رحب السودان بالمبادرة التركية لحل نزاعه الحدودي مع إثيوبيا بشأن منطقة الفشقة التي تتهم الخرطوم أديس أبابا بالتعدي عليها عبر الزراعة والاستيطان، وتصاعد التوتر بشأنها بالتزامن مع تصاعد أزمات أخرى هي أزمة سد النهضة وما نتج منها لجهة ضرورة إبرام اتفاق ملزم قانوناً حول عمليتي ملء السد وتشغيله، وصراع الحكومة الإثيوبية مع جبهة تحرير إقليم تيغراي المحاذي للحدود السودانية. ومع أهمية المبادرة، إلا أنها ذُكرت ضمن اتفاقيات وقّعها الجانبان السوداني والتركي إبان زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان إلى تركيا في 12 أغسطس (آب) الماضي، ثم أنعشتها زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى هناك أيضاً في 18 منه، وجدّدت طلب وزارة الخارجية الإثيوبية بشكل رسمي وساطة أنقرة لحل النزاع منذ فبراير (شباط) الماضي. ثم أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده على استعداد للمساهمة بكل الطرق لحل النزاع ودياً بين السودان وإثيوبيا بشأن منطقة الفشقة، بما في ذلك الوساطة. وتحدث عن استعداد بلاده للعب دور الوسيط من أجل إنهاء الصراع في تيغراي.
نهج الوساطة
تسلّط هذه المبادرة الضوء على منطقة جديدة من التحرك التركي في أجندة سياستها الخارجية بعد سلسلة من تحركاتها كوسيط في مناطق الأزمات في الشرق الأوسط. ويعتمد نهج تركيا في الوساطة على نهجها الجديد والتغيير الذي طرأ على سياساتها الخارجية لاستعادة دورها بعد خفوته في المنطقة في فترة ما بعد الحرب الباردة لانشغالها بأوروبا والتوجهات الغربية عموماً، إضافة إلى عقيدتها الدبلوماسية التي تصر على التنسيق مع الطرفين وعدم إغفال مصالحها، كذلك مع طرفي النزاع، باتباع استراتيجيات الوساطة.
ونتيجة للإخفاق الدولي في التوصل إلى اتفاق مُلزم بشأن أزمة الحدود السودانية الإثيوبية، إذ اكتفى المجتمع الدولي بتوجيه اللوم إلى الطرفين، وعدت تركيا من خلال مبادرتها بإنهاء حالة الجمود السياسي في هذه الأزمة، وإعادة الدولتين إلى طاولة التفاوض عبر إيجاد أرضية مشتركة للتوافق، ما يُعّد تقدماً في حد ذاته. وجاءت استجابة السودان وإثيوبيا للوساطة بعد رفض أديس أبابا وساطات مماثلة من دول عربية وحاولت التمسك بالحل الأفريقي للأزمة.
في ضوء المصالح التركية الإثيوبية من جهة، والتركية السودانية من جهة أخرى، قابلت دعوة البلدين هوى عند أردوغان، من خلال إقناع الخرطوم بضرورة وجود تفاهمات مع أديس أبابا لطرح الأمر على طاولة التفاوض. وعلى الرغم من أن هذه المبادرة جاءت في خضم أزمات محيطة، فإنها ربما تعكس سعي إثيوبيا لإبعاد القضية عن المحيط العربي والأفريقي معاً. ولا ننسى أن أنقرة تسعى إلى ترسيخ عمقها الاستراتيجي ومكانتها حتى تتجاوز الشرق الأوسط إلى العمق الأفريقي. وتخدم هذا الهدف بعلاقات، إن لم تكن إيجابية، فتحافظ من خلالها على شعرة معاوية بينها وبين الدول مهما احتدم خلافها معها. وتستفيد من قربها الجغرافي مقارنة بقوى دولية أخرى.
مرتكزات التحرك
ربما لا تبدو الآمال قوية بنجاح المساعي التركية في إحداث اختراق كبير في هذا النزاع الحدودي بسبب علاقة أنقرة المتميزة مع إثيوبيا وعدم الارتياح المتبادل بين الحكومة الانتقالية وأردوغان لعلاقته بالنظام السابق. مع ذلك، تبدو تركيا مصممة على عملية الوساطة، وقد لا يخفف من الانعكاسات السلبية المحتملة على تركيا جراء فشلها إن حدث سوى تجربة تُضاف إلى مجموع تجاربها في الوساطة. ويرتكز التحرك التركي من أجل لعب دور في الأزمة الحدودية السودانية الإثيوبية على أسس تتعلق بأزمات البلدين الداخلية. بالنسبة إلى إثيوبيا، فهي تعاني من كونها دولة حبيسة. وبينما بدأت تنهض سياسياً واقتصادياً، ازدادات عزلتها بسبب خلافاتها المتكررة مع دول الجوار، ما دفعها إلى البحث عن حليف خارج أفريقيا، خصوصاً إذا كان هذا الحليف شريكاً تجارياً يأتي في المرتبة الثانية بعد الصين.
وأحدثت تركيا اختراقاً داخلياً في إثيوبيا، إذ نجحت في تسلُّم جميع مدارس تنظيم فتح الله غولن هناك في عملية بدأتها منذ عام 2016 إلى أن سُلّمت آخرها في يوليو (تموز) الماضي إلى "وقف المعارف" التركية وإدارتها من جديد بواسطتها. وكان التنظيم جذب أنصاراً في إثيوبيا من قومية الأرومو ذات الغالبية المسلمة، التي ينتمي إليها آبي أحمد، ووجدت تربة خصبة بنشاطها في مجال التعليم، فأنشأت 8 مدارس هناك.
وتلعب مخاوف إثيوبيا واختيار دولة غير عربية للوساطة مع السودان دوراً في ذلك، وهو ما حقق لتركيا مردوداً يعوضها عن خروجها من بعض الوساطات الإقليمية. ويتكامل هذا مع سعي أنقرة إلى استعادة نفوذها في السودان والتفاوض مرة أخرى بشأن جزيرة وميناء سواكن التي لم يتم التطرق إليها في لقاء البرهان وأردوغان. وكذلك تنشد تركيا الاستقرار السياسي والأمني في منطقة القرن الأفريقي لرعاية استثماراتها. وهناك أيضاً الرغبة التركية المتجددة بمنع تزايد النفوذ الصيني في المنطقة، خصوصاً مع تدهور الاقتصاد التركي. ودعا أردوغان رجال الأعمال الأتراك إلى الاستثمار في إثيوبيا والمساهمة في تطوير بنيتها التحتية. وإضافة إلى ذلك، ستحقق تركيا تقارباً مع الموقف الأفريقي في بعض ملفات المنطقة.
عوامل النجاح
ثمة الكثير من المحفزات التي تفسر محاولات الوساطة الملحوظة لتركيا للتدخل في هذه الأزمة. أولاً، نشطت الوساطة التركية ووصلت إلى حد التدخل في كل من سوريا وليبيا وغيرهما. وهي مرحلة نشيطة أعقبها جمود بسبب النقد الدولي، ولكن أردوغان ظل يتبنى عملية إعادة بلاده إلى الواجهة الدبلوماسية في مسألة الوساطة باعتبارها طرفاً يحمل اعتبارات تاريخية في السودان ومنطقة شرق أفريقيا. ثانياً، التنافس التركي الغربي، إذ تهدف أنقرة بشكل أساسي إلى تقويض الدور الغربي في منطقة القرن الأفريقي. وثالثاً، كبح جماح التدخلات العربية في أزمة الحدود، وتنطلق رؤية تركيا من هذه القاعدة بناءً على تجربتها مع الوساطات العربية في القضية السورية والليبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يُعدّ نموذج تركيا في الوساطة أحد أبرز نماذج الوساطة المُجربة في الإقليم، وذلك لاعتبارات تتعلق بتدخلاتها في بيئة تعج بالصراعات والنزاعات. وبغض النظر عن عدم فاعليتها في حل النزاعات، فإن تدخلاتها تبدأ إيجابية وربما تنتهي إلى غير ذلك، إذا استجدت أمور أخرى، ولكن لا يتم تجاهلها.
هناك بعض العوامل التي من الممكن أن تسهم في نجاح وساطة أنقرة ومنها: يُتوقع أن تبذل الدبلوماسية التركية جهوداً أخرى لإنجاح هذه الوساطة، ما يصب في لعب دور إيجابي تستطيع معه إعادة الاطمئنان إلى موقفها من خلال جملة أزمات أفريقية وعربية. وهناك توازن الخطاب التركي بين البلدين، إذ لم يظهر أردوغان تفضيله إثيوبيا على السودان، على الرغم من أن الخرطوم أسقطت حليفه. وهذا يدل على أن أردوغان يتعامل ببراغماتية شديدة. وكذلك، نجد أن تركيا أبدت حرصاً على أن لا تكون مساعيها جزءًا من وساطة الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى إدراكها حاجة دول منطقة القرن الأفريقي، خصوصاً إثيوبيا، إلى هذه الوساطة التي ستكون بالنسبة إليها بديلة من الوساطة العربية. وهناك أيضاً استغلال حالة التردد الغربي في الوساطة لحل النزاع الحدودي وتفضيل الولايات المتحدة التدخل في قضيتي سد النهضة ونزاع تيغراي.
تحديات الوساطة
في الجانب الآخر، تبقى أمام تصاعد الوساطة التركية في النزاع الحدودي مجموعة من التحديات، لعل أبرزها ما يتعلق بعدم ارتباطها بأدوار تنموية فاعلة في البلدين على حدّ سواء. فالسودان يحتاج إلى معالجات اقتصادية وتنموية على غرار الاستثمارات التركية في إثيوبيا، وعلى طريقة إدارة الأزمات في أفريقيا، فلا يزال الاستثمار التركي في السودان ضعيفاً.
وفي وقت تقوم الوساطة على تسوية أساسها التهدئة والتوصل إلى تفاهمات، مستفيدة من الثقل التاريخي لتركيا في منطقة القرن الأفريقي عموماً وإثيوبيا والسودان خصوصاً، ربما يتأثر ذلك بعلاقات أردوغان التي بدأت تضعف بعد سقوط نظام عمر البشير، وخفوت اتفاقية سواكن التي خلقت بلبلة في السودان وتعني لتركيا كثيراً، مثل عودة إرثها الإمبراطوري. وتواجَه الوساطة بتحديات من ضمنها التناقض في القرار السياسي بين المكونين المدني والعسكري، واحتمال عدم تقبل قوى الحرية والتغيير وساطة أنقرة لاحتضانها قيادات "جماعة الإخوان المسلمين" الذين بدأوا التوافد إلى هناك منذ سقوط النظام.
وهناك معضلة الاتفاقيات الحدودية التي عجز الاتحاد الأفريقي عن إعادة إثيوبيا للالتزام بها، خصوصاً اتفاق 1963 الذي وقعته دول منظمة الوحدة الأفريقية بعدم تغيير الحدود السياسية منذ الاستعمار، واتفاقية عام 1972، التي وقعها السودان وإثيوبيا.