Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي الكندي جيفري مور يدخل عالم الذاكرة و"ألزهايمر"

"فنانو الذاكرة" بين الواقعية والعلم والتخييل على طريقة "ألف ليلة وليلة" الذاكرة

شعار الأدب الكندي الحديث (اتحاد الكتاب الكنديين)

رواية "فنانو الذاكرة" (ترجمة نهى مصطفى - دار العربي – القاهرة)، هي بحسب مؤلفها الروائي الكندي جيفري مور، مستوحاة من أحداث حقيقية، ملخصها أن أربعة أصدقاء اجتمعوا على هدف واحد، وهو مساعدة والدة أحدهم على مقاومة مرض ألزهايمر، لينجحوا في ذلك بعد جهود مضنية استغرقت أعواماً عدة.

"نويل بيرن"، بطل الرواية الحاصلة على جائزة رابطة الكتاب الكنديين، ولِدَ بمرض معاكس وهو المعاناة من ذاكرة حادة، يقرر أن يواجه مرضه هذا خلال عمله على إنقاذ أمه من مرض ألزهايمر الذي أصابها بعد انتحار زوجها جراء إصابته بالاكتئاب. يقضي "نويل" الذي يعمل في إحدى شركات الأدوية، أوقاتاً طويلة في معمل للتجارب الدوائية، كان يخص والده الراحل، على أمل أن يجد تركيبة دواء تعيد إلى أمها "ستيلا بيرن"، ذاكرتها، علماً أن أعراض المرض الذي لم يجد له العالم بعد علاجاً ناجعاً، بدأت تظهر عليها وهي في السادسة والخمسين من عمرها، ليجبرها ذلك على ترك عملها بالتدريس. 

يتوصل نويل إلى ما أسماه "حبَّة الذاكرة" ويقرر تجريبها على أمه مباشرة، لكسب الوقت، فيطرأ على حالتها بعد نحو عامين من التدهور، تحسنٌ طفيف. تقوم الرواية على السرد الذاتي، فبطلها "نويل" يحكي القصة من بدايتها إلى نهايتها، ويورد في كثير من المواضع يومياتها التي حرص على تدوينها لتوثيق جهده في مواجهة مرض والدته، ومواجهة محنته الشخصية في الوقت ذاته. كما يورد الراوي يوميات كتبتها أمه في بدايات مرضها، فضلاً عن يوميات زملائه في فريق إنقاذ الأم... "خلال الأسبوعين الماضيين، بعد زيارة قبر أبي، كنتُ أفكر في مجموعة من المصادفات التي تدور حول "ألف ليلة وليلة". لقد حاولتُ منعها، لأنها تخلو من المنطق والعلم، لكنها استمرت في جذبي كأنها رغبة بعيدة المنال" ص276.

ترجمات "ألف ليلة وليلة"

يقرأ "نويل" ترجمات لين وبيرتون وباين وغالان لـ "ألف ليلة وليلة". يتوقف عند حكاية "النائم والمستيقظ"... "ذهبتُ بسرعة إلى متجر الصيدلي، وسألت عن عقار يُعطى في أغلب الأحيان للرجال الذين أصابهم النسيان..." ص287.

يستفيد "نويل" من الوصفة الواردة في حكاية "النائم والمستيقظ" في صنع تركيبة من الأعشاب والزهور البريّة أسماها "حبَّة الذاكرة"، يكون لها تأثير إيجابي على حال والدته، من دون إغفال أثر الاهتمام العاطفي الكبير الذي نعمت به طوال مدة مرضها من ابنها وأصدقائه.    

قائمة هؤلاء الأصدقاء تضم "سميرة درويش"، وهي من أصول عربية تقرر بعد تجربة التمثيل في فيلم إباحي، عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها، التركيز على دراستها الجامعية لتتخصص في العلاج بالفن. وحين تجد أن "نويل" يعرف أنها هي نفسها "هيلودورا لوك"، وهو الاسم الذي اختير لها عندما عملت بالتمثيل، تقول له: "كانت فترة مظلمة في حياتي، رقعة سوداء كبيرة". هي في تلك اللحظة كانت قد بلغت السابعة والعشرين من عمرها. ويرد في سيرتها الذاتية أن والديها هاجرا إلى مونريال وأن أهل جدتها لأبيها كانوا من يهود مصر. درست لبعض الوقت في أميركا. وعملت لبعض الوقت في مطعم يملكه والدها. حوَّلت دراستها من الأعمال إلى الفنون. وأثناء ذلك عملت في فيلم حقق نجاحاً كبيراً وأصيب والدها بأزمة قلبية وهو يشاهده. استعان نويل بصديقيه "جيجي" و"سميرة" لأنه أدرك أن من المستحيل رعاية والدته والعمل في المختبر في الوقت نفسه. في إطار شغفه بالقراءة خصوصاً في كل ما يمكن أن يساعده على إيجاد علاج لوالدته قرأ قصة "رع" إله الشمس المصري؛ "الذي يفقد ذاكرته ويعيش في ضباب من الخرَف". لكن الكاتب لم يذكر مصدر تلك القصة.

