Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التغلب على الانحياز المعرفي ولقاء المستشارة ميركل

تعطي الزعيمة الألمانية مثلا على التمرس في التفكير العلمي وتدريب الدماغ على تقنيات تقربه من التفكير العلمي وتخرجه من تأثير الانحيازات المعرفيّة

ميركل أثناء حديثها أمام منتدى "جسر بين الأجيال" في برلين 21 مايو الجاري، وقدّمت فيها نموذجاً عن تفكيرها العلمي في مسائل المستقبل ("رويترز")

في السنة نفسها التي حصلتُ فيها على دكتوراه في الكيمياء، تقلّدت المستشارة أنجيلا ميركل التي تحمل درجة دكتوراه في الكيمياء، مقاليد السلطة في بلد يعتبر اقتصاده الأضخم في أوروبا، إذ وصلت إلى كرسي المستشارية في ألمانيا. قبل أربع سنوات، نلت شرف لقاء المستشارة ميركل التي كانت تلامس سنتها العاشرة في منصبها بعد إعادة انتخابها فيه للمرّة الثالثة.

كان لقاء ميركل أمراً مثيراً. وعندما تكون بقربها، يلفك شعور مريح بالطمأنينة. وليس عبثاً أن تكون بادية الثقة في نفسها. إذ تملك تلك القوة الطبيعية غير المتسلطة لشخص يعرف أنه على صواب. وتكون متنبّهة على الدوام، مع نظرة مرتاحة ومُركّزة. وبقربها، تُحسّ بهدوء ينبع من التحليل الدقيق. بعد لقائي المستشارة ميركل، ألقتْ خطاباً بمناسبة الذكرى الـ25 لسقوط جدار برلين. شيئان برزا أمام عيناي. تمثّل الأول في حديثها عن مسؤولية ألمانيا عن الهولوكوست بطريقة لم أسمعها من قبل على الإطلاق. إذ تميّز حديثها بنزاهة غير مسبوقة، فكأنها أمٌّ تذكّر أطفالها بأخطائهم وتنبّهم إلى ضرورة ألا ينسوا ذلك أبداً. وكان الشيء الثاني هو اعتقادها بأن تأثير الابتكار أو التكنولوجيا يصل إلى حد مفاجأة حتى العلماء والمهندسين والمبتكرين أنفسهم. وكل من يعرفني، يفهم بسهولة سبب تأثري بالنقطة الأخيرة.

كنتُ في ألمانيا في 2014 أثناء الاحتفال بالذكرى الـ25 لسقوط الجدار (http://www.falling-­‐walls.com/videos/Adah-­‐Almutairi-­‐3756). وتحدّثتُ عن بحوثي، لكني أيضاً شاركتُ في نقاش مائدة مستديرة ضمّ عشرة أشخاص، عن السياسة حيال الابتكار والبحث، ترأّستها جوهانا فانكا، وزيرة التعليم والبحوث في الحكومة الألمانية الفيدرالية مع نائبها الدكتور جورج شوت. وأثناء تلك المائدة، بدا واضحاً أن الألمان فخورون بنجاحهم الاقتصادي ومشاريعهم البحثية. في المقابل، كانوا يبحثون عن مزيد من التنوّع اقتصاديّاً وكذلك الحال بالنسبة للابتكار المتأتي من مشاريعهم البحثية. وكانوا معجبين على نحو خاص بـ"ثقافة" الشركات الناشئة في الولايات المتحدة. وأثناء النقاش، وجّه رؤساء شركات صناعية كبرى، بعض اللوم إلى افتقاد ألمانيا إلى "الرؤية". وبعد مزيد من التداول، فهمتُ أن ذلك اللوم يذهب عادة  إلى المستشارة ميركل. طُرِحَ أمام المنتدين مثل الرئيس جون كينيدي ورؤيته عن الوصول إلى القمر، التي شكّلت مصدر إلهام للولايات المتحدة، مع ملاحظة غياب شيء مماثل عن ألمانيا. بدا لي أن الناس يغرمون بالكاريزما أكثر من العقول التحليليّة المُدقّقة، مثل ميركل. شكّل الميل إلى التفكير العلمي مفتاحاً في نجاح ميركل سياسياً. وإذ تدرب عقلها على رؤية عوالم خفيّة مثل الموجات والذرات، تعلّمت ميركل مقاربة المسائل من دون انحياز معرفي. إنها تفكر بشكل ممنهج، وتعقد مقارنات، وترسم سيناريوهات واحتمالات، وتزن المخاطر، وتتوقع ردود الأفعال، بل حتى بعد التوصل إلى قرار فإنها تترك هامشاً للتأمل قبل الشروع في التنفيذ. لقد حرّرها تمرسها في العلم من الانحياز المعرفي.

 يشمل الانحياز المعرفي مجموعة من الطُرُق في التفكير بالعالم وفهمه، لكنها قد لا تعبر عن الحقيقة فعلياً. وتتأتى تلك الانحيازات من حاجتنا إلى تبسيط المعلومات بدل العمل بدأب على تحليلها عند اتّخاذ كل قرار. قد نظن أننا نتعامل مع العالم من حولنا بكل موضوعية، لكن الأمر نادراً ما يكون على ذلك النحو. إذ يرى كل شخص منا العالم بطريقة مختلفة عن الآخر، استناداً إلى مفاهيمنا المسبقة، وتجاربنا السابقة، إضافة إلى تأثير عناصر اجتماعية وبيئية. في المقابل، يجدر بنا التنبّه إلى أن تفكيرنا أو شعورنا حيال أشياء العالم ليس بالضرورة أن يكون متطابقاً مع الحقيقة.

في مقال سابق موجود على موقع "اندبندنت عربية"، ناقشتُ مجموعة صغيرة من الانحيازات المعرفيّة المهمة مثل "الانحياز إلى الحاضر" و"تأثير الربط" و"الانحياز إلى الموافقة" و"الانحياز إلى التفاؤل". وأوردتُ أن "الانحياز إلى الموافقة" ربما يكون الأخطر، إذ يتضمن أنه عندما تُعرض أمام المرء معطيات كثيرة، فإنه يميل لأن يبحث فيها عمّا يوافقه منها، بمعنى أنه ينتقي من المعطيات والوقائع ما يتوافق ويؤيد فرضية أو نظرية تكون موجودة عنده من قبل.

ثمة مجموعة من الانحيازات المعرفيّة تكون مترابطة مع بعضها بعضاً مثل "النفور من المخاطرة" و"الخوف مما هو غير مألوف" و"تأثير الالتباس".

في هذا المقال، أعرض مجموعة من تقنيّات فعالة، بالأحرى تدريبات عقليّة، تساعد القرّاء في التغلّب على الانحيازات المعرفيّة. وتتمثّل الخطوة الأولى في تجميع المعلومات. خصص أسبوعاً كي تُصنّف القرارات التي تتخذها أو تلك التي تتوصل إليها العائلة ومجموعة الأصدقاء، بناءً على الانحيازات التي وردت أعلاه. بعد أن تتمرس في ملاحظة الانحيازات المعرفيّة حولك، انتقل إلى الخطوة التالية المتمثلة في فهم مصادر تلك الانحيازات، وهي تشمل الاعتماد الزائد على الحدس، وتجارب الماضي السلبية، والخوف مما هو غير مألوف، والاختلال في التركيب المنطقي بسبب "الميل إلى الموافقة"، أو كل تلك الأشياء سويّة. وبعد أن تصبح واعياً للانحيازات المعرفيّة المحيطة بك يومياً، يمكنك الانتقال إلى الخطوة التالية المتمثلة في التخلّص من تلك الانحيازات.

لا يستطيع أحد التنبؤ بالمستقبل، حتى الأشد خبرة وتمرساً. لذا، عندما نكون بصدد التوصل إلى تخمين ما بشأن المستقبل، من المهم أن "نحرض" أنفسنا على إفساح المجال أمام المخاطرة وعدم التيقّن. تذكّر أنها ممارسة حصينة أن تدفع نفسك إلى تكوين تقديرات "مجنونة" بشأن مستقبل عملك، و"تنام" على توقّعاتك بمعنى أن لا تطلقها فوراً بل تتريث قليلاً قبل إعلانها، وتتخيّل إخفاقات المستقبل وأسبابها المحتملة، وتسعى للحصول على مشورة من دون أن تلوّث رأي من تستشيره بآرائك الخاصة.

وإليك بعض التفاصيل الإضافية بشأن تلك الطرق.

كوّن لنفسك ثلاثة تقديرات مختلفة.

لنبدأ بمثل بسيط. لنحاول الإجابة عن سؤال عما سيكونه سعر البترول في 2022، أو عدد السلع التي سيطلبها زبائنك في الشهر المقبل، أو حجم الأسواق القائمة والكامنة ومعدلات نموها. من شأن تقديرات من ذلك النوع أن ترسم قرارات بشأن دخول أسواق جديدة، وعدد الموظفين، وحجم الانتاج. وبهدف الوصول إلى دقة أعلى، كَوِّن ثلاثة تقديرات مختلفة كأن تكون منخفضة ومتوسطة وعالية. يجب ألاّ تكون تقديراتك العالية والمنخفضة من النوع المألوف، لكنها يجب أن تبقى ضمن إطار واقعي. مع اعتماد مقاربة كتلك، تنخفض إمكانية أن تؤخذ بالحوادث عندما تصل إلى تطرّفاتها، لكنك تستطيع التخطيط لمواجهتها.

فكّر مرّتين.

 اعمل على تكوين تقديرين متباينين، ثم احتسب متوسطهما. وتظهر البحوث أنه عندما يعمد الناس إلى التفكير بمسألة ما مرّتين، فإنها تظهر لهم عبر منظار مختلف، كما يضاف إليها معلومات قيّمة لا تظهر عند الاكتفاء بالتفكير مرّة واحدة بها. لذا، أتِحْ وقتاً لإعادة التفكير مع العمل على تكوين توقع نتيجة معينة، وخذ استراحة (بل "نَمْ" قليلاً، إذا استطعت)، ثم عد إلى ما ابتدأت في الاشتغال عليه وابدأ في صنع تقدير آخر. لا تستند إلى تقديرك الأول، إذ سيؤثر على تقديرك الجديد بفعل "تأثير الربط"، ما يحدّ قدرتك في التوصل إلى رؤى جديدة. إذا لم تستطع التخلص من التفكير في تقديراتك السابقة، عليك اللجوء إلى افتراض أنها مغلوطة، ويتوجّب عليك البحث عن أسباب تدعم تقديرات مختلفة.

تخيّل الفشل في المستقبل

تساعدك هذه التقنية التي تسمّى أيضاً "التأمل الاسترجاعي انطلاقاً من المستقبل"، في التعرّف إلى المشاكل الكامنة التي لا تبرز أمام عقلك أثناء التفكير في المستقبل بطريقة تقليدية. إذا كنت مديراً في مؤسّسة دوليّة للبيع بالتجزئة، ربما تفكر على النحو التالي "لنفترض أننا نعيش في العام 2025، وأن محلاّتنا في الصين تخسر سنويّاً منذ العام 2015، فما هي الأسباب التي أدّت إلى ذلك"؟ ثمة فوائد كثيرة للتفكير بتلك الطريقة. أولاً، انها تميل بتفاؤلك إلى الاعتدال، ما يشجع على تفكير أكثر عقلانية بالمخاطر المحتملة. ثانياً، تساعدك في تحضير خطط احتياطيّة واستراتيجيّات للخروج من المآزق. ثالثاً، تلقي الضوء على العناصر التي قد تساعد في النجاح أو الفشل، ما يزيد قدرتك في التحكّم بالنتائج.

وسّع آفاقك بطلب أفكار جديدة.

في إحدى الدراسات، طُلِب من مجموعة طلبة يحضرون لنيل درجة الماستر في إدارة الأعمال، تحضير قائمة عن الأهداف التي يتوخونها من تدريبهم. أورد معظمهم سبعة أو ثمانية أشياء، مثل "زيادة جاذبيتي لنيل وظيفة في المستقبل" و"تطوير مهاراتي في القيادة". ثم جرى إطلاعهم على قوائم الآخرين، وطُلِبَ منهم تحديد الأهداف التي تضمنها تلك القوائم ويعتبرونها مهمة بالنسبة لهم أيضاً. وكانت النتيجة تضاعف عدد الأهداف المتوخاة في قوائم أولئك الطلبة. أكثر من ذلك، عندما طُلِب منهم أن يعطوا درجات لكل هدف في القوائم، كانت الدرجات التي منحوها للأهداف التي استوحوها من قوائم الآخرين، مساوية للدرجات التي أعطوها للأهداف التي وضعوها بأنفسهم.

إذاً، اعمل على وضع قائمة أهداف بنفسك قبل حصولك على مشورة، كي لا يحصل لديك "تأثير الربط" لدى معرفتك ما يقوله الآخرون. وكذلك احرص على تجنيب من تستشيرهم "تأثير الربط" بالأفكار التي كوّنتها قبل الاستشارة، على غرار قولك "أعتقد بأن مديرنا المالي الجديد يحتاج إلى خبرة في عمليات الاستحواذ على الشركات، فما قولك؟". إذا كنتَ بصدد صُنع قرار بالتشارك مع آخرين، أُطلُب من كل واحد أن يضع قائمة أهداف خاصة به، ثم اعمل على تجميع القوائم كلها.

المزيد من آراء