Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روح ذلك البلد البعيد في "الصالون المكسيكي" لآرون كوبلاند

الموسيقى تتمازج للتعبير عن حياة الشعب وتضافر طبقاته

مؤلف الموسيقى الأميركي آرون كوبلاند  (غيتي)

كان يلقب رسمياً بـ"عميد المؤلفين الموسيقيين الأميركيين"، بل كان كثر ينظرون إليه باعتباره الكلاسيكي الوحيد في موسيقى العالم الجديد، وواحداً من الذين أبدعوا لأميركا موسيقى أتت متضافرة مع الإحساس العام ببراريها الشاسعة، وتكاد تعكس ذلك التنوع الكبير في تضاريسها وتاريخها. ومع ذلك لم تكن مرجعية آرون كوبلاند في التاريخ الأميركي القريب، بل في أماكن نائية جداً عن تلك القارة الشمالية الفسيحة. فهو درس في فرنسا ثلاث سنوات مع ناديا بولانجيه، وتبع خطوات الفرنسي بيار بوليز عن قرب. ولما أراد أن يحدث تبديلاً جذرياً في أساليبه الموسيقية لاحقاً أواخر الأربعينيات، سار على خط اكتشافه لاشتغال سترافنسكي على موسيقى آرنولد شونبرغ الاثني عشرية. وإلى هذا يمكننا أن نضيف أن عمله الأشهر الذي حظي بأكبر قدر من الشعبية منذ ظهوره في عام 1936 كان عملاً مكسيكياً خالصاً لا علاقة له بالتاريخ الأميركي الشمالي. ونتحدث هنا عن عمله السيمفوني الكبير "الصالون المكسيكي" الذي لا يزال يقدم ويُطوّر ويُعصرن من جديد منذ ظهر للمرة الأولى إثر زيارات عديدة قام بها كوبلاند إلى المكسيك، حيث تعرف في صحبة قائد الأوركسترا المكسيكي ألفونسو شافيز على ذلك الصرح الموسيقي الفريد من نوعه والمسمى تحديداً "الصالون المكسيكي"، ومن هنا تعتبر سيمفونية كوبلاند هذه نوعاً من تحية للصالون ومن خلاله للموسيقى وللشعب المكسيكي وبلاده التي أغرم كوبلاند بها. ولعل في إمكاننا أن نقول إن هذا العمل يعبر عن واحدة من حكايات الشغف النادرة بين مبدع وبلد غير بلده.

استلهام روح بلد

مهما يكن من أمر سيبدو من المستحيل على من يستمع إلى هذا العمل أن يخمن أن مؤلفه ليس مكسيكياً. فهو يغوص مباشرة في الفولكلور المكسيكي المتنوع تنوع هذا البلد. فإن ابتعد عنه قليلاً سنراه يدنو من الموسيقى الكوبية مع بعض إطلالات أوروبية منها ما ينتمي إلى موسيقى الطبقات الكوبية الراقية في القرن التاسع عشر، لأن "الصالون" نفسه كان يقدم فرقاً كوبية على مدى السنة. وموسيقى أوروبية راقية لأن "الصالون" كان يخصص واحدة من قاعاته الضخمة الثلاث لرقص أوروبي من نوع البولكا والفالس.

في سيمفونية "الصالون المكسيكي" حاول كوبلاند في نهاية الأمر أن يعكس روح ذلك المكان الذي لم يتوانَ منذ زاره للمرة الأولى عن تكرار زيارته، وقد قرر أن يخصه بذلك العمل الموسيقي الذي سيشتغل عليه قرابة السنوات الثلاث. ولنذكر هنا أنه تجول خلال تلك السنوات في العديد من البلدان الأوروبية، واستلهم بعض موسيقاها بشكل نجده في الحركات التي تتألف منها سيمفونيته، محاولاً قدر الإمكان الابتعاد عن عوالم الشمال الأميركي التي كانت، أصلاً، عوالمه. ولربما كان يريد من جولاته الأوروبية تصفية ذهنه للتركيز على الحالة المكسيكية التي كان يتطلع إلى التعبير عنها، ويقيناً أنه نجح في ذلك.

من البيانو إلى الأوركسترا الكبيرة

في البداية كتب كوبلاند هذا العمل الذي وضع خطوطه الأولى في عام 1933 كعمل يؤدى من قبل آلتَي بيانو، لكنه عاد وجعل له توزيعاً أوركسترالياً متكاملاً منذ عام 1936، وقد تخلى من أجل ذلك عن اهتمامات غيبية وعلمية كانت تشغل باله قبل ذلك ليصل إلى نوع من صفاء وتبسيط في لغته الموسيقية يتيحان له الاندماج في ذلك الخط الشعبي الذي سيطبع عمله ذاك، مستعيراً الكثير من مقطوعات الفولكلور المكسيكي الصافي، لا سيما ما يتعلق منه بالموسيقى الراقصة. فإذا كان الصالون الذي يعبر عنه صالوناً موسيقياً أولاً وأخيراً فإن الموسيقى تختلط بالرقص بل تندمج فيه تماماً في هذا البلد. وهو ما سيقول كوبلاند لاحقاً إنه تلمسه على أي حال منذ أول احتكاك له بالمكسيك، مؤكداً أن المسألة لم تكن نوعاً من الغرائبية السياحية التعسفية، بل بالتحديد كانت نابعة من فهم عميق للحساسية المكسيكية نفسها. وقال "لقد شعرت منذ اللحظات الأولى بإدراك عميق للروح المكسيكية وبتمازج مباغت معها. وبسرعة أدركت أن الموسيقى والرقص معاً يعكسان تلك الروح".

تقسيم هندسي

والحقيقة أن كوبلاند قسم سيمفونيته، هندسياً بالتحديد، بحيث تنطلق كل حركة منها أول الأمر من موسيقى "رفيعة المستوى" أوروبية النكهة، تتبعها موسيقى أخرى تعكس روح الطبقة العاملة وصلابتها وحياتها التي تكاد تكون ميكانيكية، ليصل الأمر في القسم الثالث من الحركة إلى موسيقى فلاحية صاخبة تضج بفوضى الحياة وكأننا في عيد دائم.

وكوبلاند للتوصل إلى فرض هذا الحضور المكسيكي الأصيل في عمله لم يتردد في استخدام مقطوعات مقتبسة مباشرة من ما لا يقل عن اثنين من كبار الموسيقيين المكسيكيين، الذين كانوا يشتغلون على الفولكلور الموسيقي المكسيكي في ذلك الحين، هما فرانسيس تور وروبن كامبوس. إضافة إلى موسيقى استقاها من مخزون الفرق الكوبية التي كانت تعزف بشكل متواصل في الصالون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى ذكر الصالون، قد يكون من المفيد أن نذكر هنا أنه هو بدوره، وكما سيعكس كوبلاند الأمر في سيمفونيته، كان ينقسم إلى ثلاث قاعات رئيسة، أولاها مخصصة للرقص الأوروبي والثانية للرقص الشعبي المكسيكي المديني والثالثة للرقص الفولكلوري الفلاحي. ومن هنا كان ذلك التمازج الخلاق بين المكان والموسيقى، ما جعل السيمفونية تستحق اسمها بحيث يبدو بديهياً.

فن الكولاج وتجلياته

وفي العودة هنا إلى "استلهامات" كوبلاند سواء أكانت مرجعياتها مكسيكية أو لاتينية أميركية بشكل عام، أو أوروبية قد تذكر أحياناً بسترافنسكي، لا بد من الإشارة إلى أنها لم تكن بأي حال من الأحوال مجرد استعارات أو اقتباسات، أو حتى "سرقات فنية" كما حاول أن يقول بعض نقاده الأميركيين الشماليين، بل كانت من النوع الذي يمكن أن يسمى اليوم "تثاقفياً"، إذ إن إدماج جمل موسيقية معروفة إلى هذا الحد كان نوعاً من التحية للقطع المدمجة وأصحابها، ولكن أيضاً نوعاً من "كولاج" إبداعي ينضوي ضمن إطار ذلك العمل، كما تجلى في النهاية عملاً يحاول أن يقدم صورة لما في المكسيك وفنونها من تنوع خلاق. وحتى لو أن المستمع يجد نفسه بين الحين والآخر أمام موسيقى عابرة يعرفها جيداً، فإن هذا المستمع سرعان ما يشعر أنه في حضرة عمل مندمج كل الاندماج، بحيث سيصعب عليه تماماً إدراك ما يحدث في اللحظة الفاصلة بين أي استلهامين أو اقتباسين، أو بين جملة موسيقية مستلهمة وجملة أخرى كتبها كوبلاند وربطها بتلك الجملة، ما يذكر هنا إلى حد كبير باستلهامات محمد عبد الوهاب من فيردي أو تشايكوفسكي أو حتى إدوارد غريغ في عدد من أبدع أغنياته.

لغة بسيطة للشعب

في النهاية إذاً، في ذلك العمل الرائع الذي ألفه آرون كوبلاند (1899 – 1990)، يمكن للمستمعين الجيدين أن يجدوا أنفسهم أمام عمل موسيقي توليفي يهتم مؤلفه بالتعبير بلغة غاية في البساطة عن روح شعبية بأكثر كثيراً من اهتمامه باستعراض مهاراته التأليفية. ولم يكن كوبلاند في حاجة على أي حال إلى ذلك الاستعراض، وهو الذي كان ومنذ زمن مبكر وحتى سنوات حياته الأخيرة واحداً من أغزر الموسيقيين الأميركيين مؤلفاً وعازف بيانو وقائد أوركسترا وأستاذاً للتأليف الموسيقي، وضع الكثير من الأعمال للباليه، بينها باليه "بوفالو بيل"، وموسق أعمالاً شعرية كثيرة، منها قصائد لإيميلي ديكنسون، ولحن عدداً لا يحصى من الأغاني، ناهيك بكتابته موسيقى لعدد كبير من الأفلام الهوليوودية وكوميديات برودواي الموسيقية. ونذكر هنا من بين أعماله ذات الشعبية الكبرى "السيمفونية الراقصة" (1925)، و"أويي، أويي" (1934)، و"بيلي ذا كيد" (1938)، و"روديو" و"صورة لنكولن" (العملان عام 1942)، و"ربيع الآبالاش" (1944)، العمل الذي استخدم فيه تيمات موسيقية مقتبسة من موسيقى الهنود الحمر ورقصهم على الشاكلة التي اتبعها في "الصالون المكسيكي".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة