Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الولايات المتحدة خسرت أفغانستان منذ زمن بعيد

الهزيمة لم تكن محتمة لكن الأخطاء الأولى صعبت تحقيق النجاح

شهدت الأيام التي تلت وقوع كابول في يد "طالبان" زخماً مطرداً من التحليلات والملاحظات بشأن تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان. وفي خضمها، ألمح بعض النقاد إلى السياسات الأميركية الخاطئة وسوء تطبيقها، فيما أكد البعض الآخر أن تدخل الولايات المتحدة في البلاد محكوم بالفشل منذ البداية، مشيرين إلى صيت أفغانستان كـ"مقبرة الإمبراطوريات". وذهب آخرون من بينهم الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أبعد من ذلك. إذ اعتبروا أن الجهود التي تُبذل في سبيل إعادة الإعمار وإحلال الاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع، أو ما يُعرف ببناء الدول، تؤدي عادةً إلى ورطة، وبالتالي فقد توجب تجنيب القوات الأميركية الوقوع في لجتها. في الواقع، لم يكن فشل الولايات المتحدة في أفغانستان أمراً مقتضًى، لكن الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن في مرحلة مبكرة قوضت بشدة، جهودها في تحقيق الاستقرار.

من الناحية التاريخية، انخرطت الولايات المتحدة في تدخلات عسكرية عدة بقصد وضع حد لأمر ما، من قبيل الاعتداءات العسكرية والإبادات الجماعية وانتشار الأسلحة النووية، إضافة إلى العمليات الإرهابية المستمرة على غرار ما كانت الحال في أفغانستان عام 2001. وفي كل مرة، تبلغ الولايات المتحدة الهدف المنشود كالقضاء على التهديد المباشر المتأتي من "القاعدة" في أفغانستان، لكنها سرعان ما تجد أن قوات التدخل نفسها قد وصلت إلى مفترق طرق. وإذ تسعى إلى استباق تكرار الحوادث، يكون مفروضاً عليها الاختيار بين الاحتلال الدائم أو الاحتلال المتكرر أو الالتزام ببناء نظام كفء إلى حد، بهدف تمهيد الطريق أمام مجتمع يعمه السلام ويتعايش بسلام مع جيرانه. من جهة أخرى، في المسألة الأفغانية، عمدت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن التي أبت أن تحكم أفغانستان وواجهت تهديدات "القاعدة" من جديد، إلى انتقاء الخيار الثالث [بناء نظام كفء] من دون أن تفهم الأبعاد الكاملة للتحديات التي يطرحها ذلك الخيار.

وبالنسبة إلى الانتقادات الأشد قوة حيال مهمات إعادة الإعمار وإحلال الاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع، فقد مالت [إدارة بوش الابن] إلى التركيز على إخفاقات الماضي في فيتنام والعراق والتغاضي عن قصص النجاح السابقة التي تشمل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وأخيراً البوسنة وكوسوفو، إذ تمكنت تدخلات حلف "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة من إنهاء أول الصراعات المسلحة في أوروبا منذ 1945. وإذا نظرنا بإمعان إلى النجاحات التي حققتها التدخلات الأميركية في الآونة الأخيرة والفشل الذريع الذي مُنيت به في أفغانستان، يمكننا أن نستشف أمثولة مهمة تتمثل في أن أبرز عمليات التخطيط وصناعة القرار تجري في المراحل الأولى [من التدخل]، وبالتالي، إذا كانت تلك العمليات خاطئة، فإنها ستُقلص احتمالات النجاح بشكلٍ كبير، بصرف النظر عن الوقت والموارد التي تنوي واشنطن استثمارها فيها. واستطراداً، لم تكن مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان محكومة بالفشل منذ البداية، بل زُرعت البذور التي أدت إلى فشلها في أوائل عام 2002.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خطوات أولى ناقصة

في أعقاب حوادث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، اكتسبت التدخلات في أفغانستان أهمية كبرى عند إدارة بوش التي كانت مصممة على منع حدوث هجومٍ كارثي آخر على الأراضي الأميركية. ولأنها لم تكن تنوي تقديم الحماية الدائمة لأفغانستان، ارتأت المساهمة في بناء نظامٍ جديد يكون خلفاً لنظام "طالبان" ويقدر على حكم البلاد يوماً ما، مع الحرص على ألا تصير أفغانستان مجدداً ملاذاً آمناً للإرهابيين. وجرى غزو أفغانستان وإطاحة حكم "طالبان" بسرعة وسلاسة مفاجئين، فحققا لإدارة بوش انتصاراً منخفض التكلفة. وعلى ضوء ذلك، اعتقدت إدارة بوش أن عملية بناء البلاد في المرحلة اللاحقة ستكون على المقدار نفسه من السهولة.

