منحى نفسياً لنحت شخصياتهما المستوحاة من عوالم المسحوقين والمهمشين، لكن فرادة أفلامهما تكمن في النبرة المتفائلة التي تضع تلك الشخصيات على الحافة الفاصلة بين الخير والشر، لامتحان قدرتها على الثبات والمثابرة، إلى أن تأتي اللحظة المفتاحية التي تسمح لها بالخروج من عنق الزجاجة وتحقيق حلمها في الانعتاق.
"يومان وليلة"
قد تكون تلك اللحظة المصيرية حدثاً مؤثراً، كتسريح بطلتهما من العمل في "روزيتا"، الذي نالا عنه "السعفة الذهبية" مرة أولى عام 1999، أو قد تكون نتاج شعور غير متوقع تولده صدمة نفسية ما، كالإحساس بالذنب الذي يتملك بطلهما في "الطفل" ("السعفة الذهبية" 2005)، إذ يبيع ابنه الوليد لإحدى عصابات الإتجار بالبشر، لكن عاطفة الأبوة لا تلبث أن تتغلب على طبعه المنحرف والعدمي، ما يدفعه لاستعادة طفله والاعتناء بتربيته، وبالتالي تغيير نمط حياته بالكامل.
هذه اللحظة المفتاحية، التي أصبحت واحدة من السمات الأسلوبية المميزة لسينما الأخوين داردين، استعصت عليهما في فيلمهما "الفتى أحمد"، الذي يضعهما مجدداً على عتبة نيل سعفة ذهبية ثالثة، بعدما كانت الفرصة قد ضاعت منهما عام 2014، عن رائعتهما "يومان وليلة" التي ألهبت الجمهور والنقاد في كان، لكنها لم تحظَ باهتمام لجنة التحكيم آنذاك.
"الفتى أحمد"
يرصد فيلم "الفتى احمد" المسار التراجيدي لطفل بلجيكي في الثالثة عشر من عمره، يتحدر من عائلة مهاجرة مغربية، يتعرض لغسيل دماغي على يد إمام يدعي الوسطية والاعتدال، ويستدرج أبناء المهاجرين بحجة تعليمهم اللغة العربية في المسجد، لكنه يسعى سراً لاستقطابهم لحساب داعش وتسفيرهم للقتال في سوريا. وتصطدم خطط الإمام بمشروع خيري لمعلمة عربية تتطوع لتقديم دروس في اللغة العربية في مركز اجتماعي يعنى بأبناء المهاجرين، ولمواجهة ذلك، يحرّض الإمام تلامذته ضدها، متهماً إياها بمحاربة الدين والسعي لإفساد أخلاق الشباب، ما يدفع "الفتى أحمد" إلى مهاجمتها بسكين لقتلها، لكنها تنجح في صده، وتلوذ بالفرار.
المعلمة "الضحية"
ويجد الفتى نفسه مطارداً من قبل الشرطة، وللتنصل من المسؤولية، يأمره الإمام بتسليم نفسه، بعد توصيته بالتستر على النشاطات السرية للمسجد، والزعم بأنه أقدم على فعلته متأثراً بداعية متطرف على الإنترنت.
ويودع الفتى أحمد في مركز لإعادة التأهيل، حيث يخضع لبرنامج نفسي وتربوي بهدف تخليصه من لوثة التطرف، ويعتقد المشاهد في البداية بأن نقاشاته المطولة مع الأخصائية النفسية بدأت تؤتي ثمارها، ويطلب لقاء ضحيته (المعلمة) للاعتذار منها، لكن سرعان ما يتبين أن ذلك كان مجرد حيلة لجأ إليها لاستدراج المعلمة ومحاولة قتلها مجدداً، لكنها تنهار في اللحظة الأخيرة، ولا تقوى على مواجهته.
واستكمالاً للبرنامج النفسي، يقرر مركز التأهيل تنظيم زيارة أسبوعية يقضي خلالها الفتى أحمد يوماً كاملاً في إحدى المزارع، ما يعطي الانطباع بأن عودته إلى أحضان الطبيعية والسعادة التي يجدها في الاعتناء بالحيوانات، سيعيدان إليه بعضاً من براءة الطفولة، وتلوح في الأفق لحظة مفتاحية، نعتقد بأنها ستساهم في تخليصه من براثن التطرف، حين يقع في حب فتاة في مثل سنه، من بنات المزارعين، لكن رغباته الجنسية الوليدة توقعه في تمزق نفسي حاد، بسبب تعارضها مع مشاعره الدينية، ما يدفع به إلى الفرار من المزرعة.
يعتذر صادقاً عن فعلته
ثم نكتشفه في المشهد الختامي، وهو يحاول اقتحام بيت المعلمة لقتلها، وحين يجد الباب موصداً، يحاول تسلق جدار البيت، فيقع من السقف ويبقى مطولاً في باحة البيت مشلولاً، في مواجهة خطر الموت، ثم يستجمع قواه، ويلجأ إلى استعمال السكين الذي كان يريد طعن المعلمة به للطرق على الحاجز الحديدي للباحة، طلباً للنجدة، وتسمعه المعلمة وتأتي لإغاثته، وتمد له يدها مواسية، وعندها يشعر بالندم، فيعتذر صادقاً عن فعلته.
المخرجان اعترفا بأنهما بحثا جاهدَيْن عن اللحظة المفتاحية الأكثر مصداقية لانتشال بطلهما من شراك التطرف، واقتنعا بأن وضعه في مواجهة خطر الموت هو السبيل الوحيد لجعله يعي خطورة فعلته، بينما كان في السابق متأثراً في دعاية إمامه المتطرف الذي أوهمه بأن ألم الموت ليس أكثر وقعاً من لسعة بعوضة.