Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تشابهات بين أزمة قناة السويس وعمليات الانسحاب من كابول

استخدمت كلمات "مشينة وهزيلة ومذلة" في وصف ما حصل في أفغانستان خلال الصيف. ويتحدث والد أحد محرري "اندبندنت" عن ذكرياته إبان حرب 1956 بشكل يغاير التاريخ الرسمي

جنود بريطانيون يضبطون حشوداً مصرية ارتصفت في مرفأ بورسعيد للحصول على مساعدات غذائية في أزمة السويس 1956 (غيتي)

في ليلة الألعاب النارية السنوية المسماة "بونفاير" [ألعاب نارية تجري في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) سنوياً إحياء لذكرى إحباط خطة تفجير مجلس اللوردات بهدف اغتيال الملك جيمس الأول 1605] في 1956، جلس جندي سلاح الإشارة، كيث أوهير [والد محرر المقال]، عند طرف سريره في معسكر "كاتيريك" للجيش في "نورث يوركشاير" ينتظر قرار إرساله ضمن المهمات العسكرية. إذ إن الحوادث التي راحت تعرف بـاسم "أزمة السويس" بدأت قبل سبعة أيام مع اجتياح الجيش الإسرائيلي الأراضي المصرية. وقد جرى حشد الوحدات العسكرية البريطانية والفرنسية بذريعة حفظ السلام، لكن هدفها الحقيقي تمثل في دعم إسرائيل للسيطرة على تلك القناة الشهيرة.

وأثناء صيف 2020، راح معلقون وسياسيون يتعاقبون على عقد مقارنات بين الانسحاب المتخبط من كابول وبين حوادث تاريخية سابقة. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن أصداء الانسحاب الجوي من سايغون سنة 1975 لم تكن بعيدة من العناوين الرئيسة [في تلك المقارنات]. أما بالنسبة إلى بريطانيا فقد راحت كلمة واحدة تتردد أكثر من غيرها. كانت تلك الكلمة هي "السويس".

عبارات وتوصيفات كـ"مشينة" و"هزيلة" و"مذلة" وردت كأنها اتهامات في مقالات صحافية أساسية، و[مؤتمرات جمعية] "هانسارد" [التي تسعى إلى تعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية]. وقد توافق طرفا "مجلس العموم" في توجيه الانتقادات السريعة إلى كيفية تعامل حكومة بوريس جونسون ووزير الخارجية السابق دومينيك راب، مع عمليات الانسحاب من أفغانستان. وفي الإطار عينه، عبّر رئيس "هيئة الشؤون الخارجية" توم توغيندهات، من حزب المحافظين، عن اعتقاده بأن "الوضع في أفغانستان مثل ببساطة الكارثة الأكبر في السياسة الخارجية منذ [أزمة] السويس". وكذلك أضاف ممثل إيرلندا الشمالية أوين بيترسون، أن "الأمر [الانسحاب من أفغانستان] شكّل أكبر إذلال لبريطانيا منذ [أزمة] السويس". وفي السياق، بدا أن ما حدث مع بريطانيا في الشرق الأوسط قبل 65 سنة، في مثل هذا الوقت من العام، ترك جرحاً دائماً في النفسية السياسية البريطانية. وما زال ذلك الجرح حياً على مدى الأعوام.

لا يعني ذلك بالطبع أن جندي سلاح الإشارة، أوهير، مهتم بكارثتي الإذلال والسياسة الخارجية. إذ إن إلغاء مجمل المهمات العسكرية في اللحظة الأخيرة آنذاك، أسعده كثيراً. إذ تخلت فرنسا وبريطانيا، تحت ضغط أميركي، عن محاولاتهما المتغطرسة لاستئناف "استعمارهما الجديد". وكذلك فإن ورود اسم كنيته هنا (أوهير) ليس مصادفاً، فالراوي والمؤلف هما والد وابنه. ولدى والدي كلام كثير عن السويس في السنوات التي تلت [الأزمة]، وقد سجّل كثيراً مما قاله. ورحتُ من جديد أستمع إلى كلماته مع اقتراب الذكرى السنوية الـ65 لأزمة السويس.

إذاً، لماذا كانت السويس مذلة إلى هذا الحد؟ وقد ذُكِر أنها عبرت عن نهاية الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وجعلت بريطانيا وفرنسا تدركان أنهما لم تعودا قوتين عظميين. إذ انتقل ذلك الوشاح (وشاح القوة العظمى) إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. هل يفسر هذا سبب قصور الأوروبيين المفجع في مسرح الحوادث العالمي؟ هل مثّلت [أزمة السويس] محاولة مختالة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كي تعود مرحلة بناء الإمبراطوريات في القرن الذي سبق [التاسع عشر]؟ أم أن الإمبرياليين الأرستقراطيين ببساطة استمروا آنذاك في الإيمان بصوابية أساليبهم؟ هل شكّلت تلك الأزمة بالفعل مرحلة في تاريخ القرن العشرين استدعت اندحار "الحرس القديم"، وإعادة ذلك الحرس إلى عواصمه الإمبريالية الآفلة، جاراً خلفه أذيال الخيبة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في يوليو (تموز) 1956، عمد الرئيس جمال عبد الناصر، زعيم جمهورية مصر القائمة حديثاً آنذاك إثر انقلاب سنة 1952 الذي أطاح الملك فاروق، إلى إعلان تأميم قناة السويس التي تعبر مباشرة داخل الأراضي المصرية، وتصل المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر. وحينها، مثلت تلك القناة، كحالها اليوم، أهمية استراتيجية من الناحيتين التجارية والعسكرية. إذ بنيت من قبل الفرنسي فيرديناند دي ليسيب بين عامي 1859 و1869، وظلت، قبل مرحلة التأميم، مملوكة من قبل البريطانيين بالدرجة الأولى وبعض المساهمين الفرنسيين.

وفي ذلك السياق، ليس من المفاجئ أن القناة مثّلت رصيداً استراتيجياً أساسياً على مدى الحربين العالميتين الأولى والثانية. وإثر انتهاء النزاع الأخير [الحرب العالمية الثانية] غدت ممراً لشحنات النفط، التي شكّلت عنصراً تجارياً عظيماً خلال النصف الأول من القرن العشرين، ومصدرها دول الخليج الحديثة الغنى آنذاك. وأسهمت القناة بفاعلية كبيرة في تأمين خط حيوي تجاري من غرب أوروبا عبر المحيط الهندي إلى أستراليا، ونيوزيلندا، وأبعد من ذلك. بيد أن بريطانيا وفرنسا كانتا قد فقدتا السيطرة على تلك القناة، والقرار المتعلق بهوية ودوافع من يستخدمها. وقد فاوض عبد الناصر في مسألة انسحاب آخر الحاميات العسكرية البريطانية. وكذلك فإن مصر التي كانت تحت الانتداب البريطاني، تحررت فجأة من وصاية لندن. كذلك امتلك الفرنسيون أيضاً حساباً إضافياً مع عبد الناصر، إذ اعتقدوا أنه يقدم الدعم لثوار الجزائر في سياق قتالهم ضد الحكم الاستعماري.

في ذلك الوقت، تولى أنطوني إيدن [من حزب المحافظين] رئاسة الوزراء في بريطانيا)، وقد شغل قبل ذلك منصب وزير خارجية في حكومة ونستون تشرشل. وسيغدو إدين الأرستقراطي المؤمن بدور بريطانيا وموقعها الاستثنائيين في العالم، آخر رئيس وزراء بريطاني يرى بأن الإمبريالية لم تستنفد مصداقيتها بعد. وأكثر من أي شيء آخر، بدا إدين كأنه غير مدرك للتحولات التي يشهدها العالم حوله. وحين غادر آخر الجنود البريطانيين مصر، وأعلن عبد الناصر تأميم القناة، بدا رد فعله كأنه خارج من سيناريوهات الاستعماريين. كذلك بدت كراهيته لعبد الناصر خارجة عن السيطرة، بل تقارب اللاعقلانية. وأعلن أنه "لن يكون لعبد الناصر موطئ قدم في قصبتنا الهوائية [أي القناة]". وحين رفض مكتب الشؤون الخارجية البريطاني النظر في إمكانية اغتيال عبد الناصر، أرسل إدين قوات المشاة [إلى مصر].

وكان إدين مخادعاً أيضاً. إذ وضع البريطانيون والفرنسيون خطة مع إسرائيل، البلد الذي دخل في نزاع مع مصر التي منعت منذ إنشاء الدولة اليهودية سنة 1948، السفن الإسرائيلية من الإبحار عبر قناة السويس. وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول)، اجتاحت إسرائيل الأراضي المصرية بهدف حماية القناة، وفق ما أعلن. واحتل الإسرائيليون بسرعة مجمل شبه جزيرة سيناء وسيطروا على المعبر المائي (القناة). وقد عرضت بريطانيا وفرنسا التدخل، بزعم الفصل بين الإسرائيليين والمصريين وتأمين سلامة قناة السويس أمام الملاحة الدولية. ولم يكن ذلك سوى خدعة شاهدها العالم بأسره، على الرغم من نفي القوى الثلاثة المعتدية.

وبالطبع، دارت حوادث مسألة السويس من خلال منظور "الحرب الباردة". فمع التخلص من القوى الاستعمارية الأوروبية راحت الأمم الأفريقية تتأرجح بين محوري الغرب الرأسمالي والاتحاد السوفياتي. وقد ضمنت مصر في 1956 تمويلاً من السوفيات لبناء السد العالي في أسوان على نهر النيل، وكذلك تلقت شحنات سلاح من تشيكوسلوفكيا، الدولة العضو آنذاك في "حلف وارسو" التابع للاتحاد السوفياتي. وأثار ذلك الأمر قلقاً كبيراً لدى الحكومة الإسرائيلية. إذ تزامنت تلك الحالة مع نزاع عربي– إسرائيلي بدأ مع قيام دولة إسرائيل على أراض يعتبرها العرب الفلسطينيون، بدعم من المصريين، ملكاً لهم. إنه النزاع المستمر إلى اليوم.

وحين رفض عبد الناصر عرض "المساعدة" الذي قدمه البريطانيون والفرنسيون، نفذوا عملية اجتياح وسيطروا على القناة، على الرغم من أنها كانت، لسخرية القدر، مغلقة عملياً بفعل وجود 47 سفينة معطلة أو غارقة في مياهها إثر الاجتياح، ما أخرج ذلك الممر المائي من الخدمة. من ناحية أخرى، هدد الاتحاد السوفياتي المتورط آنذاك في مواجهة الانتفاضة المجرية سنة 1956، بأنه سيدافع عن حليفته الجديدة مصر. حتى أن الرئيس نيكيتا خروتشوف تحدث عن احتمال هجمات صاروخية ضد لندن وباريس بغية حماية "الأمم الحرة في مواجهة الإمبريالية الغربية".

في المقابل، على نحو أخرق ومخادع، فشل إدين في إعلام الرئيس الأميركي دوايت د. آيزنهاور عن خططه لاجتياح [مصر]. وأغضب ذلك الأميركيين الذين أدركوا في الحال حقيقة النوايا البريطانية والفرنسية. وإزاء تخوفهم من انهيار حالة الوفاق التي حافظت على السلم العالمي الهش منذ قيام "الستار الحديدي"، فقد فهموا (الأميركيون) تلقائياً بأن النزاع في الشرق الأوسط يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة. كذلك تخوفوا من احتلال سوفياتي للمنطقة. وفي ذلك السياق، طالب آيزنهاور، عبر تهديده بعقوبات مالية بحق الحكومتين البريطانية والفرنسية، وأيضاً عبر مجلس الأمن في الأمم المتحدة، بانسحاب قوات لندن وباريس. وآتى ذلك التهديد ثماره. فقد ازداد الطلب على الجنيه الاسترليني، وجرى تقنين الوقود مع تضاؤل إمدادات النفط. وثمة مفارقة ساخرة في أن ذكرى أزمة السويس هذا العام ربما لم تخطر على بال من انتظروا بسياراتهم في أرتال أمام محطات الوقود، وعلى الرغم من تأييد الصحافة ذات التوجه اليميني الاجتياح [خلال أزمة السويس]، فإن التأييد الشعبي له في بريطانيا، وكذلك فرنسا، راح يتهاوى. "القانون لا الحرب"، علت الصرخات في الشوارع.