التلاعب بالذاكرة

قرأ نويل أيضاً كتاب "الكيمياء العربية في العصور الوسطى"، فضلاً عن أربعة إصدارات بترجمات مختلفة لكتاب ألف ليلة وليلة (يعتبره كتابه المفضل عبر العصور، ويرى أنه يعتمد بشكل كبير على المصادر اليهودية!!) ويصل إلى أن "الذاكرة هي عملية بيولوجية يمكن التلاعب بها مثل أي شيء آخر، وليس فقط التلاعب بها بل تحسينها كذلك" ص246. ويدرك كذلك أنه إذا كانت شركات الأدوية الصيدلانية سيئة، فصناعة الطب البديل أسوأ... "لكن لدى كليهما بعض الأشياء التي يمكنني الاستفادة منها. ويتذكر: "عندما كنتُ طفلاً، اعتدتُ أن أتخيَّل العثور على الإكسير السحري ليساعدني على النسيان، أتناول جرعة من "شراب السلوان" لأنسى. كان هذا الشراب يستخدم لتحفيز النسيان عند القدماء. إنه مذكور في ملحمة الأوديسا وفي أشعار "فيري كوين" للشاعر إدكوند سبنسر. شراب السلوان الذي يتم به محو كل ما يهمنا في الماضي من الذاكرة". ويحفظ من أشعار "فيري كوين": "شراب السلوان هو نعمة لذوي السيادة/ والذي وضعته الآلهة لتهدئتهم/ يكره الحزن، ويطرد المرارة بعيداً وكل الأمور التي تثير الغضب وتثير الجدل/ بدلاً من ذلك فالسلام الحلو والوقت الهادئ/ يأتي ليقيم في العقل المضطرب".

ويتأكد لديه أن الأطباء النفسيين "وجدوا من أجل الذين لا يستطيعون النسيان". قالت له "سميرة" عندما لاحظت اهتزاز ثقته بنفسه: "يمكنك أن تفعل أي شيء يا نويل. فقط إذا كنت تريده بما فيه الكفاية". يقع في غرامها وتبادله الشعور نفسه. وهكذا كان الحب كلمة السر في التكاتف من أجل أن يخرج كل منهما من محنته الشخصية، ومساعدة الأم على استعادة قدرتها على التذكر.

"نويل" مريض بالـ "سبينيستيزيا"، وهذا المرض هو عكس ألزهايمر. عانى من ذلك المرض، بحسب الراوي، رامبو وبودلير ونابوكوف. كان "نويل" في التاسعة من عمره عندما انتحر والده تحت وطأة نوبة اكتئاب. جلَب ممرضة لتعتني بوالدته، ثم وجد صعوبة في دفع المال لها مقابل عملها... "بدا كل شيء وكأنه يتفكك، يتساقط، عندما أخذت أمي قرار التقاعد المبكر. راحت تتصرف بغرابة. تفعل أشياء بعيدة عن شخصيتها. بدأت توزع أموالها على أصدقاء الطفولة والمعارف والجمعيات الخيرية، والمتسولين". أودعها دار رعاية، لكنه اضطر إلى إعادتها إلى المنزل بعدما أبلغته أنها لا تستطيع البقاء هناك. يقول: "أتعجب إذا كان لويس ألزهايمر يتلوى في قبره، يتذكرونه فقط كاسم لمرض النسيان؟ هل يحمل العديد من الألمان هذا الاسم؟ أم أنه اندثر مثل اسم هتلر؟ ص75.

يوميات المحنة

ومما كتبته الأم في يومياتها: "أدعو أن يصمد عقلي، حتى أموت. كل شيء بالداخل أجوف تماماً. رمادي جداً أو جاف. عقلي يسرب الذكريات والأمل. أشعر وكأنني غارقة في مياه ضبابية، ربما مثل تلك التي رآها زوجي قبل وفاته".

تبدأ أحداث الرواية في نهاية عام 2000 في كيبك، كندا. الأم عمرها 56 سنة. يشبه مرض ألزهايمر - يقول الراوي - مثل أن تذهب إلى بلد يستخدم معياراً أو مقياساً (من الكيلو للميل) فيختلط عليك الأمر فجأة في كل شيء عرفته لسنوات. الأرقام لم تعد هي نفسها، فهي لا تعني الشيء نفسه. لم تعد تعرف تكلفة الأشياء". ص77.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وورد في يوميات "نويل": "أمي تعاملَت مع الغسالة على أنها الميكرويف". وفي موضع آخر: "يبدو أن فرنسية والدتي قد اختفت". وعند هذا الحد، طلبت أمه منه أن يقتلها بمجرد أن تتفاقم حالتها الصحية. 

أما "نورفال بلاكيير"، الذي يعمل على أبحاث غرضها الوصول إلى علاج ناجع لمرض ألزهايمر وتربطه بأسرة "نويل" صداقة قديمة، فكان يؤمن بأن الإنسان والشمبانزي يشتركان في 98.7 في المئة من الجينات، وأن تطور عقل الإنسان جلب أمراض الاكتئاب والفصام وألزهايمر... "إننا على المسار نفسه مثل الديناصورات. ستنتقم الطبيعة منا. نحتاج إلى فيروس يدمر نصف سكان العالم بين عشية وضحاها". "نورفال" هذا، يخطط بسبب عدميته، للانتحار، بعد أن ينجز علاقات عاطفية بعدد أبجدية اللغة الإنجليزية.

الأمل في النسيان     

"نويل" قبل أن يتفرغ لإيجاد علاج لمرض أمه، عمل في تدريس الأدب الرمزي في الجامعة لسنة دراسية واحدة. هو مهموم أيضاً بمرضه الشخصي الذي يجعله غير قادر على نسيان أي شيء، ومن ثم فإنه يعاني طوال الوقت من ذكرياته التي تطارده، خصوصاً ذكرى انتحار والده غرقاً. "نورفال" يقول لـ "سميرة" تعليقاً على ذلك الحادث: "سمعت أن الغرقى يمرون بمرحلة من الوضوح في الذاكرة، ولذلك علاقة بوجودنا الأول في السائل الأمنيوسي، أو بصدمة التعميد. شيء لن يشعر به العرب أبداً. وأنتِ تغرقين يحدث تفجر للذكريات. ذكريات واضحة تماماً من أول غطسة وحتى الغطسة الأخيرة". "جيجي" الصديق الرابع والمختص في تركيب الأدوية من الأعشاب والمواد الطبيعية، يقول لـ "سميرة" في إطار صدام ثقافي: "يقول المسلمون إن الرجل الذي يموت أثناء الجهاد سيكون قادراً على ممارسة الجنس مع سبعين من العذارى في الجنة". قالت: لا يؤمن الجميع بمثل هذا القول. وفي الإطار نفسه يقول "نورفال" لـ"سميرة": "كان العرب في الماضي في طليعىة الحضارة... ماذا حدث لهم؟". ردَّت عليه: "والفرنسيون أيضاً ماذا حدث لهم؟". وهنا نعرف من الراوي أن "نورفال بلاكيير" فرنسي الأصل.  

وأخيراً تنتهي الأحداث بتعافي "ستيلا بيرن"... "استعادت كامل صحتها وعادت إلى عملها لتدريس التاريخ في الكلية العامة والمهنية بمونتريال، وهي حالياً تواعد زميلاً شاباً في القسم نفسه كان يعشقها منذ سنوات: أرمل ولديه ابنة تبلغ من العمر عشر سنوات، يخطط الاثنان للزواج في أبردين باسكتلندا في صيف عام 2006". أيضاً سيتزوج "نويل" من "سميرة" التي يصفها بأنها ملهمته وبلسم عقله، مدركاً في الوقت نفسه إلى أنه من دون حب أمه له واحتياجها إليه، ما كان له يمكن أن تتحقق معجزة شفائها. أما "نورفال بلاكيير" فسيدخل مستشفى في أوائل 2004 بسبب فقدان الذاكرة على المدى القصير وأعراض تشبه ورماً في المخ، ثم سرعان ما ينتحر، غرقاً، قبل أن يصل عدد عشيقاته إلى 27 امرأة كما كان يخطط. وتزوج "جيجي" من الممرضة التي كانت تساعد "ستيلا بيرن" على قضاء حاجاتها الأساسية، في ذروة مرضها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة