Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماكرون يستقبل ميقاتي ويذكره بشروط المجتمع الدولي

حكومة لبنان ولدت خلافاً للمعايير الفرنسية وأهدافها متواضعة و"حزب الله" يفرض إيقاعه عليها

"أخيراً"... قالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، "نرحب بكم بعد طول انتظار"، في تصريحه إثر استقباله رئيس الحكومة اللبنانية الجديدة نجيب ميقاتي، بعد أربعة أيام على نيلها ثقة البرلمان، كأنه يقول إن هذه الحكومة ولِدت بشق الأنفس، منهية فراغاً دام 13 شهراً زادت على لبنان أثقالاً مأساوية فوق أثقال المأزق السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي يعانيه، والذي بادرت فرنسا منذ 6 أغسطس (آب) 2020 إلى تجييش المجتمع الدولي من أجل إخراجه منه، فأعاقت التعقيدات الداخلية المتشابكة مع الصراعات الإقليمية والدولية جهودها.
فهذه التعقيدات وتداخلها مع الحسابات الإقليمية احتجزت الحكومة واستنفدت رئيسَين كُلفا بتأليفها هما السفير مصطفى أديب وزعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري، وانخرطت معهما ثم مع ميقاتي خلية الأزمة التي شكلتها الرئاسة الفرنسية للاهتمام بالأزمة اللبنانية، وانغمست بتفاصيلها المملة، وحملت ماكرون على إجراء اتصالات مع العديد من القادة والعواصم لإعانته على تذليل العقبات أمام ولادتها، كان آخرها قبل أسبوع من إنجازها، مع الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي. وأدى التوافق بينهما إلى طلب "حزب الله" من حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل تسهيل إعلان الحكومة، فيما تولت باريس دعوة رؤساء الحكومات السابقين والحريري إلى تغطية تنازلات اضطر ميقاتي إلى تقديمها لعون.

دفع فرنسي معنوي بعد التساهل في المعايير

وشكّل استقبال ماكرون لميقاتي دفعاً سياسياً ومعنوياً للحكومة الجديدة أعلنت باريس من خلاله مواصلة عملها على إنقاذ لبنان من الحفرة العميقة التي سقط فيها، لكن الرئيس الفرنسي كان واضحاً بأن الدعم سيكون مشروطاً، إذ قال في المؤتمر الصحافي المشترك مع رئيس الحكومة اللبنانية إن "المجتمع الدولي لن يتمكن من مساعدة لبنان قبل إطلاق الإصلاحات في الأقل". وكان لافتاً إعطاءه الأولوية "للإصلاحات في قطاع الطاقة ومكافحة الفساد وإصلاح الإدارة، وجميعها موجودة في ذهنكم وبحثناها معاً".
وولِدت الحكومة اللبنانية خلافاً للمعايير التي كان ماكرون وضعها في مبادرته خلال زيارته الثانية إلى بيروت في 1 سبتمبر (أيلول) 2020، أي أن تكون من اختصاصيين مستقلين غير حزبيين بدعم من القوى السياسية التي عليها إبعاد رموزها عن السلطة والمغضوب عليها من فئات واسعة من اللبنانيين أطلقت "ثورة 17 تشرين" (أكتوبر) عام 2019، بعدما تسببت ممارساتها بإفلاس البلد وإغراقه بالديون وأساءت إدارة الاقتصاد والحياة السياسية، وخرّب مَن هم في السلطة علاقة لبنان بالدول العربية لا سيما الخليجية، التي يعتمد البلد على مساعداتها واستثماراتها. فضلاً عن أن إغراق التأليف بالخلاف على الحصص الوزارية أخّر الإصلاحات التي تضمنتها خريطة الطريق التي وافق عليها زعماء الأحزاب والتزموا بها أمام ماكرون، والتي يشترطها المجتمع الدولي منذ سنوات لتقديم مساعدات عاجلة، وجاء معظم وزراء حكومة ميقاتي من أصحاب الولاءات للقوى السياسية التقليدية، مع وجود عدد قليل من المستقلين.

تشكيل الحكومة بمساومة فرنسية - إيرانية كان مؤشراً إلى محدودية الأهداف المتوخاة منها لسببين. أولها أن الوقت الذي ضاع في الخلافات على تأليفها جعل عمرها قصيراً نظراً إلى أن مهمتها السياسية الرئيسة هي الإشراف على استحقاق الانتخابات النيابية المقررة في مايو (أيار) العام المقبل، أي بعد ثمانية أشهر، وثانيها أن إضاعة فرصة إجراء الإصلاحات البنيوية المطلوبة منها في خطة تدريجية للتعافي الاقتصادي باتفاق مع صندوق النقد الدولي يحصل لبنان بموجبه على تمويل تنفيذ هذه الخطة لإعادة تحريك الاقتصاد، قد يجعل من المتعذر عليها اتخاذ خطوات جريئة ومؤلمة، في وقت ستنصرف القوى السياسية قريباً إلى حملاتها الانتخابية، حيث ستخضع خلالها تلك الإجراءات للمزايدات الانتخابية.

التوافق مع طهران لا يشمل خطوات الحكومة

ويختصر مراقبون كثر تفسير ولادة الحكومة بمساومة بين باريس وطهران وبغض نظر فرنسي عن بعض المعايير لتشكيلها، وبأن العاصمتين توافقتا، كل لسببها، على أن المزيد من الانهيار في الوضع المالي الاقتصادي والأوضاع الحياتية سيخلق صعوبة في إعادة لملمة تداعيات الأزمة مع انعدام مقومات الحياة الأساسية في البلد الذي بات يفتقر إلى المحروقات والكهرباء مع شح الأدوية والمواد الغذائية وصعوبات الاستشفاء... فباريس التي تتجه نحو انشغالاتها الداخلية بالانتخابات الرئاسية التي ستجري السنة المقبلة وسيخوضها ماكرون، ولديها مشاغلها الخارجية بأزمتها مع الولايات المتحدة بعد إلغاء صفقة الغواصات مع أستراليا، سلمت بأن الطبقة الحاكمة في لبنان وفي طليعتها "حزب الله" بتحالفه مع عون، يتمسكان بأرجحيتهما في السلطة، وأنه إذا كان لا بد من تغيير في المسرح السياسي اللبناني فإنه يجب أن يحصل في الانتخابات المقبلة. ومن هنا الإصرار على إجرائها في موعدها من المجتمع الدولي برمته. وإيران التي اتهمت بإبقاء الفراغ الحكومي ورقة تفاوضية مع الغرب في إطار التجاذب بينها وبين دول الغرب في مفاوضات فيينا، لم تمانع في الإفراج عنها طالما أن "حزب الله" يحتفظ بـ"الكلمة الفصل" حسب وصف ميقاتي نفسه، وأنه لا بد من تنفيس النقمة الشعبية على التدهور المعيشي في البلد عبر الحكومة، لأنها باتت تشمل جمهور الحزب.
إلا أن الأسئلة بقيت تُطرح عما إذا كان التوافق الفرنسي - الإيراني على إنهاء الفراغ الحكومي يشمل الخطوات التي عليها اتخاذها، في ظل استمرار الخلاف على أولوياتها. فالعوائق التي أخّرت قيام الحكومة داخلياً وخارجياً تدفع الجانب الفرنسي وميقاتي إلى شيء من الواقعية والتريث.

حاجة ماكرون وميقاتي إلى التنسيق بوجه الصعوبات

ويمكن القول بالاستناد إلى مطلعين على محادثات باريس، إن لقاء ماكرون - ميقاتي أدى إلى انبثاق علاقة بين الجانبين تهدف إلى تعاونهما في المرحلة المقبلة في مواجهة الصعاب والمطبات الداخلية والخارجية أكثر مما ترمي إلى تنفيذ برنامج إنقاذي محفوف بالعراقيل، نظراً إلى وجود أكثر من قوة خارجية وأطراف داخلية لديها أجندة بعيدة عن الأجندة التي يسعيان إليها. وهذا يفترض تنسيقاً وثيقاً بينهما في الأشهر المقبلة على الصعيد السياسي، يحتاجه كل منهما، الأول كصاحب مبادرة تعثرت بفعل كثرة اللاعبين، والثاني كمسؤول في سلطة تتلاطمها الأنواء من كل حدب وصوب.
فعلى الرغم من أن البيان الوزاري الذي نالت على أساسه حكومة ميقاتي الثقة تضمن عشرات البنود والوعود الإصلاحية الاقتصادية والمالية والسياسية، وتجنب المواضيع الخلافية، فإن مقدمات المناقشات التي جرت في البرلمان اللبناني تدل على أن الخلافات الداخلية ستحول دون قيام الحكومة بالإصلاحات بالسلاسة التي تفترضها الحاجة الملحة إليها.
رئيس "التيار الوطني الحر" النائب باسيل شنّ حملة في كلمته أثناء مناقشة بيان الحكومة يوم الاثنين 20 سبتمبر الحالي، على المجلس النيابي، متهماً إياه بإعاقة الإصلاحات التي يطرحها تكتله النيابي مواصلاً بذلك تصعيد خلافه مع رئيس البرلمان نبيه بري، كما شنّ حملة على حليف بري، سعد الحريري من دون أن يسميه متهماً إياه بأنه كان وراء تأخير الحكومة لرفضه مشاركة الرئيس عون في تشكيل الحكومة. وهذا جزء من الحملات الانتخابية التي يخوض على أساسها باسيل معركته المقبلة، في ظل اتهامه بأن وزراء تياره الذين تولوا (إضافة إليه شخصياً) حقيبة الطاقة في العقد السابق كانوا وراء الفشل في انهيار هذا القطاع وتكبيد الخزينة مليارات الدولارات. كما أن عون وباسيل سلما كل أوراقهما في الخانة الإيرانية بعد أن جرى إخضاع الثاني للعقوبات الأميركية وفق قانون ماغنتسكي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.

و"حزب الله" الذي حضر جلسة الثقة متسلحاً بتمكنه من إدخال المازوت الذي استورده من إيران وأدخله من مرفأ بانياس السوري بصهاريج سورية عن طريق معابر غير شرعية ومن دون دفع الرسوم المتوجبة لخزينة الدولة، اعتبر أنه كسر الحصار "الأميركي - الإسرائيلي" والعقوبات الأميركية على تصدير النفط الإيراني، ووضع شروطاً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي. فالحزب أعلن أنه يرحب بالمساعدات المالية الدولية إذا كانت بلا شروط، لكنه أكد أنه إذا كانت هناك شروط فهو سيدقق وسيراقب وسيضع ضوابط. ويعتبر الحزب أن القبول بشروط الصندوق يعني تسليم إدارة البلد إلى الدول الغربية، ما يشكل إضعافاً لنفوذه.

إيقاع "حزب الله" والحكومة

لكن القيود المتوقعة من قبل "حزب الله" وحلفائه على برنامج الإصلاحات، الذي أصر ماكرون على "إطلاقه في الأقل" من أجل تقديم المساعدة المالية، لا تقف عند هذا الحد، بل إن الحزب فرض إيقاعه على الحكومة الجديدة، بينما يسعى ميقاتي إلى التحرر من بعض إملاءاته. فاستيراد "حزب الله" النفط الإيراني تم بالفرض، وفي سياق تستفيد منه طهران أكثر مما يستفيد منه لبنان المتعطش للمحروقات، فأدخل الحزب هذه المادة إلى السوق اللبنانية ويبيعها بالعملة الصعبة التي تدعم حاجة الحكومة الإيرانية إليها، لا سيما بعد ارتفاع سعرها برفع دعم المصرف المركزي اللبناني عن استيرادها، على الرغم من تغطية العملية بتقديم هبات من الشحنة الأولى إلى بعض المستشفيات والمخابز التي تحتاج إليها لتوليد الكهرباء. وشكّل ذلك تحدياً للحكومة التي تحتاج إلى إقناع العديد من الدول العربية بأنها مستقلة عن نفوذ الحزب، كي تقبل بتقديم المساعدة المالية للبنان، خصوصاً أن استخدام معابر غير شرعية لإدخال هذا النفط يعني تكريس قدرة الحزب على التهريب إلى سوريا، الأمر الذي يشكل أحد أبرز أسباب تفاقم أزمة المحروقات في البلد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما سعى الحزب إلى تثبيت سطوته على المؤسسات اللبنانية بافتضاح التهديد الذي وجهه مسؤول الأمن والارتباط وفيق صفا إلى المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، بأنه "سيقبعه" من موقعه، ما وضع الحزب في موقع التدخل في عمل القضاء وفرض إرادته عليه، ما يعيد إلى الأذهان الاتهامات الموجهة إلى الحزب في تقارير إعلامية لبنانية ودولية بأنه كان وراء تهريب جزء من نيترات الأمونيوم التي انفجرت في المرفأ إلى سوريا، وأن قلقه من التحقيق دفعه إلى إطلاق هذا التهديد الذي قوبل بالصمت من قبل رئيس الجمهورية ووزراء معنيين.

تواضع الأهداف

كل هذه الوقائع وغيرها تشي بأن أهداف الحكومة ستبقى متواضعة وخاضعة للضغوط في المرحلة المقبلة، وسيحتاج خلالها ميقاتي إلى دعم دولي في طليعته فرنسا، وداخلي يفترض أن يتبلور من خلال مواقف رؤساء الحكومات السابقين وفي طليعتهم الحريري.

فإلى التزامه إجراء الانتخابات في موعدها، تتلخص قائمة الأهداف القصيرة عند ميقاتي بالآتي:

- السعي إلى سد النقص في الحاجات الرئيسة للبنانيين من محروقات وأدوية وغذاء بعد رفع الدعم عن معظمها، مقابل تأمين المال اللازم لتمويل البطاقة التمويلية للأشد فقراً ولجزء من الطبقة المتوسطة التي تدهورت أوضاعها المعيشية. وفي هذا المجال سيسعى ميقاتي من أجل استخدام جزء من مبلغ المليار و135 مليون دولار التي حصل عليها لبنان من حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد أسوةً بما حصلت عليه سائر الدول من حقوق، لتمويل البطاقة، بالإضافة إلى الحصول على قروض من البنك الدولي في إطار برامجه لدعم شبكة الأمان الاجتماعي.

- زيادة رواتب القطاع العام مع مطلع السنة المقبلة لتعويض الموظفين والعاملين في قطاع التعليم بعض ما خسروه من قيمة رواتبهم جراء انهيار العملة اللبنانية.

- إطلاق التفاوض مع صندوق النقد الدولي من أجل بلورة خطة التعافي الاقتصادي للتوافق على الخطوات الأولية المتعلقة بإصلاح بعض القطاعات ولا سيما الكهرباء والاتصالات بتعيين الهيئات الناظمة، وبوضع خطة لإصلاح النظام المصرفي. إلا أن هذا التفاوض لن يُنجز نهائياً وسيترك إنهاؤه لحكومة ما بعد الانتخابات.

- تلزيم أحد معامل إنتاج الكهرباء باستخدام جزء من أموال حقوق السحب الخاصة التي حولها صندوق النقد الدولي إلى الخزينة اللبنانية، عبر عقد شراء الفيول العراقي بتسهيلات من حكومة بغداد، إذا تعذر تأمين التمويل من الصندوق الكويتي للتنمية أو الصندوق العربي، لرفع التغذية بالتيار الكهربائي توفيراً لاستيراد المازوت.

المزيد من متابعات