ظل الخلاف الحدودي بين السودان وإثيوبيا حول أراضي الفشقة قائماً من دون وجود بوادر لأي حلول سلمية، منذ سيطرة الجيش السوداني في نهاية عام 2020 على معظم هذه الأراضي التي كانت في يد مزارعين إثيوبيين لفترة ربع قرن، إذ فشلت كل محاولات الوساطة الدولية والإقليمية لإيجاد حل لهذه المشكلة، نظراً إلى تمسك الطرفين بمواقفهما بأحقية كل واحد منهما بهذه الأراضي.
لكن هل تمكّن السودان بالفعل من تحصين أراضي الفشقة، مما يصعّب على الجانب الإثيوبي استردادها، وما المتوقع لمجريات الأحداث في ظل تمسك الطرفين بمواقفهما وأرائهما المتشددة إزاء هذه الأزمة؟
الأمر الواقع
يقول رئيس أركان القوات البحرية السودانية سابقاً الفريق أول ركن فتح الرحمن محي الدين صالح، "في نظري، وضع الجيش السوداني في الحدود الشرقية ممتاز جداً، ويتمتع بمعنويات عالية، بخاصة أنه يفرض سيطرته التامة على 95 في المئة من أراضي الفشقة. صحيح هناك جيوب صغيرة لا تتعدى 5 في المئة من المساحات حيث بعض المجموعات الإثيوبية، لكن لا أعتقد أن الإثيوبيين يفكرون في الاعتداء على هذه المنطقة عسكرياً بالنظر إلى مشكلاتهم الداخلية الكثيرة سواء في إقليم تيغراي أو أمهرة أو المناطق الجنوبية، فضلاً عن منطقة بني شنقول، فهذه التحديات معقدة للغاية ما يصعّب عليهم فتح جبهة قتال جديدة".
ويؤكد أن منطقة الفشقة محصنة تماماً من ناحية الوجود العسكري، وكذلك في جانب المواثيق الدولية التي تثبت بأنها أرض سودانية 100 في المئة، حتى إن "المسؤولين الإثيوبيين مقرّين بذلك خلال جلسات عدة عقدها معهم الجانب السوداني عامي 2016 و2017، إذ كنت ضمن المشاركين في هذه المفاوضات، لكن أخيراً بدأت أطماعهم تظهر بعدما وجدت المجموعات التي تقطن هذه المنطقة السند من السلطة الاتحادية في أديس أبابا، بخاصة أن الفشقة تضم أراضي زراعية بمساحات واسعة تنتج معظم المحاصيل التي يحتاجون إليها، فأراد الإثيوبيون فرض سياسة الأمر الواقع انطلاقاً مما يشهده السودان من مشكلات وإضرابات بحسب تفكيرهم".
ويضيف صالح "من غير الوارد دخول الطرفين في حرب، لكن إذا حصل ذلك، فالقوات السودانية جاهزة وبإمكانها هزيمة الجيش الإثيوبي بكل سهولة، نظراً إلى طبيعة المنطقة التي تساعد على عمليات القتال، فضلاً عن توافر الروح القتالية للجندي السوداني، وكذلك الإمكانات اللازمة إذ تنتج المصانع المحلية كل أنواع الأسلحة من الذخيرة إلى ما يتعلق بالطائرات الحربية، لذلك فإن الكفة في صالح قواتنا"، مرجعاً فشل الوساطات الدولية والإقليمية إلى "تعنّت الجانب الإثيوبي برفضه الجلوس للتفاوض وفق ما هو موجود من خرائط ووثائق، ويعتقد الإثيوبيون أن السودان متشرذم سياسياً، لكنهم يتناسون أن الجيش لم يتأثر بما يدور في الساحة السياسية".
ويتوقع صالح أن يتراجع الجانب الإثيوبي عن مواقفه المتشددة، بالعودة إلى طاولة المفاوضات، وإقراره بأن الفشقة أرض سودانية، في وقت أن السودانيين ليست لديهم حساسية تجاه الشعب الإثيوبي، فالشعبان تجمعهما صلات وروابط أزلية.
