Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الأمير" وتلامذته الباهرون من كبار القوم على مر الأزمنة

دروس مكيافيللي الثمينة التي لن يحتاج إليها أي منهم في نهاية الأمر

نيكولو مكيافيللي مؤلف كتاب الأمير   (غيتي)

سواء أكانوا يعرفون ذلك أم لا يعرفونه، وسواء أكانوا يقرون به أم لا يقرون، لا شك أنهم جميعاً، أو في معظمهم على الأقل، كانوا من تلامذة الإيطالي نيكولو مكيافيللي النجباء، في فن السياسة والقيادة، وربما في عديد من الفنون الأخرى. فسواء أكانوا قرأوا كتاب "الأمير" الذي وضعه ذلك المُنظّر الإيطالي الداهية، وما ألّف غيره من كتب، لا شك أنهم جميعاً من آل مديتشي معاصريه، وصولاً إلى ديغول وماوتسي تونغ وفرانكو ولينين وصدام حسين وعلي عبدالله صالح، لكن لا نذكر سوى أشهرهم وأكثرهم مكيافيللية في القرن العشرين، حكموا كما فعل "الأمير" المكيافيللي قبل ولادتهم بعدد لا بأس به من القرون. والحقيقة أن الحكام من هذا النوع لم يكونوا في حاجة ماسّة إلى قراءة ذلك الكتاب الرائع والاسترشاد بفصوله كي يثبتوا سلطتهم. ففي نهاية الأمر لم يضع مكيافيللي أسساً ودليلاً للحكم بقدر ما دون ما ارتآه واقع الحكم كما لاح له ودرسه بعمق في الزمن الذي عاش فيه، زمن الجمهوريات الإيطالية و(الدول - المدن)، والحكام الذين يمضون وقتهم باحثين عن شرعية لهم. ومن هنا ليس "الأمير" دليل عمل بقدر ما هو ترسيخ قواعد عملية، بالتالي ندر أن يكون ثمة حكام احتاجوا إلى قراءة "الأمير" كي يكونوا مكيافيلليين.

مكيافيللية متواصلة

وإلى هذا قد يكون من الضروري هنا الإشارة إلى أن المكيافيللية ليست وقفاً على صفحات كتاب "الأمير"، بل هي ماثلة في معظم الكتب التي وضعها، لا سيما حين كان بعيداً عن الحكم، يراقب ما يحدث من حوله مدوناً على الورق أفكاراً تفسر ما يحدث أكثر مما تقول ما يتوجب حدوثه.

ومن هنا ذلك الشعور الذي يخامر القارئ لدى مراجعته فصول هذا الكتاب كما فصول غيره من كتب المؤلف نفسه، مثل "فن الحرب"، و"حكايات فلورنسية"، و"حياة كاستروشيو كاستراكاني"، وبخاصة "خطاب حول العقد الأول من حياة تيت ليف"، إذ يخامر القارئ شعور بأنه إنما يتابع ما حدث في تاريخ العالم من قبل وما سيحدث من بعد. بكلمات أخرى يجد المتلقي نفسه أمام ما يمكنه اعتباره بديهيات فن الحكم ومسار التاريخ.

ولا شك أن هذا الشعور ينبع من أسلوب مكيافيللي المرتبط بتجربته الخاصة في الحكم، التي يبدو أنه إنما يوصفها في "الأمير"، وغير "الأمير". ومن هنا يأتي سؤال بديهي لا شك أنه ينطرح أمام القارئ: لو لم يوجد كتاب "الأمير"، أو حتى مكيافيللي نفسه، هل كان تغير شيء في أساليب حكم الطغاة وطرائق عملهم؟

جواب على الطريقة المصرية

لعل الإجابة عن هذا السؤال ماثلة في المقارنة بين حكايتين يجمع بينهما كونهما حقيقيتين، وتفصل بين حدوثهما قرون عدة. حكاية أولى يرويها مكيافيللي نفسه لسيده لورانزو دي مديتشي دوق فلورنسا، عن مجزرة اقترفها الحاكم أوليفيرو دا فيرمو في حق كبار أعيان مدينته ممن دعاهم إلى حفل صاخب ذات مساء قدم لهم فيه أطناناً من اللحوم والخمور بكل أريحية حتى إذا انتشوا تماماً وراحوا يرقصون ثملين أغلقت دونهم أبواب الخروج ليدخل جنود الحاكم ويذبحوهم بحيث لم يبقَ منهم واحد على قيد الحياة، وحكاية أخرى ستحدث في مصر أواخر القرن الثامن عشر في تطابق مدهش مع الحكاية السابقة، حيث سيدعو باشا مصر (محمد علي، وكان في أول سنوات حكمه)، أعيان البلد وكبار قادته المماليك إلى حفل عشاء صاخب مماثل تماماً لحفل دا فيرمو، لتنتهي الحكاية بذبحهم من أولهم إلى آخرهم. وطبعاً نعرف أن مكيافيللي لم يروِ هذه الحكاية الأخيرة في "الأمير"، لكن التصرف واحد، والتفسير واحد، وذلك النوع من الحكام، سواء انتموا إلى عصر النهضة الإيطالية أو إلى عصور غيره، ليسوا في حاجة إلى دروس في الحكم من هذا النوع. ومع ذلك، نعرف أن حكاماً كُثراً في العالم قرأوا نص مكيافيللي، بل ربما مجمل نصوصه، ولو ليتيقنوا أنهم يسيرون على الدروب الصحيحة، لا سيما انطلاقاً من نصيحة له لا يبدو أن أحدهم يجهلها حتى وإن لم يكن قد سمع باسم هذا الأخير أو قرأ "الأمير"، القائلة، "يجب التخلص من الأعداء بأبكر ما يمكن كي يتسنى للحاكم أن يحكم بهدوء وطمأنينة". وهي نصيحة يمكننا أن نتبعها، ودائماً مستخلصة من صفحات "الأمير" بتالية لها تقول: "هناك طريقتان للمجابهة، واحدة تقوم على السياسة، وثانية على استخدام القوة". صحيح أن مكيافيللي كان يقر، كما يفعل في صفحات عديدة من كتابه، بالقيمة المثلى للطريقة الأولى، لكنه كان يعرف كذلك محدوديتها ما يضطر الحاكم إلى اللجوء للثانية. ونعرف نحن بالتالي أن السياسة التي اتبعها آل بورجيا في الحكم في روما كانت تبرر لمكيافيللي ما يذهب إليه وما بُني عليه بالتالي العمود الفقري لفكره الاستراتيجي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قوانين الحكم مفسرة للحاكمين

ومع ذلك كله، وعلى الرغم من أن كتاب "الأمير" وبقية نصوص مكيافيللي التي استكملته أو فسرته أو طبقته من خلال أمثلة عملية، قد تم التعامل معه دائماً على أنه كتاب يشرح قوانين الحكم ويفسر للحاكمين أنجع الطرق للحفاظ على حكمهم، فإنه وتحديداً في نظر كُثر من الباحثين في تاريخ الزمن النهضوي الإيطالي، أي الزمن الذي ظهر فيه الكتاب، وعاش فيه نيكولو مكيافيللي، بين 1469، عام ولادته في فلورنسا، وعام 1527، العام الذي مات فيه في فلورنسا نفسها، بعد أن عاش وتنقل ووصل إلى أرفع المناصب الحكومية، مستغلاً فرصة ابتعاده أحياناً عن الحكم ليكتب نصوصه التي خلدت من بعده، كان؛ أي كتاب "الأمير"، نوعاً من بيان سياسي يدعو ويعمل في سبيل الوحدة الوطنية الإيطالية.

ومن هنا، يمكن اعتبار الفصل الأخير من الكتاب نوعاً من دعوة موجهة إلى لورانزو دي مديتشي الحاكم الذي عمل مكيافيللي في ظله وتوجّه إليه بمعظم كتاباته، كي يخلص التراب الإيطالي ممن سماهم "البرابرة"، أي تلك الجحافل الهاجمة من الشمال والشرق والضاغطة على هذا البلد محاولة أن تدمر كل ما بناه من حضارة وحققه من تقدم على كل ما يحيط به من شعوب وأمم. "فتماما كما فعلت جان دارك من قبلنا، إذ ألقت بالإنجليز خارج فرنسا، يتعين علينا يا مولاي، أن نمحو كل ما ليس إيطاليا من بلدنا". يقول مكيافيللي موجهاً كلامه إلى لورانزو، مستحلفاً إياه أن يزيل أي وجود للأجانب من صفوف جيوشه.

ما لقيصر لقيصر

في الأحوال كافة، يعتبر "الأمير" أول كتاب في الفكر السياسي صدر في الأزمنة الحديثة. وفيه يسهب مكيافيللي عبر أسلوب رزين ولغة معاصرة مشذبة، في الحديث عن معنى الحكم، وقد شاءه متخلصاً من أي بعد فلسفي أو ديني. فبالنسبة إليه لا علاقة للحكم الحقيقي لا بالفلسفة ولا بالدين، فـ"هذان ينتميان إلى الأمور التأملية الميتافيزيقية"، أما بالنسبة إلى شؤون الحكم فإن همها العمل على الحفاظ على الدول. ومن هنا، فإن مكيافيللي ومنذ الصفحات الأولى لكتابه، يضع جانباً الدولة الباباوية (الفاتيكان)، وكذلك تلك الدويلات التي يحكمها رجال الدين هنا أو هناك. فهذه وتلك تقع خارج اهتمامه بالنظر إلى أنها "ومهما كان من شأن واقعيتها السياسية أن تلوح لنا، فإن هذه الأنظمة ليست أكثر من وحوش" لا يتحدث عنها الكاتب إلا ساخراً بقوله، "في الحقيقة، أنا لا أريد أن أتحدث عن هذه الكيانات طالما أن من يديرونها ينسبونها إلى الرب نفسه، ولسوف يكون من الادّعاء الفاجر على إنسان بسيط مثلي أن يناقش ما يصنعه الرب". وواضح أن مكيافيللي، وانطلاقاً من هنا، يضع لنفسه مبدأً واضحاً لا يحيد عنه؛ مبدأ يقول بعدم الخلط وعند أي مستوى من المستويات بين ما هو "غيبي" وما هو "سياسي". ويقيناً إن هذه واحدة من ميزات "الأمير" الكبرى!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة