Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يمكننا إنتاج مياه صالحة للشرب من دون بصمة كربونية؟

تستهلك معالجتها كثيراً من الطاقة. ولكن في المملكة العربية السعودية، واحدة من أكثر المناطق جفافاً على وجه المعمورة، تبرز صناعة متنامية للحصول على هذا المورد الطبيعي الحيوي بطريقة مستدامة

شح الأمطار مضافاً إلى معدلات التبخر العالية يتسببان بندرة المياه في المملكة العربية السعودية (غيتي)

يحد البحر ساحليها الشرقي والغربي، ولكن أراضي المملكة العربية السعودية واحدة من أكثر الأماكن حرارة وجفافاً على وجه المعمورة. وإذ تفكر في تحديات كثيرة يواجهها هذا البلد القاحل، تتراقص في ذهنك السطور "ماء، ماء حيثما ننظر، وما من قطرة صالحة للشرب" (من قصيدة "أغنية البحار القديم" لسامويل تايلر كولردج).

في العاصمة الرياض، يبلغ متوسط هطول الأمطار السنوي ثلاثة إنشات فقط، في حين أن بعض المناطق الأخرى قد لا تشهد أي مطر طوال عقد من الزمن أو أكثر. صيفاً، عادة ما تتجاوز درجات الحرارة داخل مدنها 40 درجة مئوية، وترتفع حتى 55 درجة مئوية في الصحراء. كذلك لم تمن الطبيعة على البلد بأي بحيرات أو أنهار، علاوة على أن طبقات المياه الجوفية تنضب بسرعة.

عليه، غني عن القول إن المملكة العربية السعودية تقدر جداً القيمة التي تكتنزها المياه.

ولكن خلافاً للبحارة المفقودين واليائسين في القصيدة الشهيرة للشاعر الإنجليزي كولردج "أغنية البحار القديم" The Rime of the Ancient Mariner، استفاد العلماء السعوديون من مياه البحر المالحة المحيطة بهم إذ نجحوا في تحليتها. الآن، لما كانت السعودية صاحبة الإنتاج الأعلى في العالم للمياه المحلاة، يتجه هؤلاء نحو مستقبل يكون فيه هذا المورد الطبيعي الأساسي ميسور الكلفة ومستداماً، على حد سواء.

تحلية صفرية الانبعاثات للماء

تقليدياً، اُستخدم "التقطير" distillation للتخلص من ملوحة المياه، وتكمن هذه العملية في رفع حرارة المياه المأخوذة من البحر حتى درجة الغليان، وحينها يفصل السائل الصالح للشرب (البخار الذي يتحول إلى قطرات ماء) عن الأملاح وغيرها من ملوثات. غير أن هذه الطريقة لا تستهلك الطاقة بكثافة فحسب، إنما تكلفتها مرتفعة أيضاً.

ولكن ذلك كله تبدل عام 2016، عندما أطلق ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، "رؤية 2030" Vision 2030، وهي استراتيجية سعت إلى تحسين الحياة في نواحي المجتمع السعودي كافة. تضمنت هذه الخطة تعهدات مستدامة عدة، من قبيل زيادة حصة المملكة في إنتاج الطاقة من مصادر متجددة، وخفض مستوياتها من انبعاثات الكربون، علماً أنهما يندرجان الآن ضمن "المبادرة السعودية الخضراء" Saudi Green Initiative.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تدريجياً، أخذ تأثير "رؤية 2030" يتكشف في المملكة العربية السعودية بأسرها، لا سيما في صناعة المياه. وكانت "المؤسسة العـامة لتحلية المياه المالحة" Saline Water Conversion Corporation (اختصاراً SWCC) الجهة الرائدة في هذه المهمة، مع إنتاجها نحو 70 في المئة من المياه المالحة المعالجة في المملكة.

أطلقت الشركة برنامجاً للاستغناء عن تقنية التقطير الحراري المعمول بها في مصانعها واللجوء إلى ما يسمى "التناضح العكسي" (أو "الأسموزية المعاكسة") reverse osmosis، ذلك أنها عملية أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، تعمل على دفع المياه المالحة عبر مرشحات غشائية دقيقة. ومقارنة مع التقطير، تستخدم هذه الطريقة عادةً ربع الطاقة فقط لإنتاج الكمية نفسها من الماء، وفق "المؤسسة العـامة لتحلية المياه المالحة".

كذلك أدخلت "المؤسسة العـامة لتحلية المياه المالحة" إلى مصانعها أحدث تقنيات الترشيح أو الفلترة باستخدام الأغشية، التي كانت ثمرة جهود علماء مقيمين في المملكة العربية السعودية، وذلك لخفض كمية الطاقة المستخدمة إلى النصف وفق كلمات المهندس الاستشاري في المؤسسة، نيكولاي فوتشكوف. إنها فاعلة جداً في الواقع، فقد سجلت المؤسسة في مارس (آذار) من العام الحالي رقماً قياسياً جديداً في موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية عن أقل محطة تحلية استهلاكاً للطاقة في العالم.

يقول فوتشكوف في هذا الصدد، "صحيح أننا حققنا إنجازات كثيرة حتى الآن، ولكن ما زلنا عاقدي العزم على القيام بعمل أفضل [وهمتنا لم تفتر]".

الآن، وضعت "المؤسسة العـامة لتحلية المياه المالحة" نصب عينيها هدفين، خفض استهلاكها من الطاقة إلى النصف بحلول عام 2030، وأن تصبح محايدة للكربون بحلول عام 2050. وفق فوتشكوف، جزء كبير من هذا التغيير سيكون مرده إلى تحسينات عدة ستضاف إلى التقنيات المعتمدة في المصانع. من بينها، أنظمة فلترة متقدمة باستخدام الأغشية، وأجهزة جديدة لاسترجاع الطاقة ستقلل المخلفات إلى الصفر تقريباً، ومضخات أكثر كفاءة في الاستفادة من الطاقة، وفي نهاية المطاف ستسهم جميعها في خفض اللجوء إلى الوقود الأحفوري.

كذلك تعتزم "المؤسسة العـامة لتحلية المياه المالحة" إدخال أساليب أكثر تقدماً لامتصاص الكربون وتخزينه ضمن عمليات التقطير الخاصة بها، وتقديم برنامج شامل لزراعة الأشجار عبر مواقعها بغية تعزيز عملية تجميع انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون carbon sequestration من الغلاف الجوي بشكل طبيعي.

واللافت أن محطات تحلية المياه في المؤسسة أصبحت تتمتع بذكاء أكبر أيضاً. بمساعدة عدد من أنظمة الذكاء الاصطناعي، ترفع الآلات بشكل مستقل من طاقتها واستخداماتها الكيماوية أثناء إنتاج المياه، كما يقول فوتشكوف.

لعل في المستطاع أيضاً توفير بعض من انبعاثات الكربون هذه عبر تسخير طاقة الشمس. لمَ لا؟ يتقصى العلماء في "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية" (Kaust "كاوست") سبلاً إلى ذلك.

أحد الاقتراحات والأهداف المستقبلية [الأكثر تطوراً] التي ينظر فيها العلماء تقنية "القبة الشمسية" solar dome، إذ ستركز هذه المحطة حرارة الشمس على مياه البحر (داخل القبة) كي تعمل على تبخيرها وإنتاج مياه عذبة. تستخدم أنواعاً مماثلة من التكنولوجيا فعلاً في محطات توليد الكهرباء البخارية، ولكن إذا وجد العلماء أنها قابلة للتطبيق على نطاق واسع وشامل، سنكون إزاء سابقة من نوعها في الاستفادة منها لتحلية المياه.

النبأ السار أن "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية" سبق أن أنشأت نماذج أولية أقرب إلى الواقع من "القبة الشمسية". في أحدها، دمجت معدات تحلية المياه مع الألواح الشمسية بطريقة تسمح للحرارة الناتجة عن الألواح أن تساعد في تبخر مياه البحر. وكشفت الاختبارات أنه يمكن إنتاج حتى 1.64 ليتر من الماء لكل متر مربع من سطح الألواح الشمسية كل ساعة، وأن المياه المنتجة لا تحتاج إلى أي معالجة أخرى لاستخدامها في ري المحاصيل الزراعية.

من محلول شديد الملوحة إلى مورد

تحلية المياه، حتى باستخدام تقنيات "التناضح العكسي" المنخفضة الطاقة، يرافقها دائماً تحد آخر: محلول شديد الملوحة يسمى "أجاج" brine. يترك هذا المنتج الثانوي تأثيره في الحياة والإيكولوجيا الساحليين، ذلك أن بعض محطات تحلية المياه يلجأ إلى تصريفه في البحر مجدداً. في الحقيقة، ونظراً إلى خلوها من أي بحيرات أو أنهار، تعد المملكة العربية السعودية أكبر منتج في العالم لمحلول الأجاج.

ولكن مجدداً، في جعبة نيكولاي فوتشكوف خطة طموحة: تحويل ذلك المنتج الثانوي إلى مورد طبيعي. يوضح قائلاً "غالباً ما تواجه صناعة تحلية المياه تحدياً في ما يتعلق بتأثير تصريف الماء الشديد الملوحة في البيئة البحرية. ولكن الحقيقة أن صناعة تحلية المياه والجهات التنظيمية لديها اليوم نظام شامل للتنبؤ بالآثار البيئية المحتملة ومراقبتها والتحكم فيها، وذلك في مختلف مراحل تطوير المشروع وتنفيذه."

في المملكة العربية السعودية، تواظب جهات معنية على مراقبة التصريف من محطات التحلية للتأكد من الحفاظ على البيئة البحرية وحمايتها، ومعالجة جميع النفايات وفق معايير آمنة بيئياً، حسبما قال فوتشكوف.

ويضيف المهندس أن المحلول الشديد التركيز من الملح غني بالمعادن، بما في ذلك كلوريد الصوديوم والمغنيسيوم والروبيديوم rubidium، لذا، فإن استخراج هذه الموارد القيمة يوفر الدعم لسلسلة جديدة تماماً من الأنشطة الصناعية.

ويزيد فوتشكوف "عبر العائدات المتأتية من بيعها يمكن تسديد التكلفة الكلية لإنتاج المياه في المملكة العربية السعودية، فضلاً عن توجيهنا نحو مصادر جديدة للطاقة المتجددة تستفيد منها المملكة".

سبق أن بدأ العمل بخطط لبناء محطة معالجة جديدة في المملكة ستكون بمثابة "منجم من الأجاج"، إذ ستستخرج المعادن المعدنية ونظيرتها النادرة من هذه المياه الشديدة الملوحة. سيتم بعد ذلك بيع كلوريد الصوديوم، مثلاً، لشركات الكلور القلويchlor-alkali المحلية، التي تصنع منتجات من قبيل الكلور والصودا الكاوية (هيدروكسيد الصوديوم).

وفق الدكتور أحمد العمودي، مدير "معهد البحوث والابتكار وتقنيات التحلية" Institute for Research, Innovation and Desalination Technologies في "المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة"، فقد أبرمت الأخيرة فعلاً اتفاقات مع كثير من الشركات المنتجة للكلور القلوي في المملكة العربية السعودية لتوفير تلك المواد الخام بمجرد تشغيل المصنع.

يعمل فريق الدكتور العمودي أيضاً مع وزارة الطاقة الأميركية على برنامج بحثي مشترك للنظر في طرق استخراج الروبيديوم من "ماء أجاج" بغرض إنتاج طاقة مأمونة بيئياً.

تكنولوجيا الهيدروجيل

في صحاري الضباب في ناميبيا، حيث الأمطار نادرة والحيوانات عطشى، قد نال الإبداع مكافأة. يمكنك أن ترى "خنفساء الضباب المتشمسة" fog-basking beetle، التي لا يزيد حجمها على حبة فراولة، تتسلق الكثبان الرملية الطويلة وتقف على طرفيها الأماميين في وضعية المجابهة. في تلك المرتفعات الغنية بالمياه، يتكثف الضباب ماءً على ظهر الخنفساء ويتدحرج مباشرة إلى فمها، لتكتمل بذلك عملية الاستخراج السحري للمياه من الهواء.

في "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية"، يعكف الباحثون على إتقان تكنولوجيا تحقق نتائج بارعة مماثلة لما أبدعته الطبيعة. في عام 2018، ابتكر بينغ وانغ وفريقه البحثي في "مركز تحلية المياه وإعادة استخدامها" في الجامعة الهيدروجيل hydrogel (الجيل المائي)، بوليمر يشبه بلورة سوداء مائعة، في مقدوره امتصاص الماء من الهواء للاستفادة منها في استخدامات أخرى أو حتى للشرب.

يحتوي الهيدروجيل على كلوريد الكالسيوم، علماً أنه ملح غير سام متعطش جداً للماء؛ فيمتص تالياً بخار الماء والرطوبة من الهواء، ثم يطلق السائل عند تعريضه للظروف المطلوبة.

في اختبارات خضع لها النموذج الأولي الذي ابتكرته "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية"، استحوذ 35 غراماً من الهيدروجيل على 37 غراماً من الماء؛ وعندما تُرك خارجاً في ضوء الشمس طوال بضع ساعات، انفصل الماء النقي عن "الجيل" وجُمع. وفق المختبر، كلفة جمع ثلاثة ليترات من المياه تبقى أقل ربما من نصف سنت يومياً، وتشكل هذه التكلفة المتدنية عاملاً شديد الأهمية بالنسبة إلى المناطق الأقل ثراءً في السعودية خلال السنوات المقبلة.

تمثلت المرحلة التالية في نقل إنتاج المياه من كونه عملية متقطعة إلى عملية متواصلة، وقد أنجز الفريق هذه المهمة عام 2019. وفي عام 2020، طور نموذجاً أولياً من لوحة شمسية خضعت للتبريد باستخدام الماء المستخرج من الهيدروجيل، الذي يعتبر ابتكاراً مفيداً جداً في ظل درجات الحرارة المرتفعة في الشرق الأوسط.

قلة من الناس يعرفون أنه مع ارتفاع درجات الحرارة، تنتج الألواح الشمسية طاقة أقل وتصبح أقل كفاءة. في الاختبارات، وجد باحثو "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية" أن الماء الذي يطلقه الهيدروجيل يمكن أن يعمل على خفض حرارة الألواح الشمسية حتى عشر درجات مئوية، ما يعزز كفاءتها بشكل كبير.

خلال إعلان نتائج البحث، قال رينيوان لي، الباحث الرئيس في المشروع، "نعتقد أن تقنية التبريد هذه تفي بمتطلبات كثيرة من الاستخدامات، لأن بخار الماء موجود في كل مكان وتقنية التبريد هذه تتكيف بسهولة على مختلف النطاقات".

هكذا، "في الإمكان تصنيع هذه التقنية بحجم صغير يصل إلى عدة مليمترات في الأجهزة الإلكترونية، أو مئات الأمتار المربعة في مبنى ما، أو حتى أكبر من ذلك للتبريد السلبي (أي من دون استخدام الطاقة) في محطات الكهرباء"، أضاف رينيوان لي.

مستقبل الماء

فيما تتفاقم التأثيرات السلبية الناجمة عن تغير المناخ، سترتفع قيمة الموارد الحيوية كالمياه، ما يعني أن إنتاجها بتكلفة منخفضة وعلى نحو مستدام يكتسي أهمية بالغة أكثر من أي وقت مضى. ويمكن أن تكون البحوث والابتكارات القائمة فعلاً في المملكة العربية السعودية نموذجاً يحتذى في مناطق أخرى حول العالم تكابد شحاً في المياه.

لا ريب أن "الماء مورد مهم جداً للحياة وعلينا أن نصونه من أجل الأجيال المقبلة"، على ما يقول الدكتور العمودي.

*المبادرة الخضراء السعودية نهج حكومي شامل في المملكة العربية السعودية لمكافحة تغير المناخ.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من بيئة