Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريشة ماتيس وألوانه تستعير من الشمال الأفريقي شمسه وملامح أهله

مبادئ الفن الإسلامي تنقذ الرسام الفرنسي من الوقوع في فخ التجريد

لوحة "باب القصبة" (1912) لماتيس (غيتي)  

 "لقد جعل الشرقيون من اللون وسيلة للتعبير" بمثل هذا القول حدد الرسام الفرنسي هنري ماتيس في مرحلة متوسطة من عمره هدفاً من أهداف إبداعه الفني، بمعنى أنه جعل من اتباع ذلك الخط التشكيلي الذي يتخذ من اللون أداة تعبيرية طريقاً له بحيث يضفي على رسمه قوة استثنائية تجمع الشكل واللون في بوتقة واحدة. واللافت هنا هو أن ماتيس حدد هذا التوجه منذ عام 1910، أي قبل زيارته الشهيرة إلى المغرب، الزيارة التي ربطت جزءاً كبيراً من نتاجه الفني بما سمي يومها "الفنون الإسلامية" كنتيجة لاحتكاك حقيقي له بالشمس والمشاهد المغربية. علماً بأنه كان قد زار الجزائر قبل ذلك بسنوات للغاية نفسها، لكنه عاد منها خائباً كما سنرى بعد قليل.

الفن الإسلامي في ميونخ

غير أن أول احتكاك حقيقي لماتيس بالفنون الإسلامية/ الشرقية لم يكن لا في هذه ولا في تلك، بل في مدينة ميونخ الألمانية، حيث قصدها لحضور معرض ضخم أقيم يومها هناك للفنون الإسلامية تشجع على حضوره بفعل تأثره السابق بما عرفه عن كتابات ديلاكروا عن غرائبية الشرق، وما شاهده من لوحات ذلك الرومانطيقي الفرنسي الاستشراقي الكبير. ولسوف يكتب ماتيس نصوصاً في غاية الحماسة عما شاهده في ميونخ، لا سيما عن المنمنمات الفارسية التي سحرته شكلاً ولوناً، لا سيما "ما فيها من طغيان للديكور الخالص، الديكور المتواصل الذي لا يعتمد على أية أكسسوارات جانبية، بل على تكريس الفضاء كله لحيز تشكيلي حقيقي". وبدا من الواضح منذ ذلك الحين اتجاه ماتيس إلى فن يتلاءم مع رعبه من ترك أي فراغ في اللوحة. وهو الفن الذي حل بالنسبة إليه معضلة كانت تشغله كثيراً. وبحسب قوله "لقد مكنني الفن الإسلامي من العثور على أجوبة لتساؤلاتي حول العلاقة بين الشكل والتعبير. وذلك لأن الشرقيين بوصفهم سادة الفن التزييني، جعلوا اللون وسيلتهم التعبيرية المثلى"...

خيبة جزائرية

مهما يكن من أمر، كانت خيبة ماتيس إزاء رحلته الجزائرية كبيرة، ولكن ليس لأسباب فنية أو جمالية، بل تحديداً لأسباب تخرج عن ذلك. فهو حين قصد مدينة الجزائر عام 1906 وقد سبق له أن تآلف مع الفنون الأفريقية من خلال مشاهدة كثير من نماذجها في الغاليريهات الباريسية، كان يعتقد أن زيارته إلى الجزائر سوف تعطي فنه اندفاعة كبيرة، لكنه بدلاً من ذلك اكتشف أن مدينة الجزائر هي أشبه ما تكون "باريس صغيرة" أي مدينة مزدحمة خانقة. وهو حين توجه بعد ذلك محاولاً العثور على اندفاعته في الانتقال من جبال باتنة إلى بسكرا، وجد نفسه في مواجه نور شديد السطوع يكاد يعمي عينيه. فراح يتحدث عن "الجانب اللاإنساني من الطبيعة" وتوقف بحثه عن إلهامه الجديد. لكنه حين عاد إلى وطنه احتفظ من ناحية باهتمام تجدد لديه بالأحجام ما حوله إلى النحت في مرحلة ما، ومن ناحية ثانية بذكرى مشاهد طبيعية غامضة سرعان ما تحولت لديه إلى خلفية للوحات بدت في النهاية شرقية الملامح والديكورات، إنما بعيدة كل البعد عن النسغ الاستشراقي على طريقة ديلاكروا منها مثلاً "عارية بالأزرق" و"ذكرى من بسكرا". وعلى أية حال كان لافتاً في هذا المجال انصرافه بعد عودته إلى تزيين لوحاته، بل حتى جدران محترفه كذلك بكل تلك المساحات اللونية والبسط التي سوف تعثر على اندفاعة لها من خلال رحلته التالية إلى "الشرق"، وكانت هذه المرة إلى المغرب الذي سيزوره مرات عديدة، في رحلات ستكون أكثر غنى وتأثيراً على فنه.

عندما اختفى الطوفان

كانت رحلته الأولى إلى المغرب عند بداية عام 1912، واصطحب معه فيها زوجته آميلي، ولكن على خطى ديلاكروا في رحلته الشهيرة إلى هناك قبل قرن من الزمن تقريباً. صحيح أن وصوله إلى طنجة تزامن مع طوفان مياه المطر، لكن الطوفان سرعان ما توقف مفسحاً المجال للفنان كي يمضي ثلاثة أشهر من المتعة تحت وابل شمس شتائية ناعمة، وكان قد بقي أول الأمر أياماً حبيس غرفته في الفندق، حيث راح يخط رسوماً ويجرب ألواناً مشرقة معظمها تعبر عن طبيعة صامتة. ولقد دون ماتيس خلال تلك الرحلة ملاحظات وتخطيطات على كراسات سوف تتبدى في النهاية عملاً إبداعياً فاتناً، كما ستحمل إرهاصات بالعدد الأكبر من لوحاته الكبرى التي سينجزها في محترفه بعد عودته إلى فرنسا، وكان أغلبها مستوحى من تلك الأشهر الثلاثة التي أمضاها في المغرب الذي فتن به في تلك الرحلة الأولى. ولنذكر هنا كذلك أن رحلته التالية إلى المغرب أيضاً في خريف ذلك العام نفسه وشتاء العام التالي، لم تقل عن الرحلة الأولى غنى، وهو ما أضاف إليه ماتيس كراسات أخرى تحمل بدورها ملحوظات وتخطيطات، بل حتى أجزاء من مشاهد طبيعية وإسكتشات تمثل من يلتقي بهم من الناس، لن يفوت من يطلع عليها ملاحظة أنها تكاد تكون ممهدة لعدد إضافي آخر من لوحاته اللاحقة، بما فيها تلك اللوحات التي تكونت من تلك الديكورات المتواصلة التي كان قد سبق له أن تحدث عنها قبل ذلك بكثير. وهي تنتمي إجمالاً إلى أسلوب سيطغى خلال المراحل التالية من مساره الإبداعي حتى على لوحاته التي لن تكون لها علاقة بالشرق، وصولاً إلى مرحلته الأخيرة التي أبدع خلالها أشكالاً في قصاصات من ورق ملون وما شاكل ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تأثير مغربي إلى الأبد

وهذا يعكس في نهاية الأمر وبالتأكيد مدى التأثير الذي كان للمغرب على اختياراته الفنية الأسلوبية، ما يجعله واحداً من أكثر الفنانين الأوروبيين ارتباطاً بالفنون الشرقية، سواء أكانت فنوناً إسلامية أو غير إسلامية. وسوف لن ينسى ماتيس أبداً خلال السنوات التالية من حياته، تلك الأيام المشرقة والمضيئة التي تلت أيام الفيضانات الأولى التي بقي فيها في الفندق الطنجي... حيث نراه يتحدث عنها حديث المرء عن انفتاح ستائر مسرح أشرقت أنواره بالتدريج ليغمر كل شيء، وبما في ذلك داخل الروح، بنور بهي يتضافر مع ألوان متداخلة في مشهد سيكون من العلامات المميزة لفن ماتيس. ونعرف أن هذا الفن عرف لديه هنا انطلاقته الجديدة حين خرج إلى الأزقة والساحات وسراديب القصبة في طنجة نفسها، ليلتقط مشاهد الطبيعة والحياة اليومية في مدينة لم يُخفَ عنه غموضها الصارخ، ولا غموض أهلها الذين راح يصور بورتريهات لهم، تعبق بما يؤكد افتتانه بهم. ومن تلك اللوحات التي سرعان ما سوف تفرض حضورها في فن ماتيس بعدما عاد إلى فرنسا وقد اكتملت تينك الرحلتان، لوحة "زهراء على الشرفة" ولوحة "باب القصبة" بين تلك الأعمال التي بدت كاحتفال بالناس والطبيعة في المغرب كان من الواضح أنه يعطيه حياة جديدة وطراوة وطزاجة لونية لا تضاهى. في تلك اللوحات "جرب" ماتيس كل العناصر الجديدة على فنه وطبق كل النظريات التي كان يصيغها لذلك الفن. بالتالي لا شك أن في إمكاننا أن نتحدث في صدد تلك المرحلة من حياته وفنه عن "ماتيس ما قبل المغرب" و"ماتيس ما بعد المغرب". بمعنى أن ماتيس الأول الذي كان يغوص في نزعة فنية تجمعه بتيار الضواري، أخلى المكان لماتيس آخر يستقي إبداعه من الشمس وألوانها ومن وجوه بشر طيبين كان من الواضح مدى هيامه بهم.

مبدآن أساسيان

ولعل ما هو أهم من ذلك هو أن تلك النظرة إلى شمس الشرق ومناظره وناسه، بدلاً من أن ترمي فنه في نوع من تركيبية مفترضة ومتوقعة، أوصلته إلى تبسيطية في التشكيل مدهشة، بل قادته أحياناً إلى حدود تجريد لا شك أنه عرف كيف يقاوم الغوص فيه، مع أنه دنا منه أحياناً حتى حدود الخطر، وذلك تحديداً بفضل لغة تمزج بين مبدأي "معاداة الفراغ" و"الديكور المتواصل" اللذين اتقنهما بشكل رائع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة