Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عيون غير حكومية تراقب من علياء وتجمع بيانات

عن الأقمار الاصطناعية التجارية وطريقة تغييرها للاستخبارات

في العقد الماضي، تضاعفت أعداد الأقمار الاصطناعية التجارية الموجودة في مدار الأرض كما تحسّنت نوعية صورها (رويترز)

لم تمضِ ساعات على اقتحام "طالبان" العاصمة الأفغانية في 15 أغسطس (آب)، حتى بدأت الوسائل الإعلامية باستخدام صور من الأقمار الاصطناعية التقطتها شركات تجارية من أجل توثيق الفوضى التي بدأت تعمّ مطار كابول الدولي في بثّ يكاد يكون مباشراً. وأظهرت الصور أزمة سير خانقة وصولاً إلى المجمّع وحشوداً من الناس الذين يتوافدون إلى المدرج ومهبط الطائرات الوحيد. وفي الأيام التالية، استمرّت الصحافة باستخدام صور الأقمار الاصطناعية في تقاريرها فيما استعان الجنود القدامى بصور الأقمار الاصطناعية المتاحة علناً لمساعدة المترجمين الأفغان السابقين على التنقّل من دون المرور بنقاط التفتيش التي أقامتها "طالبان" في طريقهم إلى المطار.

لم تكن المرّة الأولى التي لعبت فيها صور الأقمار الاصطناعية التابعة لشركات خاصة هذا الصيف دوراً محورياً في تشكيل فهم الرأي العام لمسألة أساسية تتعلق بالأمن القومي. ففي أواخر يونيو (حزيران)، أعلن الباحثون في مركز جيمس مارتن لدراسات عدم انتشار الأسلحة النووية، الذي يشكّل جزءاً من معهد ميدلبوري للدراسات الدولية في كاليفورنيا، أنّهم اكتشفوا أكثر من 100 صومعة جديدة لإطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في غرب الصين باستخدام صور من شركة خاصة للأقمار الاصطناعية. وبعد أقلّ من شهر على ذلك، أفاد محللون في مركز دراسات آخر عن اكتشافهم حقل صواريخ ثانٍ قيد الإنشاء في الصين. ولم يصدر أي من الإعلانين عن مصادر حكومية أو تسريبات للصحافة بل عن صور التقطتها أقمار اصطناعية تملكها وتشغّلها شركات تجارية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويرجّح أن هذه الأحداث تؤذن بمستقبل تنحسر فيه الأسرار. فمع انتشار الأقمار الاصطناعية الخاصة التي تزوّد الجهات غير الحكومية بأدوات جديدة لمراقبة ادّعاءات السياسيين والتثبّت من صحتها بشكل مستقلّ، تجد الحكومات نفسها وقد فقدت سيطرتها على المعلومات الحساسة شيئاً فشيئاً. لكن عصر الشفافية الجديد الذي تحفّزه التكنولوجيا يعطي الحكومات كذلك فرصاً جديدة لكسب أفضلية استراتيجية [إحراز تفوق استراتيجي]- عن طريق التحقّق من ادّعاءاتها بشكل مستقلّ مثلاً أو عن طريق فضح أنشطة الخصوم غير المشروعة أو عدوانيتها من دون تعريض مصادرها وطرق عملها للخطر. وما يحدّد ربح الحكومات أو خسارتها من وراء عمليات كشف المعلومات هذه يعتمد على ما تخفيه- وعلى قدرتها أن تتعلم كيف تعمل مع افتراض أنّ ثمة من يراقب على الدوام.

زوال الأسرار

حتى وقت قريب جداً، كانت الحكومات فقط هي من تملك الموارد اللازمة لتشغيل جهاز الاستخبارات الواسع الذي تحتاجه لمراقبة نشاطات الدول الأخرى. ونتيجة لذلك، استأثرت الحكومات تقريباً بالمعلومات الاستخباراتية الحسّاسة مما سمح لها بأن تقرّر إفشاء أسرار أعدائها من عدمه، وبأن تحدّد توقيت فضح هذه الأسرار. عندما وقعت أزمة الصواريخ الكوبية [في 1962] مثلاً، حدثت مواجهة شهيرة [ذائعة الصيت] بين السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة أدلاي ستيفنسون، ونظيره السوفياتي، أبرز خلالها الأول صور استطلاع لمواقع الصواريخ في كوبا، كاشفاً بذلك النشاط السري الذي يقوم به الاتحاد السوفياتي أمام العالم أجمع.

