Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"جزيرة أرواد" الناجي الوحيد من الحرب السورية

تداعيات الأزمة وصلت إلى أبناء الجزيرة الشهيرة بصناعة السفن وتأثرت بالعقوبات الاقتصادية

أربعة عشر محافظة سورية طاولتها نيران الحرب بلا هوادة على مدار عقد من الزمن، لم تنجُ رقعة أرض من لظاها، إلا أن أرواد الجزيرة السورية الوحيدة المأهولة بالسكان، كانت بعيدة عن وقائع المعارك والصراع المسلح، وليس غريباً أن تعني أرواد بالفينيقية (الملجأ)، فقد كانت ملاذاً آمناً على مر الأزمان والعهود.

لم يطلق على رمالها رصاصة واحدة، ولم تغرق كغيرها من المدن بحرب الصواريخ والقذائف، لكن الحرب طاولتها من باب الحصار الاقتصادي.

رحلة من اليابسة إلى اليابسة

وعلى حافة رصيف بمرفأ طرطوس، المدينة الساحلية المطلة بوداعة قبالة المتوسط، يصطف قارب خشبي مخصص لنقل الركاب وِجهته جزيرة تبعد ثلاثة كيلومترات عن اليابسة، وعلى متنه أناس توزعوا بأرجائه، منهم من جلس يعد الدقائق قبل الإبحار، ومنهم من فضّل الوقوف متأملاً المدى، محدقاً بسفينة تخرق عباب البحر، بينما تتوزع البواخر الضخمة راسيةً على امتداد الساحل، وقد أرخت بكل ثقل حديدها على سطح المياه الزرقاء.

وتبقى "جزيرة أرواد" التي تقع في السواحل الشمالية، وتبلغ مساحتها 20 هكتاراً، الأرض السورية الوحيدة التي عاشت أعوامها الماضية بسكينة وسلام داخلي بعيداً عما شهدته البلاد من حروب ومعارك طاحنة على مدار عقد من الزمن، وكانت بمنأى عن نيران الفرقة والفتن، وما زال يخالج سكانها حسرة لحال ما ألمّ ببلادهم، وإن كان حاجز البحر الوحيد ما يفرق بين اليابستين. 

يرتشف سائق (الفلوكة)، كما يحلو للعامة بالساحل السوري أن يطلقوا على مراكبهم صغيرة ومتوسطة الحجم، قهوته ريثما يمتلئ جوف مركبه، ومعها يتوافد الركاب من قاطني أرواد أفواجاً بأوقات معروفة مسبقاً، فلا وسيلة سوى القوارب بمحركات الدفع الآلية قادرة على أن تقلهم إلى مخادعهم، أو ممن يقصد أرواد للزيارة السياحية، ودونها ليس على الأرواديين إلا المبيت في مدينة طرطوس، والسفر في اليوم التالي.

صوت محرك القارب مع بداية تشغيله، كسر شيئاً من ضجر الانتظار، ومع تمايله سردت إحدى السيدات القاطنات في الجزيرة عن طريقة اعتادتها للتسوق، إذ تخصص كغيرها من بعض نسوة الجزيرة يوماً واحداً بالأسبوع تجلب معها أمتعة وأغراضاً لها ولأفراد عائلتها، بينما تقاطعها صديقتها أم علي، "ليس كل شيء متوفراً في جزيرة نائية، ينقصها الكثير، لكن حاجاتنا الأساسية متوفرة هناك".

بحارة بالفطرة

الطريق إلى أرواد في وقت الظهيرة صيفاً سيمنح الزائر مع مدة الانتقال فيضاً من المتعة ممزوجة بتشويق المغامرة، لا سيما ما يحيط أرجاء القارب من مياه أشبه بكميات من اللؤلؤ البراق بفعل أشعة الشمس التي أهدت خيوطها للبحر سالبةً منه زرقته، ومنحته كثيراً من الدفء. 

يعلو ويهبط القارب المتجه إلى أرواد مع سكون يسبح بين الأمواج الهادئة، تخلل ذلك صوت مسموع لمعظم الركاب. يحكي طارق، وهو بحار شاب بعقده الثالث، قصصاً مشوّقة عن بطولات عايشها، وبخاصة عودته أخيراً من رحلة بحرية، حيث جاب عدة دول، ودامت ثلاثة أشهر، "أغلب الشبان من الأرواديين بحارة بالفطرة، ويعشقون البحر كالهواء"، وعلى الرغم من مرح يبثه ذاك البحار الشاب، فإنه لا يحتفي بالبحر كثيراً، "كل ما يروى عن ذلك محض مبالغة، فالبحارة منقسمون في حبهم للمهنة، فعلى الرغم من تنقلك بين بحار العالم، فإنك تبقى ملكاً للبحر، يسلبك ذلك العيش بهناء وحياة مستقرة، نحاول كسب رزقنا من عملنا هذا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أهالي الجزيرة الغارقة بالتاريخ (أرادوس) باليونانية كانت في زمن سابق، مملكة لـ"الفينيقيين"، وكما هو معروف فإن الفينيقيين استوطنوا بلاد الشام في الألفية الأولى قبل الميلاد، وتمتد جغرافيتهم باسم فينيقيا على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة لها مع جبال الكرمل كحدود طبيعية.

المدينة الغافية وسط المتوسط 

وتغمرك مع أول إطلالة من أعلى نقطة بقلعة الجزيرة الهدوء والسكينة، وحده هدير الأمواج الوافد إلى اليابسة من يقضّ مضجع الصمت المسيطر على المكان، لا أبواق سيارات ولا تلوث بالهواء في حين يطغى اللون الأبيض المطلي بجدران البيوت السكنية وتتوحد في ما بينها بالشكل والتصميم حتى يتخلل اللون الأزرق أبواب ونوافذ المدينة.

وحده الضجيج العابر ما يسري في مدينة الصمت ليس سوى ما يصدر من نداءات متقطعة لأطفال يلعبون، بينما يفضل الباعة الصمت في أسواق المدينة المتواضعة بالحاجات والسلع الغذائية والاستهلاكية، أو حتى في أزقة الجزيرة الضيقة، في وقت ينكب فيه حرفيون يحولون أصداف البحر إلى تحف فنية ثمينة تصلح كهدايا تذكارية يقتنيها السياح الذين انخفض عددهم بشكل كبير مع اندلاع الحرب.

وتنتشر المقاهي القديمة على طول الكورنيش المواجه للبحر بكثافة، يتوزع بداخلها على طاولاتها ومقاعدها الخشبية ثلة من البحارة والصيادين، أو صانعي السفن في فصل الشتاء، هنا يحتسون الشاي، ويتبادلون أحاديث شيقة عن حياة البحر والمعيشة. 

وعلى شاطئ الجزيرة تزدحم قوارب صيادي الأسماك، ومعها يعمل من دون توقف مصلح شِباك الصيد، عبدالله بلقيس، بصحبة صيادين منهم تقاعد عن العمل، وعلى الرغم من صعوبة المعيشة يواظب بحرفته من دون كلل منذ عقود، ويحاول جاهداً إنهاء عمله، ففريق من الصيادين يتعطش للحصول على معداته والعودة باكراً قبل حلول الليل.

في حين يشارك رجل ستيني، عبدالمعين عثمان، الجالس مع صيادين يقتنصون استراحة لتوّهم، قائلاً، "صنعت أرواد السفن الخشبية، وما زالت هي المدينة الوحيدة التي تصدر للدول هذا النوع من المراكب".

السفن صناعة الآباء والأجداد 

ظلت الجزيرة الشهيرة بصناعة السفن الخشبية منذ القدم ملاذهم الوحيد، فالبحر بكل أهوائه حتى في أصعب أوقاته يمثل لهم السوار الأزرق الذي يلف مدينة يبلغ عدد قاطنيها ما يقرب من 20 ألف نسمة، كالحامي لها من كل الهجمات.

وكحال السوريين جميعاً استنزفت الهجرة والسفر، معظم الشباب الذين اعتادوا على تلك الحال، بفعل تنقلهم وترحالهم بين سواحل العالم قاطبة، وما يميز أرواد عدا عن كونها ملاذاً آمناً عبر الأزمنة والعهود في أوقات الحرب والحصار، يبرعون بصناعة السفن الخشبية ويحافظون على تلك الحرفة المتوارثة لأجيال متلاحقة مثلها مثل كافة الحرف التقليدية، كما يقول صانع السفن سامر بهلوان، الذي تشتهر عائلته منذ القدم بهذه الحرفة.

ومع أن أرواد نجت من الحرب السورية، ولم تتلطخ بها، لكن طاولتها العقوبات الأميركية والأوروبية، والحصار بشدة، فمعها يعيش السكان حياة قاسية، وتدنى إزاء ذلك إنتاج السفن الصغيرة إلى نسب قليلة، مع مشقة تأمين قطع التبديل، والمواد اللازمة للصناعة، أو حتى مواد المحروقات لتشغيلها، علاوة عن عدم توفر منشآت صناعية أو تجارية يعمل بها أفراد الجزيرة الذين يعتمدون بالأساس على صناعة السفن، والصيد، حيث ينخفض عدد صانعي السفن من 30 إلى ما دون ذلك.

من جانبه، يشرح المهندس البحري، جواد محمد علي، عن جودة ومتانة القوارب المشغولة بأيدي الأرواديين، والتي جعلت الجزيرة قبلة لطالبي هذه المراكب الصغيرة، أو حتى السفن المتوسطة، "لا يمكن أن نغفل قبل الحرب ما صنعه الأرواديون من سفينة أطلق عليها (الفينيقية)، وهي حالياً لدى بريطانيا مصنوعة بالكامل من الخشب ولا تحتوي على أية قطعة حديد، إنه مركب شراعي جال العالم بأكمله".

تحدّ أرواد أمواج البحر العاتية من جهاتها الأربع، وتعيش كالمعتاد بكل هدوء، لكن يعاني أهلها حصاراً يطبق على أرجاء جزيرة تتوقف معها الحياة مع توقف العمل، فلا مازوت، ولا وقود يشغل آلياتهم في صناعة المراكب أو الصيد، وإن وُجدت فهي بنسب قليلة ونادرة، وتتقطع معها السبل بالحصول عليها، بينما أملهم الوحيد بصديقهم القديم البحر وما يحمله معه من خير وعطاء لا ينضب.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير