لا شك أن كثراً من أبناء خمسينيات وستينيات القرن العشرين من القراء العرب المنفتحين على أنواع معينة من الثقافة الغربية يعرفون اسم الموسيقي الإيطالي نيكولو باغانيني جيداً ويعرفون أنه موسيقي كبير، لكنهم يعرفونه بشكل أفضل بوصفه ساحر نساء من طراز رفيع. وذلك بكل بساطة لأن ثمة كتاباً صدر حينها عن سيرة حياته ونال شهرة واسعة عنوانه بالتحديد "باغانيني ساحر النساء" كان يمكن العثور عليه في مكتبات منزلية عربية كثيرة. لقد جعل انتشار ذلك الكتاب المترجم إلى العربية من باغانيني حينها واحداً من أوسع الموسيقيين العالميين شهرة في العالم العربي، حتى وإن لم تقترن تلك الشهرة بالتعرف على موسيقى الرجل وكونه واحداً من أعظم مؤلفي موسيقى الكمان وعازفيها في زمنه. لا سيما بفضل تلك القطع الأربع والعشرين المعروفة باسم "نزوات باغانيني" التي أوصلت فن العزف على الكمان إلى ذرى لم يبلغها ولا حتى كبار آخرون في زمنه.
كلهم على خطاه
بل إن كثراً من هؤلاء الكبار، المعاصرين له أو من خلفائه، سيساهمون بكل تواضع في ترسيخ مكانته كما تنبِئنا لوائح عديدة تضم أسماء وعناوين لمؤلفات موسيقية، وغير موسيقية كما سوف نرى، اشتغل عليها مؤلفون كبار من طينة شومان وشوبان وفرانز ليست وحتى برليوز وبرامز وصولاً إلى ليهار ورخمانينوف. فأبدع الأول ما لا يقل عن ثلاثة أعمال تحمل اسم باغانيني، من أجملها مقطوعة "كارنافال" التي جمع فيها بين باغانيني وشوبان، فيما كتب هذا الأخير قطعته البديعة "ذكرى باغانيني" وكتب ليست "كامبانيلا" و"دراسات من باغانيني" في استيحاء مباشر من "النزوات"، وأسس برليوز سيمفونيته "هارولد في إيطاليا" منطلقاً من حياة باغانيني فيما وضع برامز عملاً سيصبح ذا شهرة كبيرة عنوانه "تنويعات على تيمة من باغانيني" الذي وضع ليهار عنه وعن موسيقاه أوبريت رائعة عنوانها "باغانيني"؛ لا أكثر ليدخل رخمانينوف على الخط في القرن العشرين، بين عدد كبير من موسيقيين، واضعاً رابسوديته الشهيرة بعنوان "رابسودي على تيمة من باغانيني"... ويمكن لهذه اللائحة أن تطول وتزداد تنوعاً إن نحن دنونا من الأعمال الأدبية التي كتبت عن الموسيقي (مثلاً الفرنسي موباسان في روايته "على الماء" الصادرة عام 1888، والتي يخيل إلينا أن الكتاب المترجم إلى العربية والذي ذكرناه أعلاه هو ترجمتها)، دون أن ننسى نصف دزينة من أفلام كرست للحديث عن باغانيني وفنه وحياته بدءاً من فيلم "مغامرة باغانيني" الصامت مصحوباً بتنويعة من "النزوات" حققه الفرنسي آبيل غانس عام 1910، وصولاً إلى الفيلم الذي حققه كلاوس كنسكي ومثله عام 1989، مستوحى طبعاً من حياة الفنان. ولكي نختم هذا العرض الذي سنصل إلى مبرراته بعد قليل، لا بد أن نشير إلى أن ثمة شارعاً وساحة في الدائرة الباريسية العشرين يحملان اسم باغانيني كما أن مسقط رأسه جنوى الإيطالية أطلقت اسمه على الكونسرفتوار الموسيقي الذي يعتبر من الأرقى في العالم. وتتويجاً لهذا كله أطلق المستكشف الفضائي نيكولاي تيرنيخ اسم "باغانيني 2859" على كويكب اكتشفه عام 1978 في حزام يضم مجموعة من الكويكبات!
تكريم في محله
يقيناً أن كل هذا التكريم الذي قلما حظي بمثله موسيقي كلاسيكي آخر يدفع إلى التساؤل: علام هذا كله، وما الذي يميز إنتاج باغانيني فيجعله مستحقاً لعالمية سبقت أوانها؟ الفضل لتلك النزوات التي نتحدث عنها بالتأكيد والتي تعتبر ليس فقط من أبرز مؤلفات باغانيني، بل كذلك، وبصورة خاصة، من أعظم القطع الموسيقية التي كتبت للكمان في بدايات القرن التاسع عشر. ولم يكن من قبيل الصدفة اعتبارها "نزوات". فالحقيقة أن مبدعاً من طينة باغانيني كان يحتاج إلى قدر كبير من الخيال والجرأة والجنون قبل أن يقدم على تلك المغامرة الفنية المدهشة التي أتت في معظمها عكس أي تيار سائد، المغامرة التي يبدو أنها بدأت لديه بمزحة وبنوع من التحدي قبل أن تتحول إلى ذلك العمل الإبداعي الكبير. ولئن كان لكل ناقد موسيقي ومؤرخ لهذا الفن تفضيلاته وتراتبية إعجابه وتذوقه خلال حديثه عن هذا القطع التي يبلغ عددها أربعاً وعشرين قطعة، فإن هناك إجماعاً متواصلاً على أن المقطوعة التي تختتم "النزوات" حاملة الرقم 24 هي الأقوى والأكثر سمواً، والتي أوصل فيها باغانيني فن الكتابة التلحينية للكمان إلى أعلى الذرى.
الأصل دراسات لكتابة كونشرتو
ومع هذا فقد ندهش إن نحن عرفنا أن هذه القطع التي نشرها الموسيقي للمرة الأولى في ميلانو عام 1820، إنما كتبها أول الأمر على شكل دراسات تمهيدية في طريقه لوضع كونشرتو كان يريد أن يجعل منه الكونشرتو رقم واحد، لكنه لم يستكمله وذلك ببساطة لأن كل الذين استمعوا إلى الدراسات حينها وقد اكتملت قالوا إن ما وصل إليه فيها من إبداع يكفي ويزيد ولسوف يكون من غير المجدي إذابة تلك المؤلفات المتعددة والتي تنقل الواحدة منها ما فيها من حس إبداعي إلى القطعة التي تليها وصولاً إلى التصعيد الأعلى الذي توصل إليه في "النزوة الرابعة والعشرين" في عمل موحد قد يضحى من أجله بالروعة التقنية والفنية التي بلغها قطعة بعد قطعة. ولقد أثبت مرور الزمن والمكانة التي احتلتها "النزوات" لدى الذواقة وفي مقدمتهم كبار الموسيقيين أنفسهم، أن أصحاب ذلك الرأي كانوا على حق. ومع ذلك فإننا لسنا في نهاية الأمر إلا أمام قطع "دراسية" قصيرة منها ما هو في غاية البساطة تقابلها قطع في غاية التركيب. ولئن كان معظمها قد تميز بتوليفية غريبة قد يصعب إدراك روعتها منذ اللحظة الأولى فإن المستمع سرعان ما يجد نفسه مغموراً في نوع من النشوة التي قد يصعب عليه إدراك سرها.
مقارنة مدهشة مع باخ
ويذكر هذا التفاعل التدريجي طبعاً بالعمل الوحيد في الموسيقى الكلاسيكية الذي يمكن مقارنة "نزوات باغانيني" به ونعني بهذا طبعاً مجموعة "سوناتات" و"بارتيتات" باخ من الناحية التقنية، بينما نجدنا مضطرين للبقاء أيضاً عند باخ للإشارة إلى ما تم التعارف عليه دائماً من أن مكانة نزوات باغانيني للكمان وأجوائها بل تدرج مؤلفها في تأليفها إنما تذكر في المقام الأول بعمل آخر لباخ نفسه هو "تنويعات غولدبرغ" التي كان الموسيقي الألماني الكبير قد انطلق فيها على شكل "دراسات" تمهيداً لكونشرتو يزمع وضعه لكنه أمام روعتها توقف عن ذلك وأبقى للدراسات طابعها المبدئي. ومن هنا المقارنة بين ما فعله باغانيني للكمان، وما فعله سلفه الكبير للبيانو في تلك التنويعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصعيد حتى النهاية
مهما يكن من أمر، فلا بد من التنويه هنا بأن "النزوات" ليست متساوية القيمة أو التأثير بصورة موحدة. ففيما ثمة نزوات ربما تصل إلى ست أو سبع تبدو شديدة الكلاسيكية، كالأولى والثانية اللتين لو سمعتا بمفردهما لبدتا شاحبتين إلى حد ما، نجدنا في عدد آخر من "النزوات" بما في ذلك تلك التي تحمل، على سبيل المثال، الأرقام 11 و21 و22 أمام جمل لحنية غاية في الانطلاق والتحرر والبريق، بحيث يبدو في النهاية وكأن ثمة هندسة ما رسمت بعناية وعن قصد غايتها أن تحرك نوعاً من الإحساس المتغير صعوداً وهبوطاً للوصول إلى ذلك التصعيد الذي يصل مع "النزوة" الأخيرة إلى ذلك السمو الذي سبق أن أشرنا إليه حيث تصل الموسيقى في تلك "الخاتمة" إلى مستوى رفيع جداً من الإبداع، مستوى كان المؤلف قد دنا منه، بشيء من الحذر خوفاً من أي يقول هناك كل ما عنده، في "النزوة" السادسة ثم وسعه في التاسعة التي يطلق عليها عادة اسم "الصيد" ليعزز الدنو في "النزوتين" الثالثة عشرة والسابعة عشرة، قبل أن يصل، أخيراً، إلى الإطباق بقوة على حساسية مستمعه في "النزوة" الأخيرة، الرابعة والعشرين التي ستعتبر، على قصرها، واحدة من أروع مقطوعات باغانيني وتكاد تبرر وحدها كل المجد الذي تحقق له في حياته القصيرة (1782 – 1840) جاعلاً منه أعظم مؤلف موسيقى للكمان وعازف عليها في تاريخ الموسيقى.