لا تزال أنقرة تواصل خطواتها للتطبيع مع دول المنطقة، ويبدو أنها مسألة وقت فقط قبل أن تشمل دمشق أيضاً. وعندما انتشرت أنباء عن اجتماع رئيسَي استخبارات تركيا وسوريا في بغداد، تبادر إلى الأذهان سؤال عما إذا كانت تركيا في طريقها نحو المصالحة مع سوريا.
والحال أن هذا لم يكُن أول لقاء يجمع بين جهازي الاستخبارات في البلدين، فسبقت ذلك لقاءات عدة، ومرات خلف أبواب مغلقة، منذ حوالى ثلاثة أعوام.
لكن الشيء الأكثر إثارة للاهتمام هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي التقى أخيراً الرئيس السوري بشار الأسد، سيلتقي أيضاً نظيره التركي رجب طيب أردوغان في نهاية الشهر الحالي.
وأستطيع القول إن التركيز في الاجتماع سيكون حول الأوضاع في محافظة إدلب بشكل خاص وجدولة العلاقات التركية - السورية بشكل عام.
قمة سوتشي
وكان بوتين وأردوغان وقّعا في مارس (آذار) 2020، اتفاقية لوقف الاشتباكات في المحافظة.
ومع ذلك، فإن تركيا تواجه صعوبات خطيرة في ما يتعلق بإمكانية تطبيق هذا الاتفاق على أرض الواقع.
وفي قمة سوتشي التي ستجمع القادة، ستُبلغ روسيا تركيا أن أزمة إدلب ستتصاعد إذا لم تدخل أنقرة في حوار مع دمشق.
لذلك، إذا لم يتصالح أردوغان مع بشار الأسد، فإنه سيواجه بوتين، لأن الخلافات الرئيسة حول إدلب لا تزال غير محلولة بعد.
وعلى الرغم من أن أنقرة تتفاخر بأنها تسيطر على مناطق عدة ضمن الأراضي السورية، إلا أن التقارير الواردة من المنطقة تخبرنا بأن الوضع ليس مشجعاً بالنسبة إلى تركيا على الإطلاق.
مأزق إدلب
فعلى سبيل المثال، قُتل جنديان تركيان قبل أسبوعين إثر تعرضهما لهجوم بالقنابل في إدلب.
إلا أن القوات المسلحة التركية نفذت عملية في مناطق وجود الأكراد، لتبعث رسالة مضللة مفادها بأنه تم الانتقام من الذين شنوا ذلك الهجوم، علماً أن الذين قَتلوا الجنديين التركيين هم من أفراد الجماعات المتطرفة الخاضعة لسيطرة الجيش التركي وليس الأكراد.
وللأسف، لم تستطِع القوات المسلحة التركية شرح هذا الوضع لشعبها.
لا أعتقد أن لدى أنقرة استراتيجية بشأن كيفية الخروج من هذا المأزق في إدلب.
وكانت عناصر الجيش والاستخبارات التركية تسعى إلى تحويل الجماعات المسلحة الموالية لها في سوريا إلى جيش نظامي في المناطق التي ترافق الجيش التركي أثناء قيامه بعمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء الإعلان عن تشكيل "الجيش الوطني السوري" في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 كنتيجة لهذه الجهود.
ومع ذلك، تواصل تلك المنظمات الحفاظ على استقلالها الذاتي، وتشتبك في ما بينها بسبب الخلافات على تقاسم المكاسب، وترتكب جرائم ضد السكان المحليين مثل النهب والابتزاز والاختطاف والتعذيب.
إن فرص تحويل هذه التنظيمات التي تتاجر بالحرب، إلى جيش نظامي تكاد تكون معدومة، ولكن في الوقت ذاته لا تتردد هذه التنظيمات المتفلتة الخطيرة في إرسال رسالة مفادها بأن "تركيا تقف وراءنا".
هؤلاء الأشخاص، الذين كانوا مجندين بالفعل من قبل تنظيم "داعش" ومنظمات إرهابية مماثلة، أصبحوا الآن عقبة ثانية بالنسبة إلى أنقرة.
وهناك مأزق آخر أمام هذه الأخيرة، وهو أنها تلتقط الصور دائماً مع الجناح المدني للمعارضة السورية في اسطنبول، وتستخدم ورقة "الحكومة الانتقالية السورية"، على الرغم من أن هذا الجناح المدني يكاد لا يكون له وزن على الأرض.
الرغبة بالحوار
وبينما تبدي أنقرة رغبة بالحوار مع دمشق من ناحية، تواصل من ناحية أخرى السياسة القديمة المتمثلة في عدم الاعتراف بالحكومة السورية التي لا تزال تُبقي بعثاتها الدبلوماسية في تركيا.
وفي الوقت الذي تواصل أنقرة دعمها للهياكل التي تستهدف الدولة السورية، فإنها تريد تفعيل قنوات الحوار مع دمشق فقط من أجل اتخاذ موقف مشترك ضد سعي الأكراد للحصول على الحكم الذاتي.
ومن المرجّح أن هذه السياسة المتناقضة لن تلقى ترحيباً لدى دمشق، ولن تقنع بوتين أيضاً.
وثمة مشكلة أخرى هي أن أنقرة تعتقد أنه من خلال كبح الميليشيات الخاضعة لسيطرتها في إدلب، ستكون وفت بالتزاماتها بشأن "القضاء على التنظيمات الإرهابية" الواردة في اتفاقيتَي سوتشي وموسكو، علماً أن "هيئة تحرير الشام" المدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية، أعلنت إمارتها في المحافظة، كما لا تزال هناك عشرات التنظيمات المختلفة قائمة.
وكان مقرراً بموجب اتفاقية موسكو التي تم التوصل إليها العام الماضي، أن يُصار إلى فتح طريق "أم 4" (M-4)، لكن ذلك لم يتحقق. كما لم يتسنَّ إنشاء ممر أمني بعمق ستة كيلومترات على جانبي الطريق.
كما أن التنظيمات التي جعلت من نقاط المراقبة التابعة للجيش التركي دروعاً لها، لم توقف هجماتها على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري.
ولعل هذا هو مغزى تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي اتهم أنقرة في بداية هذا الشهر بعدم الوفاء بالتزاماتها.
باختصار، لن تكون الأيام المقبلة هادئة بالنسبة إلى تركيا التي أقامت عشرات القواعد العسكرية على حدود إدلب. ومن المحتمل أن يتمخض عن الحوار الروسي-الأميركي حل وسط في ما يتعلق بشرق الفرات.
وعندها، لن يبقى أمام أردوغان إلا أن يتصالح مع بشار الأسد أو يواجه روسيا في إدلب.
لكن مهما حدث، فإن المحافظة السورية ستكون جحيماً بالنسبة إلى أردوغان الذي يفضّل اللعب بالنار.