بات واضحاً أن الوضعية المالية لتونس أضحت أكثر من دقيقة وحساسة في ظل إجماع كل المحللين الاقتصاديين، وحتى المؤسسات المالية الدولية على صعوبة تعبئة الموارد المالية داخلياً وخارجياً لمواصلة إنهاء السنة المالية الحالية.
وتعاني تونس من صعوبات جمة لإيجاد مبلغ 3.5 مليار دولار، لغلق موازنة 2021 المقدرة بنحو 19 مليار دولار، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والشلل الذي أصاب أهم رافعات الاقتصاد التونسي، وفي مقدمها القطاع السياحي المتأثر بتداعيات جائحة كورونا، وتعطل إنتاج الفوسفات علاوة على توقف تدفق الاستثمارات الأجنبية وتراجعها إلى مستويات متدنية جداً في السنوات الأخيرة.
ولم يكف انحدار معظم المؤشرات لاقتصاد غارق في الصعوبات الهيكلية والظرفية، لتنغمس البلاد أكثر في الأزمات السياسية المتواترة، ما أثر بشكل كبير على مناخي الأعمال والاستثمار، ولتتعكر الأمور أكثر، والدخول في حالة من الضبابية وانعدام الرؤية السياسية، إقدام الرئيس قيس سعيد يوم 25 يوليو (تموز) 2021 على تعليق أعمال البرلمان التونسي وإعفاء رئيس الحكومة وعدد من كبار مسؤولي الدولة، وتفعيل جملة من التدابير الاستثنائية ما اعتبرته الأحزاب، فضلاً عن عدد من مسؤولي الدول الأجنبية انقلاباً على الشرعية الدستورية.
التدابير الاستثنائية تواصلت يوم 22 سبتمبر (أيلول) 2021، بالدخول في منعرج آخر، وهو القيام بأحكام انتقالية أكثر صرامة وتعليق جزء من فصول الدستور التونسي لسنة 2014 وتجميع كل السلط في يد الرئيس التونسي.
وكالات التصنيف تراقب
بالتوازي مع الخطوات السياسية التي أقدم عليها الرئيس التونسي، فإن الوضع الاقتصادي لا يزال معطلاً، ويبدو أنه ليس في مفكرة الرئيس سعيد محاولة إقرار تدابير لإنقاذه، على الرغم من بعض المبادرات التي قام بها من أجل العمل على تخفيض الأسعار، لكنها مبادرات لم تنجح بدليل تواصل ارتفاع نسبة التضخم في شهر أغسطس (آب) إلى مستوى 6.3 في المئة، و6.4 في المئة في شهر يوليو مع نسب نمو متدنية جداً، وتفاقم الديون الداخلية والخارجية.
هذا الوضع الاقتصادي المتردي لن يمر من دون ان تكون عيون وكالات التصنيف الدولية، بخاصة "موديز"، و"فيتش" مفتوحة على تونس وتراقب الوضع بكل دقة، إذ إن من غير المستبعد، وفق تحاليل وتوقعات معظم المحللين الاقتصاديين، إذا استمر الوضع الاقتصادي في الانحدار، أن تقوم وكالتا التصنيف بمراجعة تصنيف البلاد إلى مستوى "C " ذي المخاطر العالية جداً.
صعب للغاية
وقال المحلل الاقتصادي والمالي عز الدين سعيدان، إن الوضع المالي أضحى صعباً للغاية في ظل انعدام وضوح الرؤية السياسية في البلاد، واعتبر أن كل المؤشرات الاقتصادية لتونس حمراء وتنبئ ببلوغ مرحلة ستجد نفسها البلاد أمام سيناريو لا تحمد عقباه، وهو إحالتها إلى نادي باريس للدول الأكثر استدانة واستحالة للخروج على الأسواق المالية الدولية للاقتراض، وتوقع عز الدين سعيدان أن يكون الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض مالي جديد من شبه المعجزة.
أمل ضئيل جداً
ورأى سعيدان أن قرار الرئيس التونسي تكليف امرأة برئاسة الحكومة التونسية للمرة الأولى في تونس، والعالم العربي، والشروع في تكوين حكومة ما يطلبه المانحون الدوليون، يعطي رسائل إيجابية لبقية دول العالم على أهمية مكانة المرأة في المجتمع التونسي.
انحدار متواصل
وخفضت وكالة التصنيف الائتماني، "فيتش" التصنيف الائتماني الطويل المدى لإصدار العملة الأجنبية في تونس من "B" إلى "B" مع آفاق سلبية في يوليو 2021، وأوضحت الوكالة في بيانها إن خفض التصنيف "يعكس زيادة مخاطر السيولة المالية والخارجية في ظل تأخر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج جديد ضروري لدعم الوصول إلى دعم الموازنة من معظم الدائنين الرسميين "، وشددت على أنه في غياب إصلاحات قوية، قد يجد الدائنون أن إعادة هيكلة الديون ضرورية قبل أن يتمكنوا من تقديم دعم إضافي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من أن وكالة "فيتش" تتوقع التوصل إلى اتفاق بشأن برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية سنة2021، إلا أنها حذرت من "استمرار المعارضة الاجتماعية القوية للإصلاحات الضريبية وهشاشة الدعم البرلماني للحكومة"، مشيرة إلى ما اعتبرته تحديات الحفاظ على المدفوعات المخطط لها، وأضافت أن "تونس قد تحتاج معالجة نادي باريس (الإطار المشترك لمعالجة ديون البلدان الفقيرة، الذي وضعته مجموعة الـ 20 ونادي باريس)".
وقد قدر صندوق النقد الدولي، في فبراير (شباط) 2021، أن ديون تونس ستصبح غير قابلة للاستمرار ما لم يتم اعتماد برنامج إصلاح قوي وموثوق بدعم واسع.
الإنذار الأخير
وجاء التقرير الجديد لوكالة "موديز"، في فبراير 2021 ليزيد، حسب خبراء، عمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، بعد تخفيض تصنيفها الائتماني من ""B2 إلى " B3"، مع نظرة مستقبلية سلبية.
ورأى مختصون في الشأن الاقتصادي أن التصنيف السلبي الجديد هو بمثابة إنذار أخير لتونس والقيادات السياسية في البلاد، حتى تقوم بالإصلاحات اللازمة قبل حصول الكارثة والنزول بالتصنيف إلى "عالي المخاطر".
واعتبر رضا الشكندالي أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، أن تخفيض وكالتي "موديز" و"فيتش" الترقيم السيادي كان متوقعاً في ظل استمرار الأزمة السياسية وغياب الاستقرار الحكومي، وأشار إلى أن التصنيفين السلبيين الأخيرين للوكالتين أخذ بالاعتبار عينه الوضع السياسي المتأزم، وأضاف، "التصنيف هو تقييم لقدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، بالتالي، فإن هذا الالتزام رهن أرضية سياسية مستقرة تعكس نظرة اقتصادية مستقبلية لخلق الثروة وتسديد الدين"، وأكد الشكندالي أن التصنيف الائتماني تراجع ثماني مرات منذ 10 سنوات، محذراً من مغبة نزوله إلى الدرجة الأخيرة العالية المخاطر من تصنيف الوكالتين، في حال لم تقم بالإصلاحات المستعجلة، وهو ما سيحرمها من الدخول إلى السوق المالية الدولية واستقطاب الاستثمار الأجنبي.
انكماش اقتصادي
يأتي تصنيف وكالة "موديز" في وقت بلغت فيه نسبة الانكماش الاقتصادي 8.8 في المئة، مع ارتفاع غير مسبوق لنسبة الدين الخارجي إلى حدود 110 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي، في وقت قفزت نسبة البطالة إلى حدود 17.8 في المئة في الثلاثي الثاني من 2021، وتحتاج تونس سنة 2021 لموارد تناهز سبعة مليارات دولار، موزعة بين تمويل خارجي بحوالى 4.8 مليارات دولار، وتمويل داخلي من البنوك التونسية بنحو مليار دولار.