في خضم ذلك، عارض زعيم حزب العمال هيو غايتسكيل التدخل [العسكري البريطاني في السويس]، وفي ظاهرة مهمة آنذاك حصل انشقاق في صفوف حزب المحافظين أيضاً. ثم جرى التوصل إلى وقف لإطلاق النار وانتهى العدوان في يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1956. ومع انتهاء ديسمبر (كانون الأول)، غادرت الجيوش (البريطانية) وكذلك إدين. إذ إنه غادر لندن في 19 نوفمبر للنقاهة في جامايكا، في منزل إيان فليمينغ مؤلف روايات جيمس بوند، بغية التعافي من الصدمة والعملية الجراحية التي خضع لها في وقت سابق من ذلك العام. ثم استقال إدين في النهاية، واستُبدل بـهارولد ماكميلان في يناير (كانون الثاني) 1957. وبلغت الخسائر البريطانية [خلال أزمة السويس] 16 جندياً قتيلاً، والفرنسية 10 جنود، وتلك خسائر ضئيلة بالمقارنة مع خسائر الإسرائيليين التي بلغت 172 قتيلاً، والمصرية التي قد تكون ناهزت الـ4 آلاف قتيل. في المقابل، خلفت تلك الحوادث تأثيراً هائلاً على النفسية البريطانية والفرنسية. فمنذ ذلك الحين، ستبدأ بريطانيا على نحو متزايد، بالاعتماد على الولايات المتحدة حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية. وفي المقابل، غادرت فرنسا حلف الـ"ناتو" وتوجهت لعقد شراكة مع ألمانيا وبلدان أوروبا القارية، الأمر الذي سيقود في النهاية إلى ولادة الاتحاد الأوروبي.

حينما أستمع الآن إلى تسجيلات والدي متحدثاً عن السويس، يظهر اختلاف مقاربته بعض الشيء عن المقاربة المسلم بها والمقبولة عموماً. إذ جاءت صيغته من الحوادث موجزة وضبابية بعض الشيء من ناحية رؤيته السياسية إلى العالم، إلا أن الاستماع إليه اليوم بعد مرور كل تلك الأعوام متحدثاً بنباهة وشغف عن [تلك الأزمة]، قد يستحق جمهوراً أوسع يتخطى أفراد عائلته المباشرة.

ووفق أبي، "كان إدين طائشاً وبعيداً من أعماقه وخارج زمنه. وكان آيزنهاور خائفاً. لقد خشي حرباً نووية، فمن الحكمة أن يخاف المرء أمراً كهذا. رأى [آيزنهاور] أن عالماً يسوده السلام، مهما كانت السبل، يكون عالم أكثر ازدهاراً. لقد تغلبت السياسات البراغماتية على سياسات الماضي".

لقد امتلك جندي سلاح الإشارة أوهير علاقة معقدة مع السياسة. إذ يغدو شخصاً اكتئابياً ومزاجياً حين تنعطف الأمور، ثم لا يلبث أن يغدو هزلياً وساخراً. ومن الصعب دائماً تحديد مزاجه، بيد أن العائلة كانت متأكدة تماماً مما يعاديه ويعارضه. عبث السياسيين والسياسة عموماً لم يكن بمنأى من حنقه التهكمي. إلا أنه، على الرغم من ذلك، رأى أن حق الانتخاب يمثل هدية بالغة القيمة بالنسبة إلى الأفراد في الدول التي أشار إليها بـ"تلك المسماة ديمقراطية". وصوت في كل انتخابات تجري، على الرغم من أننا لا نعرف أبداً لمن كان يذهب صوته. بيد أنه أيضاً بدا قادراً على احتقار السياسيين من الأطياف كلها بطريقة متعادلة تماماً. بالتالي، فقد تلهف دوماً على ورقة الاقتراع.

وعلى نحو مماثل، احتقر أبي الصدقة، معتبراً إياها سبباً لإعفاء الحكومة من فرض الضرائب على الثروات بغية معالجة الأزمات. وبحسب رأيه، أدت الصدقة دور صمام أمان لأناس يدّعون الإحسان، فيما يدفعون أقل مما يتوجب عليهم للضرائب التي تفيد المجتمع. وكذلك بدا أحياناً تحررياً، ضمن اليسار أو اليمين، لم نعرف بالضبط، بيد أنه كره الخدمة [العسكرية] الوطنية لأنها، من جهة، هوجاء وبلا روح، ورتيبة، ولأنه من جهة أخرى احتقر الحرب والقتل أكثر من احتقاره للصدقة. في المقابل، لحسن الحظ ضمن أن تسمح له خدمته في سلاح الإشارة الملكي، بتركيز اهتمامه على الإلكترونيات والاتصالات. لكن، مقابل كرهه للسنتين اللتين قضاهما في الجيش، فإنهما مكنتاه من تكوين رؤية مباشرة آتية من داخل المؤسسة العسكرية. وذاك مكننا من سماع آرائه المتعلقة بدور بريطانيا في أزمة السويس، وغيرها من النزاعات التي أعقبتها، مرات كثيرة قبل وفاته في 1995 (بأثر من مرض "كرون" الذي أصابه في الـ59 من عمره. ولسخرية القدر، أقر الجيش في النهاية أنه وقع خطأ في تشخيص إصابته بـ"كرون" بدايةً، ثم راح الداء يتفاقم خلال خدمته في الجيش، إن لم يكن بسببها).

وتابع أبي سرد مقاربته، فذكر "قيل إن آيزنهاور ندم في ما بعد على عدم دعمه إيدن. لكن، جاء ذلك بمثابة إدراك متأخر من آيزنهاور. لقد اعتقد [الرئيس الأميركي] أن النزاعات التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط، الناتجة بمعظمها من أفعال حكومات غربية، كان يمكن تلافيها لو أطيح بـعبد الناصر. لم يكن الأمر بهذه السهولة. وأكثر من أي شيء آخر، كان لعبد الناصر كل الحق في إعلان السيادة [المصرية] على القناة. إذ تعبر داخل بلده وحفرت بسواعد شعبه. حتى أنه لم يهدد مرة في منع الملاحة البريطانية. بالتالي، تعني كل مقاربة منصفة أن من حقه الحصول على حصة ما [من القناة]".

وفي منحى متصل، كان مهجوساً بـ"الإنصاف". حين كنت صغيراً، وبخني ذات مرة على تصرف عرضي سيء، ثم أحس في ما بعد أنه مخطئ. واشترى لي مجموعة من كرات الـ"تنس" الجديدة. لم نكن ميسورين على نحو خاص، وكنت طوال الصيف أستخدم أنواعاً رثة من الكرات. قدرت الهدية حق تقدير، لأنه لم يكن يوماً ذاك الشخص الذي يستعرض عاطفته وسخاءه. لكنه في هذه الحالة، رأى أنه لم يكن منصفاً. وذاك أمر مهم بالنسبة إليه.

وقبل زمن من تحول قضية حقوق التقاعد للجنود النيباليين الذين يخدمون في الجيش البريطاني إلى مسألة سياسية معاصرة، أطلق أبي حملة للمساواة في حقوق التقاعد، بعد تصادقه مع الجندي نيراف ثارو من كاتماندو [عاصمة النيبال]، الذي خدم في فوج الـ"غورخا رايفلس الملكي". وقبل مدة وجيزة، وجدت قاموساً إنجليزياً- نيبالياً قدمه نيراف له هدية. وكذلك حملت راحة يد والدي جراح صداقتهما. فعلى الرغم من الطبيعة الأسطورية لتلك القصة كان نيراف أخبر والدي أنه عندما يقوم الغورخي (أحد أفراد إثنية "غورخا") بإشهار سكينه، أو ما يسمى بالـ"كوكري"، فإن التقاليد تمنعه من إعادتها إلى غمدها قبل إسالة الدماء. وقد استمرت صداقتهما إلى أن غرق نيراف في السبعينيات من القرن العشرين.

بحسب أبي، "لقد رأيت كيف عامل الضباط البيض البشرة نيراف على الرغم من ولائه لبريطانيا. وثمة أكثر من إشارة عنصرية تتعلق بموقف بريطانيا في [أزمة قناة] السويس. إذ إن المؤسسة الرسمية كرهت الحقيقة القائلة بأن الناس الذين سبق لهذه المؤسسة أن اعتبرتهم أدنى منزلة ومحكومين، باتوا الآن يتولون شؤون حياتهم". ووالدي، كجندي في سلاح الإشارة، يذكر السجالات اليومية الغاضبة والمتكررة في أوساط السياسيين والضباط حول "ما الذي يريده الآن أولئك الأغراب الأوغاد". وأضاف أبي، "لقد كانوا عنصريين حتى العظم. واستخدموا تسمية عدائية تجاه كل من ليس أبيض، أو ينتمي إلى الطبقتين الاجتماعيتين الوسطى والدنيا، لكنهم تلقائياً اعتقدوا أيضاً أن من واجبهم حماية أصحاب الأفكار المسالمة والأعراق "الأدنى" من مخاطر الشيوعية، ومن افتقار أولئك الأشخاص والأعراق إلى القيم الأخلاقية والسياسية. واستمروا في اعتقادهم بأنهم أسياد، وكلمتهم ينبغي أن تطاع".

قد يكون تحدر والدي من أجداد إيرلنديين، من "يوركشاير"، قد غرس في شخصيته شعور عدم الثقة الفطري ذاك تجاه سياسات "ويستمينيستر" [مقر الحكومة في بريطانيا]. إذ إنه بالتأكيد لم يكن منجذباً إلى السياسيين المنتخبين والأحزاب التي شكلت مجلس العموم. وقد بدا احتقاره متعادلاً لليسار واليمين، وفق تمثيلهما في البرلمان. إذ رأى أن تاتشر فظة، ومايكل فوت عديم الفائدة، وجيرمي ثورب عقيم، وبادي آشدون بالغ الجدية، وهارولد ماكميلان كسول ومطيع، وهارولد ويلسون خائن للطبقة العاملة، وإدوارد هيث متزلف للمؤسسة الرسمية. وبالنسبة إليه أيضاً، مثّل القوميون في مختلف أطيافهم، جماعة شقاقية متعصبة. وتكاد لائحته الساخرة تلك أن تكون بلا نهاية، على الرغم من احتفاظه باحترام خاص واستثنائي للسياسيين الذي "لم يكذبوا". لذا، حظيت تاتشر وعدوها الاشتراكي طوني بن وغيرهما، بشيء من التقدير الذي قدمه لهم على مضض. وعند هذه النقطة، لا يمكن للمرء إلا أن يتصور موقفه من "تلفيقات بوريس جونسون المثبتة" والحملة الكاذبة التي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإلى تعزيز نزعتها الإمبريالية الزائفة. بيد أن الكذب، بالنسبة إليه، شكل علامةً على المروق، وتهمة ألقاها مراراً على أعتاب إدين.

واستطراداً، وصف أبي الأخير بـ"أنه [إيدن] رجل المبادئ، مثال السيد الإنجليزي الأرستقراطي الذي يعرف مصلحة عموم الشعب. وكل شعارات "كلمتي هي عهدي .." التي طرحها، وما إلى هنالك. بيد أن البعض يرى أن قرارته تأثرت بمرضه (العملية الجراحية التي خضع لها إيدن عنت أنه خلال أزمة السويس كان يتناول المسكنات والمنشطات)، لكن، إن صح ذلك، كان عليه ألا يقود المرحلة. لقد كذب على الأمة وعلى العالم في موضوع الأسباب التي دعته إلى إرسال الجنود البريطانيين إلى مصر. حتى أنه خطط للطلب من الـ"بي بي سي" تسويق كذبته وبيعها للأمة، فيما لم تكن سوى تلفيقة ستقتل شعبه". وتابع أبي، "نتيجة لهذا مات كثيرون. وأنا كان يمكن أن أموت. شكل الأمر رد فعل عبثي مفرط، وذاك كله استند إلى كذبة".

واستطرد أبي، "في الأقل، تحلى بالمرستون بالشجاعة حين اعترف بأن بريطانيا ليس لها أصدقاء وأعداء، بل مجرد مصالح"، في إشارة إلى وزير خارجية بريطانيا الصريح والبراغماتي في أواسط القرن التاسع عشر. وتابع، "قد يكون إدين شخصياً تعرض للإذلال بمقدار محاولته البائسة في القيام بلعبة خفة (أي الكذب)، وأنا أتمنى ذلك، إنما الصدمة الأكبر للنظام الرسمي في بريطانيا تمثلت بأن الأخير ما زال ينتظر من العالم أن يستمع إليه، في حين أن العالم لا يريد ولا يتوجب عليه ذلك".

إذاً، هل مثل ما حدث [أزمة السويس] خاتمة الإمبراطورية؟ إنها الفكرة التقليدية التي تضمنتها كتب التاريخ منذ 65 سنة، وغدت توصيفاً مقبولاً جداً لحوادث خريف 1956 وما تلاها من عواقب. وعن موت إدين كتبت مجلة "التايم" ما يلي، "لقد كان آخر رئيس وزراء يؤمن بأن بريطانيا قوة عظمى، وأول رئيس وزراء واجه أزمة أثبتت أن بريطانيا لم تعد كذلك".

في المقابل، وعلى الرغم من أن كتب التاريخ قد تورد عكس ذلك، إلا أن التحليل الذي قدمه جندي سلاح الإشارة أوهير، يبقى مختلفاً، إذ يرى أن "الأمر لم يكن تماماً ختاماً للإمبراطورية، فلا بد أن يكون البريطانيون قد أدركوا حصول ذلك سنة 1947 حين نالت الهند استقلالها". وتابع، "لم يتأت ذلك من مجرد خسارة مساحة جغرافية شاسعة من الإمبراطورية، بل أيضاً خسارة بريطانيا جهود مئات الآلاف من الجنود الهنود الذين ساعدوا في توطيد الأمن. هذه لم تكن نهاية الإمبراطورية، لا، بل إنها أقرب إلى بداية مرحلة تقرير المصير. من ناحية البريطانيين (والفرنسيين)، ظهرت دهشة كاملة من أن الشعوب الأخرى لا تشاركهم رؤيتهم للعالم. كذلك تبين أن ثمة أمر بارز آخر أشير إليه في هذا الإطار، وتمثل في نهاية تأثير بريطانيا العالمي. بيد أن الواقع لم يكن على هذا النحو، بل تعلق بحالة من الصحوة، وإدراك وجود بدائل تتخطى حالة الأمر الواقع. قال عبد الناصر إنها قناة مصرية، قناة تعبر في قلب بلدنا. ثم ساد الذهول في باريس ولندن".

أحببت أبي كثيراً، على الرغم من أن مجادلاتنا احتدمت فترة طويلة وصعبت وتعمقت. وفي المقابل، أعتقد أنه في هذه النقطة كان على صواب. لقد ماتت الإمبراطورية البريطانية قبل ذلك، وأزهقت روحها في الحرب العالمية الثانية. ولم تكن بحاجة لسوى مناسبة كأزمة السويس كي تجعل حكومتها، التي استمرت في كونها حكومة ارستقراطية، تدرك ذلك. واستطراداً، تمثل كلمات أبي أقوال امرىء حضر مسرح الحوادث. إنه رأي لا يمكن سماعه بالتأكيد ممن كانوا في المراتب العليا آنذاك. وسواء أكان أبي مصيباً أو مخطئاً، فإن ما قاله يبقى رأياً كوّنه بالخبرة والاطلاع والثقافة.

وعلى الأرجح، تجسد كلمة الإذلال التعبير الأمثل في توصيف ما حصل للتو مع بريطانيا وحلفائها الغربيين في أفغانستان، لكنه ليس التعبير الأدق الذي ينطبق على ما حصل خلال أزمة السويس. في الأقل، ليس التعبير الوحيد. المفاجأة، والصدمة، التخلي والتشكيك، تمثل جميعها عبارات كان أبي ليختارها بدل كلمة إذلال. أو ربما كان سيختار أيضاً "مفارقة تاريخية".

© The Independent

المزيد من آراء