وقد ارتكبت الإدارة الأميركية الخطأ الأول حينما لم تُقدر بشكل كامل وصحيح مجموعة العقبات الجغرافية التي واجهتها جهود إعادة إعمار أفغانستان. إذ تقع أفغانستان في الجانب الآخر من العالم بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وليس لها منفذ على البحر ولا يُمكن الوصول إليها بصورة مباشرة، إضافة إلى أنها محاطة بعدد من الدول القوية والمفترسة تشمل إيران وباكستان وروسيا القريبة. وبالتالي، فإن السبيل الوحيد أمام الولايات المتحدة لإدخال وإخراج ما تريد من قوات وإمدادات إلى أفغانستان يمر عبر دولة باكستان، التي امتلكت أهدافاً مغايرة للأهداف الأميركية في المنطقة، وبالتالي فقد سعت [باكستان] بنشاط إلى تخريبها.

فضلاً عن ذلك، شكل عدد سكان أفغانستان وقت التدخل [العسكري الأميركي فيها] مقداراً أكبر بكثير من أي دولة أخرى نفذت فيها الولايات المتحدة عمليات عسكرية بعد الحرب العالمية الثانية. ففي 2001، ضمت أفغانستان ضعفي عدد سكان فيتنام الجنوبية إبان الحرب [مع فيتنام الشمالية]. وبصورة عامة، يُعرف عن نسبة القوات المحاربة إلى السكان أنها عنصر محدد رئيس في نجاح عملية تحقيق الاستقرار. فقبل عامين من غزو أفغانستان في 1999، نشرت الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها في "الناتو" 50 ألف جندي في كوسوفو التي تضم 1.9 مليون نسمة بغية المساعدة في إحلال الاستقرار في ربوع الجمهورية الأوروبية. وفي 2001، وصل عدد سكان أفغانستان إلى 21.6 مليون نسمة، لكن مع حلول أواخر 2002، لم يكن عدد الجنود الأميركيين يتخطى الثمانية آلاف جندي في دولةٍ يفوق حجمها حجم كوسوفو عشرة أضعاف ولا تمتلك جيشاً أو قوات مسلحة. وبكل بساطة، لم يكن لدى الولايات المتحدة حينما تدخلت في أفغانستان، ما يكفي من القوات لإحكام قبضتها على البلاد التي غزتها.

ينبثق فشل الولايات المتحدة في أفغانستان من البذور التي زُرعت مطلع عام 2002

وقد يتمثل أحد أسباب الانتشار العسكري المتواضع نسبياً في أفغانستان في عدم رغبة إدارة بوش في أن تتولى القوات الأميركية مسؤوليات الأمن العام أو حفظ السلام. إذ اختارت تلك الإدارة تتبع فلول تنظيم "القاعدة" بصورةٍ حصرية على حساب الأمن الضروري في بناء دولة فاعلة. إلى ذلك، غضت إدارة بوش الطرف عن الموارد المالية اللازمة من أجل تحقيق جهود الاستقرار في أفغانستان. ففي حين أمنت الولايات المتحدة وسواها من الجهات المانحة مساعدات اقتصادية لسكان البوسنة بمعدل سنوي قدره 1600 دولار أميركي للشخص في السنوات الأولى بعد الحرب، اقتصرت مساعداتها في أفغانستان على 50 دولاراً أميركياً للشخص، وذلك مبلغ تافه.