ولكن منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وسّع انتشار الأقمار الاصطناعية التجارية إمكانية النفاذ إلى المعلومات الاستخباراتية الحسّاسة التي كانت في ما مضى في قبضة الحكومات بشكل شبه حصري. وخلال العقد الماضي، تضاعفت أعداد الأقمار الاصطناعية التجارية الموجودة في مدار الأرض بشكل كبير، كما تحسّنت نوعية صورها. واليوم، تبثّ مئات الأقمار الاصطناعية التي تملكها شركات خاصة صوراً شديدة الدقة إلى الأرض بشكل شبه آني. ومن هذه الشركات بلانيت، شركة الأقمار الاصطناعية التجارية المرموقة التي جمعت الصور المستخدمة في تحديد وجود الصواريخ الصينية، وهي تشغّل حالياً أكثر من 200 قمر اصطناعي وتزعم بأنها تصوّر مساحة الأرض كاملةً كل 24 ساعة.

 ما يعنيه توفّر هذا النوع من المعلومات المفصّلة من الأقمار الاصطناعية التجارية هو أنّ الحكومات ما عادت الجهات الوحيدة التي تقرّر توقيت الكشف عن معلومات يُحتمل أن تكون حسّاسة؛ فمراكز الأبحاث والوسائل الإعلامية ومجموعات الناشطين وحتى هواة التجسس قادرين على ذلك أيضاً. وكما شرحنا في مقال صدر حديثاً، قد يخلّف هذا النوع من "قرار الإفصاح" الذي تتخذه جهات غير حكومية تبعات سياسية واستراتيجية هائلة. في بعض الحالات، يمكن أن تستخدم هذه الجهات صور الأقمار الاصطناعية من أجل التأكّد من صحة ادعاءات الزعماء السياسيين- وإما تُثبت أو تناقض التصريحات الرسمية وتشكّل بالتالي جهة تدقيق مستقلّة مسلطة على عمل الحكومات. وفي حالات أخرى، قد تكشف الجهات غير الحكومية معلومات لم يُعترف بها سابقاً، غالباً لأنّ الحكومات سعت لإبقاء نشاطاتها طيّ الكتمان. وفي كلتا الحالتين، تؤدي الجهات غير الحكومية دور مقدّم المعلومات القادر على صياغة الرأي الداخلي والدولي.

بدأت صور الأقمار الاصطناعية التجارية تلعب دوراً محورياً في تشكيل فهم الرأي العام لمسائل أساسية تتعلق بالأمن القومي.

لا غرابة أبداً إذن في استياء الحكومات في معظم الأحيان عند استخدام صور الأقمار الاصطناعية لغاية كشف أكاذيبها أو سوء تصرّفها. وهذا ما حدث في أعقاب اجتماع القمة الذي عقده الرئيس الأميركي دونالد ترمب في يونيو (حزيران) 2018 مع الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، الذي زعم بعده بأنّ كوريا الشمالية "ما عادت تشكّل تهديداً نووياً". بعد مرور أشهر فقط على ختام القمة، حدّدت صور الأقمار الاصطناعية التجارية 13 قاعدة سرية للصواريخ في الشمال، مشكّكةً بالتالي في المزاعم التي أطلقها ترمب. وفقاً لبحثنا، فإنّ صور الأقمار الاصطناعية التي تناقض ادعاءات أي زعيم قادرة كذلك على إضعاف الدعم الشعبي الذي يتمتع أو تتمتع به. 

كما تستاء الحكومات بالدرجة نفسها حين تكشف صورٌ كهذه نشاطاتها العدوانية أو السرية. فوجود دليل على انتهاكات لحقوق الإنسان أو للقانون الدولي قد يؤدي إلى إدانة أو عقوبات من المجتمع الدولي. ومن الأمثلة على هذا صور الأقمار الاصطناعية التجارية للمعتقلات الكبيرة في مقاطعة شينجيانغ في غرب الصين، التي قدّمت برهاناً على احتجاز بكين لأبناء أقلية الأويغور. وأضيفت العديد من هذه الصور إلى التقارير التي أذاعتها الوسائل الإخبارية والمنظمات الإنسانية كما ذُكرت في سياق الإدانات الحكومية لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها بكين.

وقد يثير الكشف عن العمليات العسكرية أو غيرها من العمليات السرية الحسّاسة مشكلات أخرى، ويعرّض العمليات الجارية للخطر. وفي بعض الأحيان، قد تضطر الدول للإقرار ببعض النشاطات التي تفضّل إخفاءها عن الرأي العام: مثلاً، استخدمت صحيفة "نيويورك تايمز" صوراً تجارية لتكشف تسيير الولايات المتحدة طائرات من دون طيار من قواعد سرية في غرب أفريقيا، مما دفع بالمسؤولين الأميركيين إلى تأكيد وجود هذه القواعد. وفي حالات أخرى، قد يؤدي خطر الانكشاف أمام تقنيات جمع المعلومات السريعة الانتشار بالحكومات إلى الامتناع عن تنفيذ بعض العمليات ببساطة. وفي كلتا الحالتين، يمكن لوجود صور الأقمار الاصطناعية الخاصة أن يقيّد حرية تحرك الحكومات.

ألعاب تضليل

مع أنّ كشف الجهات غير الحكومية عن المعلومات الحساسة قد يشكّل صعوبات كبيرة للدول، لكن ذلك لا يضرّ بها في كل الأوقات. بل في الواقع، إن تفويض جهات خارج الحكومة بكشف القرارات يمكن أن يمنحها تفوقاً استراتيجياً. فحين تؤكّد صور الأقمار الاصطناعية مزاعم أحد القادة بشأن قوةٍ مُنافِسة خلال أزمة دولية مثلاً، يمكن أن يعزّز الكشف عن المعلومات الدعم الشعبي الذي يحظى به ذلك القائد كما دعم السياسات التي ينتهجها أو تنتهجها. وتشير دراستنا إلى أنّ الاستقلالية النسبية التي تتمتع بها الشركات الخاصة تضفي على صور الأقمار الاصطناعية التي تكشفها مصداقية أكبر من المعلومات المشابهة التي تفصح عنها أجهزة الاستخبارات الحكومية.

وقد تستفيد الحكومات كذلك حين تكشف شركات الأقمار الاصطناعية التجارية معلومات حسّاسة تتعلق بقوى منافسة لها. فربّما يريد صانعو السياسات الإعلان عن هذه المعلومات ولكنهم يخشون في الوقت نفسه أن تتعرض مصادرهم السرية وطرق عملهم للخطر إن أفصحوا عنها شخصياً. بالتالي، يمكن أن يخدم قيام الجهات غير الحكومية بكشف المعلومات مصالح الأجهزة الحكومية- سواء عبر تقديم تبرير لتوسيع الميزانيات أو شراء أسلحة جديدة. وفي موضوع الصواريخ الصينية التي أميط عنها اللثام منذ وقت قريب، قال رئيس أركان سلاح الجو الجنرال تشارلز براون "ثمة جانب إيجابي بعض الشيء في خروج المعلومات للعلن لكي يرى الناس وتيرة التغيير من ناحية عدونا... وهذا يساعد فعلياً على تأكيد ما كنّا نقوله بشأن سبب حاجتنا إلى امتلاك هذه القدرة".

ما عادت الحكومات الجهات الوحيدة التي تقرر متى تفصح عن معلومات قد تكون حسّاسة.

أحياناً، يحدث الكشف المرجوّ عن هذه المعلومات من دون أي تنسيق بين الحكومة والهيئة التي كشفتها. إذ يصرّح محللون مستقلون بما اكتشفوه وتستخدم الجهات الحكومية هذه المعلومات لصالحها. وأحياناً أخرى، قد تنسّق الحكومة (بدرجات متفاوتة) مع جهة غير حكومية لكي تساعدها على إفشاء معلومات. قامت أجهزة الحكومة مثلاً بلفت نظر جهات مستقلة إلى بعض المناطق. أخيراً، حثّ الأميرال تشارلز ريتشارد، قائد القيادة الاستراتيجية للولايات المتحدة- المؤتمنة على الترسانة النووية الأميركية- المحللين المستقلّين على متابعة البحث عن مواقع الصواريخ الصينية، ملمّحاً إلى وجود مزيد من منشآت الصواريخ. وقال "لو كنتم تهوون النظر إلى صور الأقمار الاصطناعية التجارية أو الأشياء في الصين، أيمكنني أن أقترح عليكم بأن تستمروا بالنظر إليها؟".

وفي بعض الحالات، تذهب الحكومات أبعد من ذلك وتوفّر مساعدة تحليلية للجهات غير الحكومية. يتعاون برنامج تيرلاين (Tearline) التابع للوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية مثلاً، مع المجموعات غير الربحية ويوفّر صوراً من الأقمار الاصطناعية التجارية لدعم التحليل الاستخباراتي المفتوح المصدر في مجموعة من المسائل الاستراتيجية والاقتصادية والإنسانية يرى أنها لا تحظى بالتغطية الكافية في الدوائر العامة [العلانية].

وقد يكون الكشف عن النشاطات الحكومية السرية، في بعض الظروف، مستحباً [إيجابياً] على الصعيد الاستراتيجي حتى بالنسبة للدول التي تُفضح أسرارها. بحسب تقديرات بعض المحللين، أرادت بكين أن تُكتشف صوامع إطلاق صواريخها الباليستية نظراً لقلة اكتراثها بإخفائها عن عيون الأقمار الاصطناعية. وقد يكون بناء المنشآت الجديدة جزءاً مما وصفه خبير الأسلحة النووية جيمس أكتون بأنه "لعبة تضليل" متقنة لإخفاء حجم ترسانتها الحقيقي وتعقيد جهود استهداف الصواريخ الصينية.

في مرمى العيون والأنظار

ليس استخدام الجهات غير الحكومية لصور الأقمار الاصطناعية من أجل كشف معلومات حساسة بالممارسة الجديدة تماماً. فقد قدّم برنامج قمر لاندسات الصناعي الأميركي صوراً للجهات غير الحكومية منذ سبعينيات القرن الماضي. فيما بدأت فرنسا ببيع صور قمرها الاصطناعي سبوت (SPOT) في ثمانينيات القرن الماضي، وطُرحت صور شديدة الدقة من الأقمار الاصطناعية التجارية في السوق منذ تسعينيات القرن الماضي. لكن مع أنّ هذه البرامج أتاحت الاستخدام العلني لهذه الصور، فإن تغطيتها كانت غالباً ضئيلة وصورها مرتفعة الثمن. كما أنّ الحكومات فرضت "سيطرتها على العدسات" [تقييد ما يصوّر وإخفاء ما لا تشاء ظهوره] بانتظام، فمنعت تجميع صور الأقمار الاصطناعية التجارية فوق مناطق معيّنة أو اشترتها كلها، فلم تعد هذه المناطق في مطال العملاء غير الحكوميين. 

ووجه الاختلاف اليوم هو حجم ونطاق عمل قطاع الأقمار الاصطناعية التجارية كما سهولة نشر المعلومات. فالتقدّم الذي حصل في مجال تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية وازدياد توفّر المنصات التجارية لإطلاق الصواريخ إلى الفضاء الخارجي سهّل على الشركات الخاصة أمر تشغيل أقمارها الخاصة الذي أصبح أقل ثمناً بالنسبة لها. وفي الوقت ذاته، يؤدي تطوير حواسيب أقوى وتحسين اتصالات الإنترنت إلى زيادة عدد الأشخاص والمؤسسات العاملة خارج إطار الحكومة القادرة على الوصول إلى الصور التي تلتقطها الأقمار الاصطناعية الخاصة، وهذه متعاظمة العدد، وتحليلها.  

ومع ارتفاع عدد الأقمار الاصطناعية الخاصة، ستزداد كمية المعلومات الموجودة في متناول المستخدمين غير الحكوميين. وسوف تضعف سيطرة الحكومة على المعلومات الاستخباراتية. وفيما تستمرّ التقنيات الجديدة بتقليص مساحة "الكواليس" التي تخفي فيها الحكومات نشاطاتها عن الرأي العام، سوف يضطر واضعو السياسات أن يحسّنوا أداءهم في الإخراج [إظهار ما يريدون]. وقد يُجبرون أحياناً على تغيير سياساتهم الحكومية بسبب اكتشاف أمرهم- أو الخوف من ذلك. وأحياناً أخرى، سوف يُضطرون لإيجاد طرق من أجل استغلال هذا الواقع الجديد والاستفادة على الصعيد الاستراتيجي من كشف الجهات غير الحكومية للمعلومات. إنما بغضّ النظر عمّا تفعله، سوف تجد الحكومات صعوبة متزايدة في إخفاء نشاطاتها عن العدد المتزايد من العيون الخاصة التي تراقب في السماء.

*إريك لين-غرينبيرغ مساعد أستاذ العلوم السياسية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

**ثيو ميلونوبولوس باحث ما بعد الدكتوراه في مركز بيري وورلد هاوس (Perry World House) في جامعة بنسلفانيا

مترجم من فورين أفيرز، سبتمبر (أيلول) 2021

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل