تكتنف الأجواء السياسية في السودان حالة من الوجوم، بسبب التجاذبات بين المكونات المختلفة بخاصة المدنية والعسكرية، والتي تصاعدت نيرانها عقب إحباط المحاولة الانقلابية التي نفذتها مجموعة من العسكريين وبعض المدنيين الثلاثاء، 21 سبتمبر (أيلول) الجاري، وإن كان سبقت هذه المحاولة تحركات وصفها عضو مجلس السيادة السوداني محمد الفكي سليمان، خلال ورشة عمل حول الممارسات الدولية الفضلى في التفكيك المؤسسي، نظمتها بعثة الأمم المتحدة المتكاملة في الخرطوم، بالتعاون مع مجلس الوزراء السوداني، الأحد 20 سبتمبر، بالمريبة لإعاقة عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد، مؤكداً أنها تهدف لإحداث تعديل في المعادلة السياسية من دون حوار، ما يؤدي إلى مخاطر من شأنها إضاعة كل الجهد الذي بذل خلال العامين الماضيين.
فما مدى إمكان نجاح هذا التحرك الرامي لتغيير واقع المعادلة السياسية في البلاد في ضوء التحديات الماثلة في المشهد السوداني؟
مظاهر انتقال
رئيس لجنة السياسات في المكتب السياسي في حزب "الأمة القومي السوداني" إمام الحلو قال، "ما يحدث الآن من تباين في وجهات النظر بين مكونات المجتمع السوداني مظاهر انتقالية شملت شرائح المجتمع، السياسية والرياضية والثقافية والإعلامية، وكذلك داخل المنظومة العسكرية، فالسودان خارج من مرحلة أحادية لم تكن تقبل بالرأي الآخر على مدى ثلاثة عقود، لذلك لما تمت الإطاحة بالنظام الأحادي وسياساته العرجاء انفتح الباب للرأي الآخر، وهذا يحتاج وقتاً حتى يتوافق الجميع على إدارة البلاد. كما نجد أن الشراكة القائمة حالياً بين المكونين المدني والعسكري، هي تجربة جديدة على مستوى الانتقال، وصاحبها تجريم وعدم ثقة، لأن الطرفين لجآ إليها بشكل اضطراري".
ورأى الحلو أن ما يحدث من تصعيد بين الجانبين المدني والعسكري ناتج من أن الشراكة بينهما لم يؤسس لها بطريقة صحيحة، وكان يجب أن يتم تحديد دور كل شريك، فنحن في "حزب الأمة" انتبهنا لهذه المسألة منذ وقت مبكر، وطالبنا في يوليو (تموز) 2018 بضرورة أن يكون هناك ميثاق يوضح دور المؤسسة العسكرية، وعند توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس (آب) 2019، دعا رئيس الحزب الصادق المهدي إلى إيجاد ميثاق شرف بين المكونين المدني والعسكري، وهو الحل الذي يمكن أن يؤسس إلى إدارة الفترة الانتقالية بشكل يضمن إكمال مهامها من دون تشاكس، لأن الشراكة في الوثيقة الدستورية جاءت بصورة ضمنية من غير توثيق، لذلك تنبع أهمية هذا الميثاق لكونه يضبط العلاقة بين الجانبين.
إجماع وطني
واعترف رئيس لجنة السياسات في المكتب السياسي في حزب "الأمة القومي السوداني" أن قوى الحرية والتغيير التي تعتبر الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية فيها خلل هيكلي، ما أدى إلى الخلافات بين مكوناتها، وظهر ذلك في محاصصات أجهزة الحكم، ووجدت مكونات كثيرة نفسها خارج منظومة الحكم، لكن الآن، هناك مبادرات لتوحيد هذه الحاضنة، ونحن في حزب "الأمة" طالبنا من خلال مشروع العقد الاجتماعي بإشراك كل القوى السياسية التي شاركت في الحراك الثوري، مشيراً في الوقت عينه إلى أن عدم قبول اقتراحنا أدى إلى تجميد عضويتنا في المجلس المركزي للحرية والتغيير، وبعد حوار عميق قاد إلى إعادة النظر في سياسات ومنهج الحاضنة السياسية، تراجعنا عن قرار التجميد، وقبلنا بالمشاركة في حكومة الفترة الانتقالية.
وتابع الحلو، "في ظل جهود توحيد قوى الحراك الثوري، تم مطلع هذا الشهر التوقيع على الإعلان السياسي بمشاركة نحو 40 مكوناً على أساس أن يكون هناك تشكيل جديد للمجلس المركزي يراعي ويفتح الباب للقوى التي لم تكن ممثلة في السابق، وفي اعتقادي أنه بعد إحباط المحاولة الانقلابية، أصبحت هناك ضرورة ملحة لتوحيد القوى السياسية كافة، وليس تشكيل معادلة سياسية جديدة تفرز واقعاً جديداً، لأن هذه السلطة جاءت بإرادة وكفاح الشعب السوداني. فالحديث عن أن هناك معادلة جديدة أمر غير مقبول، ولا توجد جهة من قوى الثورة تنادي به، والآن سيتم عرض الإعلان السياسي الجديد على كل القوى السياسية لتحقيق إجماع وطني حوله وتفويت الفرصة على من يريد إفشال الفترة الديمقراطية، وعدم إكمال عملية التحول الديمقراطي".
ونوه إلى أن حزبه ينادي بعقد مؤتمر جامع لكل مكونات المجتمع السوداني المختلفة، يفضي للتوصل إلى تصور للمرحلة الانتقالية من ضمنها توحيد الحاضنة السياسية، مشدداً على ضرورة سدّ ثغرات أسباب النزاعات التي تحدث من وقت لآخر، ومن أهمها استكمال أجهزة الحكم ومؤسساته، وهي تشكيل المجلس التشريعي، والمفوضيات، والمحكمة الدستورية، وتعيين رئيس للقضاء ونائب عام، وأن يتم ذلك بتوافق تام، ما سيؤدي إلى استعادة الوضع بالشكل الطبيعي، بالتالي لن تكون هناك حاجة لتغيير معادلة سياسية، وتبقى المعادلة الحقيقية هي أن الشراكة في الحكم قائمة على أساس إدارة المرحلة الانتقالية بين المكونين المدني والعسكري وفق الأدوار المعروفة لكل طرف.
خلل وتربص
في المقابل، قال القيادي في حزب المؤتمر الشعبي في السودان كمال عمر، "من الواضح هناك خلل في الشراكة بين المكونين المدني والعسكري، ويرجع إلى أن كل طرف يتربص بالثاني، فالمدنيون عندهم أوراق يلوحون بها من وقت لآخر في وجه العسكر، بينما قام العسكريون بدس المحافير للمكوّن المدني لتوفير حيثيات الفشل تجاههم، والعمل على استعداء الشارع السوداني ضدهم، وظهرت هذه الحقيقة عندما أطلق بعض المسؤولين المدنيين نداءات للشارع للتصدي للمحاولة الانقلابية الأخيرة، من دون أن يهبّ أحد، بل وجدت تلك النداءات سخرية من البعض في مواقع التواصل الاجتماعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبيّن عمر أن الشراكة القائمة بين المدنيين والعسكريين هي شراكة تشاكس ولن تفضي إلى تحول ديمقراطي، وبشكل عام نحن كمؤتمر شعبي، موقفنا ضد عسكرة الفترة الانتقالية على الرغم من بؤس الجانب المدني، الذي يحتاج إلى التقوية، إذ إنه يعمل وفق النظرية القديمة، لذلك تفتت وانقسم في أول اختبار للسلطة، ما جعل هناك حاجة ملحة لإيجاد وفاق سياسي حقيقي من دون استثناء أحد من أجل دفع التحول الديمقراطي، وإلا، العسكر قادمون، فقوى الحرية والتغيير توفر كل يوم حيثيات للعسكر للانقضاض على الثورة، لذا، المشهد العام قاتم جداً، متوقعاً من خلال الاتهامات المتبادلة بين المكونين عقب المحاولة الانقلابية، حدوث تغيير في شكل الحكم في غضون شهر بالكثير، بإزاحة قوى الحرية والتغيير من المشهد السياسي الحاكم، والبحث عن شريك آخر للعسكر.
استخبارات إقليمية
ولفت القيادي في حزب المؤتمر الشعبي إلى أن المعادلة السياسية غير متوافقة ولا بد من تغييرها، ومعروف أن القوى السياسية في تاريخها لديها مشكلات في تفكيرها السياسي، ودائماً تفشل في أول امتحان للسلطة، ويرجع ذلك لانعدام الإرادة الوطنية المعتبرة، فإرادتها تحركها استخبارات إقليمية، لذا أتوقع أن تضيع الثورة، إن لم تستيقظ الأحزاب من سكرتها وتعيد ترتيب أوراقها على نحو يحقق الوفاق، موضحاً أنهم، كحزب إسلامي، ليس لديهم تحفظ على علاقتهم مع القوى السياسية، وقال إننا لدغنا من العسكر قبل، ولن نكرر هذه التجربة مرة أخرى.
أضاف، "ليست لدينا مصلحة في ضعف وفشل الفترة الانتقالية، نحن مع نجاحها وضد الانقلابات العسكرية، ومع التحول الديمقراطي، فخسارة حزب بقوة دفع مثل المؤتمر الشعبي يحسب من ضمن الفلول، مع أننا شاركنا في تراكم الثورة، وفي معركة التغيير، بالتالي نحن فصيل مهم لا يزايد علينا أحد، كما أننا ضد عودة نموذج المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً، ولدينا قرار مؤسسي بأنه لا علاقة لنا بالمؤتمر الوطني المحلول".
مسرحيات سيئة الإخراج
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية بروفيسور صلاح الدين الدومة، "لا أعتقد أن ما حدث في ضاحية سوبا في الخرطوم خلال الأسابيع الماضية بوقوع معركة استمرت أربع ساعات استخدمت فيها الذخيرة، ولم يصب فيها أحد بأذى، وما أعقبها من أحداث "النيقرز" بتهديد وترويع مواطني العاصمة، ثم أحداث شرق البلاد التي أدت إلى إغلاق طريق بورتسودان الخرطوم، وما بث من فيديوهات عنصرية، يكون محط صدفة، فكل هذه الأفعال محاولات ساذجة من فلول النظام السابق لتعكير الأجواء، داخلها سيناريوهات عدة ومسرحيات سيئة الإخراج، وعديمة الذكاء، وقد أحدثت تصعيداً عنيفاً بين المكونين المدني والعسكري"، وتوقع الدومة أن "يحدث تغيير في المعادلة السياسية، بعد ما تم تعطيل عجلة الدولة تماماً"، منوهاً إلى أن "المطلوب حالياً، حتى تستقيم الأمور، التصعيد الإعلامي والحراكي باستخدام كل الوسائل من خلال التظاهرات والندوات ضد المكون العسكري، باعتباره عدو الشارع السوداني، وكأن الثورة بدأت من جديد، صحيح ذهب عمر البشير، لكن جاء أسوأ منه، فلكي نجني ثمار ثورة ديسمبر (كانون الأول) لا بد من هذا التصعيد".