Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين غاص تولوز لوتريك في حياة الترفيه الرياضي قبل ملاهي باريس

أجساد فناني السيرك الأكثر كمالا تستهوي أكثر فناني زمانه تشوها

من لوحات تولوز ليتريك عن حياة السيرك (غيتي)

عند نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وقبل دخول السينما على الخط بوصفها مجال الترفيه الأكثر انتشاراً في الحياة الاجتماعية الفرنسية، وغير الفرنسية، استهوت حياة السيرك الفنانين الكبار. وهكذا من بيكاسو إلى ليجيه ومن بول سينياك إلى ديغا، راح هؤلاء الرسامون الكبار يرسمون نجوم السيرك مهتمين خصوصاً بكمال أجسادهم وطلاتهم الرياضية والعنفوان البادي دائماً في ملامحهم. وكان ذلك طبيعياً، مثلاً، في باريس التي كان فيها سيركان كبيران دائمان وبضعة أخرى موسمية. ومن هنا لم يدهش أحد حين كان يرى أولئك الرسامين يتجولون من سيرك إلى آخر يدونون بريشهم وأقلامهم وألوانهم، حياته اليومية ومناظر استعراضاته وذهول جمهوره.

تولوز لوتريك والأجسام الجميلة

ولكن في المقابل سوف يدهش جمهور المعارض الفنية قبل زمننا هذا بأعوام قليلة أمام معرض استعادي حمل بالتحديد عنوان "تولوز لوتريك والسيرك". فهذا المعرض الذي أقيم عام 2016 كشف كم أن هذا الفنان ذا الجسد المشوه والقامة التي تحمل كل العيوب الممكنة، أولع بدوره بالسيرك تماماً كما أولع به زملاء له أكثر صحة منه. وبالتالي لم يرسم من بين نجوم السيرك فنانين أقزاماً أو مسوخاً أو مشوهين. بل رسم، وبكل إعجاب وتبجيل، أجساداً رياضية وحسناوات بالغات الحسن واستعراضات غاية في الجمال. ولم يكن هذا الجانب من نتاجه معروفاً كحال الجانب الآخر المتعلق بحياة الليل الباريسية، والذي سنشير إليه بعد سطور. غير أن ثمة بين كبار "فناني السيرك" واحد تنبه إلى رسوم تولوز لوتريك تلك باكراً وتحدث عنها قبل عقود من إقامة ذلك المعرض. ولم يكن ذلك الفنان سوى السينمائي الإيطالي الكبير فدريكو فلليني الذي حقق بدوره عدة أعمال سينمائية عن حياة السيرك ما أتاح له الإطلاع على أعمال سابقيه من كبار الفنانين الذين دنوا من هذه الفنون، فكان أن لفت تولوز لوتريك انتباهه بشكل خاص، وقال يومها إنه يكاد يفهم دنو هذا الفنان من عالم السيرك بأكثر مما يفهم دنو فنانين أكثر صحة منه. فـ"في نهاية الأمر، قال فلليني، كان تولوز لوتريك، نفسياً، أكثر من زملائه بحاجة لتحقيق تلك الرسوم كتعويض ذاتي عما به. وربما للتحول عبر الرسم إلى مبدع لأجساد سليمة قوية وتعبق بالجمال".

فلليني دائماً على حق

ولم يكن فلليني بالطبع بعيداً عن الصواب. ولعل تلك كانت على أي حال، نظرة والد الفنان تولوز لوتريك الذي وجهه باكراً ومنذ بداية ظهور مواهبه الفنية، وتحت رعاية رسام صديق للعائلة هو الفنان الأبكم والأصم رينيه برينستو لزيارة هذا السيرك أو ذاك بصورة منتظمة كي يستوحي من زياراته تلك المشاهد التي ستكون لوحاته المعبرة عنها، متن المعرض الذي أقيم في عام 2016 والتي ربما كانت هي ما ساعد تولوز لوتريك في بداياته على تجاوز حالته الجسدية ليشعر بنفسه، وهو بين الأجساد القوية ولوحاته التي ترسمها، مبدعاً حقيقياً. ولعل في إمكاننا أن نقول هنا إن عالم السيرك وجماله وقوته كانت هي ما قاد الفنان الشاب، والذي سوف يموت شاباً على أي حال، إلى تقبل أجساد أخرى والتفاعل معها في مرحلة لاحقة من مراحل عمله الفني، هي أجساد الفنانات وحتى فتيات الهوى التي كانت تملأ الليالي الباريسية فحلت لديه محل أجساد الرياضيات والرياضيين لتستكمل خلق ذلك العالم الفني الذي عرف في نهاية المطاف كيف يكونه من حوله جاعلاً منه جسداً سليماً خاصاً به.

مهما يكن من أمر فلا بد من أن نشير إلى أن أحداً لم يعبر عن ليل باريس في حقبتها الذهبية، بقدر ما فعل رسامها القزم المشوه هنري دي تولوز لوتريك، الذي عرف، رغم تشوهه وسنوات عمره القصيرة وانهماكه في اللهو وملذات الحياة بشكل مجاني، عرف كيف يصنع فناً كان من البساطة والتكثيف بحيث تمكن من أن يؤثر على عدة مدارس فنية أتت بعده، هو الذي كان يرفض كل تصنيف.
الحال أن هنري دي تولوز - لوتريك كان في طفولته فتى عادياً جميل المحيا صحيح الجسم، غير أن حادثتين متتاليتين كسرتا له فخذيه، تمكنتا من أن تجعلا منه شخصاً مشوه الجسد حتى نهاية حياته، غير أنهما لم تفقداه ولعه بالحياة وملذات العيش، ولم تفقداه رغبته في التميز والخروج من مركبات نقصه الجسدية.
الفنان الأرستقراطي
تولوز - لوتريك الذي توفي يوم 10 سبتمبر (أيلول) 1901، كان قد ولد قبل ذلك بسبعة وثلاثين عاماً في مدينة آلبي ابناً لعائلة أرستقراطية ثرية، وهو أمضى طفولة عادية هادئة لا تشي بأي مستقبل خاص، حتى كانت الحادثتان المتتاليتان فراح الفتى يكرس وقته للرسم، وراح منذ عام 1882 يرتاد معهد الفنون الجميلة في باريس حيث درس لدى فنانين كبار من أمثال بونا وكورمون، ثم ما إن أحس أنه قد أنجز دراسته وصار بغير حاجة لمزيد من الدراسة ولإشراف أي كان عليه، حتى انتقل يعيش بصورة نهائية في حي مونمارتر بباريس البوهيمي شمال العاصمة الفرنسية.
في مونمارتر بباريس عاش تولوز لوتريك حياة غريبة من نوعها، حيث كان يحمل جسده المشوه وروحه المرحة وتوقه الدائم للنساء ويتنقل بين كباريه وآخر راسماً مغرماً صاخباً معربداً معبراً بكل هذا عن عصر باريسي جديد.
وكان يصر دائماً على أنه لا يريد أن يحتسب في خانة أي مذهب فني. فلئن كانت الانطباعية هي الفن السائد في أيامه، فإنه كان يحاول الابتعاد عنها قدر الإمكان غير مبال بالطبيعة التي كان الانطباعيون لا يكفون عن رسمها، ولئن كان «الفن الجديد» قد بدأ يعلن حضوره في صخب مبشراً بمجيء العصور الجديدة، فإن تولوز لوتريك كان يبتعد عن الفن الجديد مصراً على أنه إنما يريد أن يخلق فنه الجديد الخاص به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضد فنان مشاكس
من هنا كانت الهجمات عليه كبيرة أول الأمر من قبل نقاد وفنانين لم يرقهم هذا الفنان المشاكس الذي لم يكتف بجعل عالم اللهو ونسائه موضوعه الوحيد، بل أوصل التشكيل إلى حدود الكاريكاتير وأعطى الملصق مكانة مميزة في عالمه الفني.
مهما يكن فإن تولوز لوتريك عرف كيف يترك لنا مجموعة هائلة من الرسوم واللوحات والملصقات، التي تصور عالم الليل الباريسي في ذلك الحين خير تصوير. ولعل أجمل ما يميز رسوم هذا الفنان، أن بضعة خطوط مميزة كانت تكفي للتعبير لديه عن شخصية وعن حركة الشخصية وإحباطاتها أو ملذاتها. ولعل ما يلفت النظر في رسوم تولوز لوتريك قدرته الخارقة على التعبير عن انحطاط كائنات الليل، من خلال ذلك التفاوت الذي كان يعبر عنه، بين حركة الأجساد الصاخبة والمرحة من ناحية، والآلام المرتسمة على الوجوه من ناحية أخرى، وهذا ما جعل البعض يشبه رسومه برسوم بيتر بروغل الكبير.
من الطبيعي أنه ليس بإمكاننا، اليوم، أن ننضم إلى هذا الرأي، خصوصاً أن عوالم تولوز لوتريك كانت عوالم مغلقة ومحصورة في انغلاق وانحصار عالم الليل الذي عاشه وراح يعبر عنه طوال حياته، ولكن مما لا شك فيه أن تولوز لوتريك، القزم المشوه، واليائس اللامبالي بالحياة، عرف كيف يؤرخ بلوحاته لجزء كبير وأساسي من تاريخ مدينة باريس، كما عرف كيف يجعل من نفسه نقطة القطاف في مسار تاريخ الفن عند الحد الفاصل بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكيف ينقل إلى صلب الحياة الفنية الباريسية أجواء وخطوط وبساطة الملصقات اليابانية، معطياً الفن الجديد سمات مكثفة تصل إلى الجوهري بعد استبعاد العديد من العناصر المضافة.

وبهذا المعنى يكون هو نفسه من قاد الفن التشكيلي إلى التكعيبية كما إلى التجريدية، من دون أن يدري، أي فيما كان يمارس تلذذه بالحياة في ملاهي باريس وحياتها الليلية الصاخبة.

المزيد من ثقافة