أخطاء حسابية فادحة

ارتكبت إدارة بوش أخطاء مهمة أخرى قلصت من إمكانية تحقيقها استقراراً ناجحاً، إذ لم تبذل أي جهود أولية تُذكر لتأسيس قوات شرطة أو جيش أفغاني وطني، تاركةً موضوع الأمن بأيدي أمراء الحرب المحليين، ومصعبةً على قواتها مهمة مواجهة مقاتلي "طالبان" الذين عاودوا مواجهتها. وزاد الطين بلة عدم وجود قيادة موحدة لتنسيق الجهود الدولية الرامية إلى إعادة الإعمار. وربما تمثل أكثر الأخطاء فداحةً في استغراق المسؤولين الأميركيين سنوات عدة كي يدركوا أن باكستان التي سحبت دعمها لحكومة "طالبان" لم تتخلَّ عن تلك الحركة، بل أمنت لقاداتها وما تبقى من عناصرها ملجأ آمناً كي تعيد ترتيب أمورها وتتدرب وتتزود استعداداً للعودة إلى أفغانستان.

وبالنظر إلى تلك الأخطاء، تقلصت احتمالات النجاح في أفغانستان إلى حد كبير في مطلع 2003. ومن ثم، بالطبع، غزت إدارة بوش العراق الذي يشكّل بلداً كبيراً يماثل أفغانستان لكنه يفوقها في الصراعات الداخلية التي تمزقه والدول المجاورة المعادية التي تُحيط به. وعلى غرار أفغانستان، أخطأ بوش ومسؤولوه في تقدير حجم الجهود اللازمة من أجل إعادة الإعمار في العراق وتحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع. وبالتالي تبلورت حركة مقاومة عنيفة ضد الغزو الأميركي للعراق بأسرع مما حدث في أفغانستان، الأمر الذي ألقى بضعوط شديدة على القوات الأميركية، خصوصاً مع ظهور "طالبان" من جديد كتهديد خطير في أفغانستان. واستمر الحال على ذلك النحو طيلة ولاية بوش، ما عرقل قدرة الولايات المتحدة على إعادة الاستقرار إلى ربوع أفغانستان، وأتاح لحركة "طالبان" استعادة موطئ قدمٍ فيها.

واستكمالاً، لم يكن الفشل في تمرد "طالبان" مجدداً وبناء القدرات المؤسساتية في أفغانستان أمراً محتوماً. فلو سخّرت الولايات المتحدة الموارد المطلوبة من أجل تحقيق جهود إعادة الإعمار والاستقرار إلى بلدٍ بحجم أفغانستان وموقعها، لامتلكت فرصة في مغادرة أراضيها بلباقة، تاركةً وراءها بلداً فاعلاً بكل ما في الكلمة من معنى. لكن في نهاية المطاف، أدت الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في البداية، لم تكن مرغمة عليها، إلى وضعها في خانة الاختيار بين الخسارة أو الخسارة، وليس الربح أو الخسارة. بقول آخر، كان عليها الاختيار بين البقاء في المنطقة بكلفة بسيطة من أجل منع "طالبان" من الظهور، مع الاحتفاظ بشريك قوي لمواجهة الإرهاب ضمن الحكومة الأفغانية والحفاظ على المكاسب الاجتماعية والسياسية التي يتمتع بها العديد من الأفغان، وأن تغادر وتعترف بعدم قدرتها على المساعدة في بناء دولة مستقرة ومستقبل دائم للشعب الأفغاني. وبالتالي، لقد تناوب ثلاثة رؤساء أميركيين على إيجاد حل للمعضلة التي خلفها وراءه بوش. إذ تحدث باراك أوباما ودونالد ترمب عن احتمال إنهاء الحرب والانسحاب من أفغانستان، إلا أن كليهما أبى مواجهة الخسارة في عهده. واستطراداً، لقد توجب على بايدن قطع حبل السرة مع أفغانستان وتبني خيار الخسارة.

جيمس دوبنز هو زميل بارز ورئيس موقر في الدبلوماسية والأمن لدى "مؤسسة راند" البحثية غير الربحية. شغل منصب المبعوث الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان وكوسوفو والبوسنة وهايتي والصومال في عهود الرؤساء باراك أوباما وجورج بوش الابن وبيل كلينتون.

المزيد من تحلیل