قرى دفاعية
في السياق ذاته، يشير الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء ركن أمين إسماعيل مجذوب إلى أنه "معلوم أن الجيش السوداني يسيطر حالياً على 95 في المئة من أراضي الفشقة، لكن هذه الأراضي والحدود الشاسعة لا يمكن تأمينها إلا بعدد كبير جداً من القوات، بالتالي يفضل أن تكون هناك قرى دفاعية بوجود مواطنين ومزارعين سودانيين يدافعون عن أنفسهم، إلى جانب ممارسة الزراعة بصورة مستمرة، بخاصة أن الفشقة محاطة بثلاثة أنهر، فضلاً عن هطول أمطار موسمية، مما يجعل المياه متوافرة بشكل دائم، لذلك إن مسألة السيطرة على هذه الأراضي تعتمد على تحركات الجانب الإثيوبي، الذي يمارس حرب العصابات، وينفّذ عمليات إجهاضية من خلال الضغط على السكان، وخطف الأطفال والنساء، والمطالبة بالفدية لإطلاق سراحهم، إذ إن هذه الهجمات تهدف إلى زرع الخوف لدى السكان، وإجبارهم على التوجه غرباً نحو المدن الرئيسة، والابتعاد عن المناطق الخصبة الزراعية، لكن من حيث التأمين الخارجي لمنطقة الفشفة، فإن الجيش السوداني جاهز ومستعد لهذه المهمة".
ويعزو مجذوب أسباب فشل الوساطات الدولية والإقليمية لحل هذا النزاع، إلى إحساس القيادة الإثيوبية بأن قبولها بأي وساطة تثبت الحق السوداني على أراضي الفشقة، يعني هزيمة معنوية أمام شعبها، بخاصة أن رئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد يحابي إثنية الأمهرة التي كانت تسيطر على منطقة الفشقة، كما أنه يتوقع أن يواصل في هذا المسار المتشدد بعد فوزه بدورة جديدة في الانتخابات، وذلك من أجل توطيد أركان حكمه وتغطية فشله في حل مشكلاته الداخلية، بخاصة ما سببه من وضع عسكري سيّء في إقليم تيغراي الذي شهد قتالاً واسعاً راح ضحيته آلاف الإثيوبيين، ناهيك عن نزوح أكثر من 70 ألف آخرين إلى السودان.
وحول توقعاته لمجريات الأحداث ومستقبلها في ظل تمسك الطرفين بمواقفهما، يقول الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية، "معلوم أن الخرطوم تعتبر منطقة الفشقة أرضاً سودانية تنتظر فقط وضع العلامات الحدودية مع الجارة إثيوبيا، بينما ترى أديس أبابا الفشقة أرضاً مكتسبة، باعتبار وجود مواطنيها فيها لأعوام طويلة، بالتالي ترفض الاعتراف باتفاقية 1902، وتتمسك فقط بالسماح بدخول بعض المزارعين لفترة مؤقتة، لذلك الخيارات المتوقعة هي استمرار الصراع العسكري كخيار أول، أو الدخول في مفاوضات من أجل حسم النزاع باعتبار أن الأراضي سودانية كخيار ثانٍ، أو الاتجاه نحو إيجاد شراكة ذكية بالسماح لبعض الإثيوبيين استثمار أراضٍ في الفشقة مقابل الإيجار بشرط اقتسام العائدات مع الجانب السوداني، أو استئجار هذه الأراضي لأعوام طويلة".
اتفاقية 1972
في المقابل، يوضح المحلل السياسي الإثيوبي موسى شيخو أن "الجهات الرسمية الإثيوبية ترى أن أراضي الفشقة هي محل نزاع بين الجانبين الإثيوبي والسوداني، ولم يتم بتّها بدليل وجود لجنة أمنية مشتركة تعمل على معالجة الوضع وترسيم الحدود في تلك المنطقة، لكن لم يتم حتى الآن التوصل إلى اتفاق نهائي. فهناك مواضيع عاجلة عدة لم تكملها هذه اللجنة، كما هناك مواطنون إثيوبيون في أراضي الفشقة المتنازع عليها كان من المخطط البت في شأنهم إذا عرفت الحدود النهائية ووضعت العلامات. لكن من حيث المبدأ فإن إثيوبيا تقرّ بأن أراضي الفشقة هي أراضٍ سودانية في الأصل، وأن الخلاف مركز في مسألة العلامات على الحدود، وهي الخطوة التي لم تُستكمل بعد، لذلك طالبت أديس أبابا بانسحاب الجيش السوداني من الأراضي التي توغل فيها بتاريخ 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وهذا يعني أن الأمر قابل للنقاش والحل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينوّه شيخو إلى إمكانية أن تكون الأراضي التي هُجّر منها الإثيوبيون سودانية، لكن حتى يتم الحديث في هذا الأمر لا بد من رجوع الجيش السوداني إلى ما كان عليه الوضع على أساس اتفاقية 1972، حتى يتم بتّها، مؤكداً أن حكومة بلاده ترى أن الفشقة ليست محصنة في يد الجيش السوداني، وربما يحدث ما يحدث، لكنها تعتقد بأنه لا بد من حل هذا الخلاف سلمياً وعبر الحوار والتفاوض، بعيداً من أي حلول عسكرية. لكن ما هو قائم من تعقيدات على الأرض، ووجود جماعات مسلحة في المنطقة واعتداءات متبادلة بين مواطني البلدين في تلك الحدود ربما يقود إلى أمور لا تُحمد عقباها.
ويبيّن أن فشل الوساطات لحل هذا الخلاف، لا يعود إلى أسباب لها علاقة بالحدود فقط، بل تداخلت مشكلة الحدود مع أزمة سد النهضة، والتجاذبات السياسية في الداخل السوداني بين المكونين العسكري والمدني.
وحول توقعاته لتطورات الأحداث في أزمة الحدود، يقول المحلل السياسي الإثيوبي "ما دام السودان يربط موضوع الحدود بقضية سد النهضة، ويعمل على تسييس هذا المشروع (سد النهضة) باعتباره مهدداً لأمنه، بدلاً من أنه مشروع تنموي يمكن أن يستفيد منه في تنمية قطاعاته المختلفة، سيظل الوضع على الحدود متوتراً كما هو عليه الآن، وفي الوقت ذاته، إثيوبيا منشغلة أيضاً بمشكلات داخلية في مناطق الشمال (تيغراي)، ووجود جماعات مسلحة في غرب البلاد. فكل هذه الأمور تجبر البلدين على أن يستمر الوضع هكذا، مع احتمال أن يقود توصل الأطراف المعنية إلى حلول بشأن سد النهضة، إلى حل موضوع الحدود بين السودان وإثيوبيا".
تاريخ النزاع
وتشمل منطقة النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا ثلاث مناطق هي الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى والمنطقة الجنوبية، حيث تقع بين ثلاثة أنهر، هي نهر ستيت شمالاً، ونهر عطبرة غرباً، ونهر باسلام جنوباً وشرقاً، ما جعلها في فترات الخريف تعاني من انقطاع عن بقية أجزاء البلاد بسبب وعورة الطرق وعدم تعبيدها، ما دفع الجيش السوداني عقب سيطرته عليها إلى شقّ طرقات وتعبيدها وإنشاء المعابر لتسهيل حركة السير بين أجزائها.
وتمكّن الجيش السوداني في 4 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، من فرض سيطرته على مناطق كانت تستولي عليها عصابة الشفتة الإثيوبية منذ 1996، وهي أراضٍ سودانية وفقاً لاتفاقيات عام 1902، في الوقت الذي ترفض أديس أبابا اعترافها بهذه الإتفاقية، وطالبت الخرطوم بالانسحاب إلى حدود قبل 6 نوفمبر الماضي، كما اتهمتها بالسيطرة على معسكرات داخل الأراضي الإثيوبية.
ويعود تاريخ النزاع بين الدولتين حول منطقة الفشقة التي تقدر مساحتها الزراعية بنحو مليون فدان، إلى خمسينيات القرن العشرين، لكنه ظل قائماً بين المزارعين من الجانبين من دون تدخل الحكومتين.
ووقّع البلدان (السودان وإثيوبيا) في 1972 اتفاقاً بشأن القضايا الحدودية، وكانت الدول في منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حالياً) صادقت عام 1963 على عدم تغيير الحدود المرسومة بواسطة الاستعمار، واعتمادها حدوداً فاصلة بين الدول المستقلة، بالتالي أصبح خط قوين، هو المعترف به دولياً بين أديس أبابا والخرطوم.
وجرى رسم خط قوين عام 1902، ضمن اتفاقية أديس أبابا في العام ذاته، خلال فترة الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) للسودان، وجرى الترسيم بواسطة الميجر البريطاني تشارلز قوين، فأصبح الخط يُعرف باسمه.
وتحاذي إثيوبيا أربع ولايات سودانية، هي القضارف وسنار وكسلا والنيل الأزرق، على مسافة 744 كيلومتراً، في حين يمتد شريط الحدود بين ولاية القضارف وإقليمَي تيغراي وأمهرة الإثيوبيين، بنحو 265 كيلومتراً.