Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا كان اكتشاف جاسوس الغواصات الأميركية خطيرا ومحيرا؟

"إف بي آي" امتنع عن تحديد الدولة الأجنبية التي اتصل بها العميل المزعوم

خدم المتهم الجديد بالتجسس في البحرية الأميركية من 2012 إلى 2020 (أ ب)

قد يبدو أن الجواسيس عادوا إلى حالة النشاط التي اتسمت بها فترات الحربين العالميتين والحرب الباردة، لكنهم في الواقع أصبحوا أكثر غزارة ونشاطاً من أي وقت مضى في استهداف الأسرار الخطيرة. ولم يكُن نجاح "مكتب التحقيقات الفيدرالي" (إف بي آي)، في إحباط محاولة أميركيّين بيع أسرار تصميم أحدث غواصات البحرية الأميركية وتصنيعها، سوى دليل آخر على مدى الخطر الذي تشكله عمليات التجسس على الأمن القومي إذا لم تُكتشف. لكن يظل امتناع "إف بي آي" عن تحديد الدولة الأجنبية التي راسلها الجاسوس المزعوم في البداية، يسبب حيرة وتساؤلات عن كيفية اكتشاف الجاسوس، وإذا ما كانت الدولة الأجنبية حصلت على أسرار مهمة أم لا؟

تهديدات شاملة

لا تقتصر تهديدات الجواسيس على النشاط التقليدي المتمثل في نقل أسرار الولايات المتحدة إلى الحكومات الأجنبية لكسب المال أو لتنفيذ أجنداتها الأيديولوجية، بل تمتد إلى سرقة الأسرار التجارية والعلمية القيّمة للجامعات والشركات التي تحرك الاقتصاد الأميركي وتدفعه إلى الأمام. ومع اعتراف "إف بي آي" بأن هذه الأعمال شائنة كونها ترسل تقنيات يجرّم القانون نقلها إلى الخارج وتساعد في صنع قنابل وأسلحة دمار شامل مصممة لإيذاء الأميركيين وحلفائهم، فإن نطاق عمل "إف بي آي" وغيره من أجهزة الاستخبارات الأميركية يتسع.

لكن عمليات التجسس تطورت وتغيرت كثيراً بمرور الزمن. فقد كان "مكتب التحقيقات الفيدرالي" مسؤولاً منذ عام 1917، بعد تسعة أعوام من إنشائه عام 1908، عن اكتشاف التهديدات المستمرة التي تواجه الأمن القومي الأميركي من أجهزة الاستخبارات الأجنبية ومنعها. غير أن قسم مكافحة التجسس التابع لإدارة الأمن القومي في المكتب شهد تغيرات مختلفة على مر السنين وطوال الحرب الباردة، وغيّر اسمه مرات عدة، لكن مهمته الرئيسة ظلت هي التصدي لعمليات التجسس من الاتحاد السوفياتي والدول الشيوعية الأخرى وإفشالها.

اتساع مهمات "إف بي آي"

وبينما يواصل قسم مكافحة التجسس عمله في رصد ومنع التهديدات التي تحيق بالأمن القومي الأميركي من أجهزة الاستخبارات الأجنبية، فإن نطاق مهمته وقدراته في العصر الحالي اتسع بشكل كبير في أنشطة الاستخبارات على الأراضي الأميركية ومكافحة التجسس المضاد. وبالرغم من كون التفاصيل الخاصة باستراتيجية "مكتب التحقيقات الفيدرالي" مُصنفة سرية، إلا أن أبرز أهدافه التي ينشرها على موقعه تتمثل أولاً في حماية أسرار مجتمع الاستخبارات الأميركي، باستخدام الوسائل الاستخباراتية لتكثيف جهوده التحققية، وعبر التعاون مع الإدارات والأجهزة الحكومية الأميركية الأخرى لتقليل مخاطر التجسس والتهديدات الداخلية.

وتُعدّ الأولوية الثانية لـ"إف بي آي" هي حماية التقنيات التكنولوجية المتقدمة والمعلومات الحساسة للولايات المتحدة في قطاعات الدفاع والاستخبارات والاقتصاد والمالية والصحة العامة والعلوم، فضلاً عن منع وقوع أسلحة الدمار الشامل في الأيدي الخطأ، واستخدام المعلومات الاستخباراتية لدفع جهود التحريات والتحقيقات لمنع التهديدات من أن تتحول إلى حقيقة.

رصد الجواسيس

غير أن مواجهة أنشطة الجواسيس الذين يعملون لمصلحة جهات أجنبية تأتي على رأس اهتمامات "إف بي آي"، وذلك من خلال إجراء تحريات وتحقيقات استباقية، تمكّنه من التعرف إلى هؤلاء الأشخاص ووقف عملياتهم. وهو ما تجسد خلال عملية السبت الماضي، حين أُلقي القبض على مهندس نووي في البحرية الأميركية يدعى جوناثان توبي وزوجته ديانا بتهمة السعي لبيع أسرار تصميم وتصنيع أحدث غواصات نووية أميركية من طراز "فيرجينيا" لدولة أجنبية. وهو النوع الذي تعتزم الولايات المتحدة بيع أستراليا 8 غواصات منه، ضمن تحالف "أوكوس" مع بريطانيا لمواجهة التهديد الذي تمثله الصين في المحيطين الهندي والهادي.

وبالرغم من نجاح عملاء "إف بي آي" على مدى نحو عام من التواصل مع توبي وإيهامه بأنهم يمثلون الدولة الأجنبية التي أرسل إليها طرداً بريدياً يحتوي على عينة من البيانات السرية للمرة الأولى في أبريل )نيسان( 2020، إلا أن "مكتب التحقيقات الفيدرالي" لم يكشف عن اسم الدولة الأجنبية ولم يفصح كيف وصل إليه الطرد البريدي الأول الذي أرسله توبي ليعرض بيع أسرار أهم وأحدث غواصة نووية لدى الولايات المتحدة.

هوية الدولة الأجنبية

لكن هذا التعتيم حول هوية الدولة الأجنبية غير المعروفة حتى الآن يثير أسئلة عدة، إذ ليس من الواضح ما إذا كانت تلك الدولة كشفت طواعية عن محاولة الاتصال بها من الجاسوس المزعوم توبي وأبلغت "مكتب التحقيقات الفيدرالي" بالأمر، أو إذا كانت الولايات المتحدة حصلت على هذه المعلومات عن طريق التجسس أو بعض الوسائل الأخرى، خصوصاً أن صحيفة "واشنطن بوست" نقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إنه كانت لدى توبي ميول للتجسس تتراكم منذ أعوام، ما يعني ربما أنه كان تحت أعين "إف بي آي" منذ زمن بعيد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول سباستيان روبلن في موقع مجلة "فوربس" إن أحد الاحتمالات هو أن توبي اتصل بدولة حليفة أو صديقة للولايات المتحدة مهتمة بمثل هذه المعلومات العسكرية لأغراض التجسس الصناعي أو اكتساب نظرة مقربة وشاملة على العمليات العسكرية الأميركية، ولكنها من غير المرجح أن تستفيد من هذه المعلومات بهدف الدخول في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة. وهو سيناريو يشبه ما قام به محلل الاستخبارات البحرية جوناثان بولارد، الذي نقل أسراراً  وفيرة إلى إسرائيل. ولهذا قد يكون المسؤولون في هذه الدولة الصديقة من الناحية النظرية أكثر ميلاً لخيانة عرض جاسوس محتمل وكشفه للسلطات الأميركية.

مع ذلك، هناك احتمال آخر هو أن توبي اتصل بممثلي دولة مثل الصين أو روسيا التي ربما تسعى إلى الاستفادة من تلك المعلومات لتعريض القدرات العسكرية الأميركية للخطر بشكل مباشر، وتطوير أسلحة فتاكة تشكل تهديداً للقوات الأميركية، كما حدث مع الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. ففي عام 1967، تواصل جون ووكر، ضابط الصف في البحرية الأميركية المتخصص في اتصالات الغواصات، مع السوفيات وعرض عليهم شيفرة الاتصالات البحرية الأميركية على أن يحصل على راتب أسبوعي يتراوح بين 500 و1000 دولار مقابل إرسال مزيد من الأسرار والشيفرات. وهو ما جعل الاتحاد السوفياتي قادراً على فك تشفير اتصالات الغواصات الأميركية في المحيط الأطلسي لمدة 17 عاماً، قبل اكتشاف ووكر واعتقاله من أجهزة الاستخبارات الأميركية عام 1985.

أسرار نووية حساسة

وما يبعث على القلق، هو حجم المعلومات التي من المحتمل أن تكون وصلت إلى هذه الدولة الأجنبية في الطرد البريدي الأول الذي أرسله توبي في أبريل 2020، إذ كان من الواضح أن توبي، الذي خدم في البحرية من 2012 إلى 2020، كان مهندساً نووياً في برنامج الدفع النووي البحري المعروف أيضاً باسم المفاعلات البحرية، وكان لديه تصريح سري للغاية يمنحه إمكانية الوصول إلى البيانات السرية المحظور تداولها والمتعلقة بالدفع النووي البحري، بما في ذلك عناصر التصميم العسكرية الحساسة ومعايير التشغيل، وخصائص أداء مفاعلات الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية.

ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، فإن وثائق المحكمة التي ستحاكم توبي وزوجته، تشير إلى أن المعلومات تضمنت تصميم وتشغيل وأداء مفاعلات الغواصات النووية من طراز "فرجينيا" وهو أحدث تصميم يدخل غواصات البحرية الأميركية، إذ صممت لمطاردة سفن العدو وغواصاته، على الرغم من أن الغواصات اللاحقة من هذه الفئة تتضمن قدرة شن هجوم بري عبر صواريخ "كروز" من طراز "توماهوك".

قلق مضاعف

مع ذلك، يشير الملف الشخصي لتوبي على موقع "لينكد إن" إلى أنه كان رائداً تقنياً في تصميم غواصة الصواريخ الباليستية التي تعمل بالطاقة النووية من طراز "كولومبيا"، وهو البرنامج الأكثر حساسية الذي تقوم به البحرية الأميركية حالياً، لأن تلك الغواصات التي تشكل أكبر غواصات تم بناؤها على الإطلاق للبحرية الأميركية، ستحمل الجزء الأكبر من الترسانة النووية الأميركية، إذ ستحل محل الغواصات النووية الحالية من طراز "أوهايو" التي تحمل صواريخ باليستية من طراز "ترايدنت 2دي 5".

وما يزيد من حجم القلق لدى المسؤولين الأميركيين أن البحرية الأميركية التي طلبت أول غواصات من فئة "كولومبيا" عام 2021 من شركة "إليكتريك بوت" مقابل 15 مليار دولار، لتسليمها عام 2028، تُخطط لطلب 11 غواصة أخرى حتى عام 2035 بتكلفة شراء إجمالية قدرها 109.8 مليار دولار، وهو ما تراهن عليه الولايات المتحدة لتعزيز قدرتها على الردع.

ويعود ذلك إلى أن أميركا تخزن قرابة 2000 رأس نووي لسلاح الغواصات النووية، أي أكثر من الأسلحة النووية الاستراتيجية الأرضية والجوية مجتمعة، وذلك لأن مواقع صوامع الصواريخ والقواعد الجوية الأميركية معروفة للخصوم، بينما من الصعب اكتشاف الغواصات المتحركة تحت المياه في المحيطات، ويمكنها الهجوم من مسافات بعيدة، بحيث لا يعتقد أي خصم أنه قادر على القضاء على جميع سكان الولايات المتحدة بضربة استباقية.

لذلك، فإن أي أمر قد يضر بهذه الغواصات هو مقلق للأمن القومي للولايات المتحدة، لأنه يثير احتمال أن تتمكّن قوة منافسة من اكتشافها وتدميرها، بالتالي خفض قدرة البلاد على الردع النووي. ونظراً إلى التكاليف الهائلة وأوقات التسليم الطويلة لحين تشييد هذه الغواصات، سيكون تعديل أو استبدال التصميم المخترق أمراً مكلفاً للغاية ويستغرق وقتاً طويلاً بمجرد بدء الإنتاج.

ومهما يكُن ما سيظهر لاحقاً، فإن عملية التجسس المكتشفة تسلّط الضوء على الخيوط الرفيعة للسرية ومدى ارتباطها بمعايير الوطنية والنزاهة الشخصية للمشاريع العسكرية الحاسمة التي تبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.

المزيد من تقارير