بعد سنوات طوال غابت فيها اللمسة الفنية النسائية عن المسرح في معظم المحافظات العراقية، بسبب النظرة الدونية تجاه الفنانات في مجتمع يسوده الطابع الرافض لوجود الأعمال الفنية التي تظهر فيها فتيات على خشبة المسرح. وفي خضم التناقضات التي يعيشها المجتمع بسبب قيود العادات والتقاليد الموروثة، انبثقت وجوه فنية جميلة جسدت قضايا المرأة وحقوق الإنسان بشكل علني عُرضت في مسارح وطنية ودولية لكسر المألوف، الذي جثم على صدر الفن النسوي وقيد إبداعهن طيلة الفترة الماضية.
نهضة نسائية وفن جديد
أن عودة الحياة إلى المسرح العراقي، خصوصاً في محافظات الفرات الأوسط من العراق، جاء بفضل الفكر الجديد للشابات العراقيات اللواتي عرفن قيمة الفن وأهميته في دعم القضايا الإنسانية بشكل عام وأبدعن في مجال فن جديد أكثر تأثيراً وتعبيراً وهو الفن (الأدائي). وتقول الفنانة المسرحية فاطمة جودت "عملت في مجال المسرح وقدمت عروضاً مسرحية عدة باستخدام الفن الأدائي الذي يمتاز بصبغة فنية حديثة مختلفة ومميزة في الأوساط الفنية وبإمكانية عالية".
قد استطاعت جودت من خلال الفن الأدائي المتقن أن تخرج عن المألوف لتصنع مغايرة فنية مؤثرة، عبرت من خلالها عن القضية التي تريد إيصالها إلى الجمهور والتي تتعلق بما تواجهه النساء من تحديات وظروف قاسية.
وتقول جودت "لا يمكن أن نتقدم إلى الأمام وفي داخلنا ضمير يحتضر، لذلك يجب أن يعرف العالم أن المرأة هي مرآة الضمير الحي، وما زالت النساء في بلدي يتحملن نتائج النظرة الدونية بدليل أن المشاهد للمسلسلات العربية لا يستنكر مشاهد العنف والإهانة والتنكيل التي تتعرض لها المرأة في المسلسل، ولكنه يستشيط غضباً عند رؤية مشهد قبلة على جبين امرأة، فقط لأنه يعتبر كل شيء عاطفي خادش للحياء ومخالف للأعراف المجتمعية العربية التي سجلت أعلى معدلات تحرش وتصفح المواقع الإباحية".
وتكمل أن "الازدواجية التي يعيشها المجتمع والتناقضات هي السبب الذي أورث ورسخ النظرة الدونية تجاه المرأة وكل ما يتعلق بها، بالتالي ظهرت الحاجة الفعلية لمحاربة تلك الموروثات باستخدام الفن الذي يعتبر رسالة مؤثرة وبليغة، خصوصاً إذا كانت النساء هن بطلات العمل الفني".
الفن قضية
نجحت جودت مع رفيقاتها بتوظيف الفن في خدمة قضايا المرأة ومناهضة كل أشكال العنف الذي تتعرض له النساء في العراق، خصوصاً من خلال الفن الأدائي، وتقول "أنتجت الكثير من الأعمال الفنية التي انتقدت القيود التي تحيط بالمرأة وتسلبها الحرية، وأنتجت عملاً فنياً جسد الانتهاكات الخطيرة التي تعرضت لها الايزيديات من قبل تنظيم داعش، كما عملت على بث رسائل إيجابية محفزة لدعم المرأة ومحاربة الجهل بالعلم ومقاومة تيارات التخلف، وكيف يمكن لها أن تسعى لتطور نفسها حتى تحقق حلمها، وعبرت عن ذلك من خلال أعمال عدة دعيت المرأة فيها لأن يكون حاضرها قوة ووجودها يخلق في داخل الآخرين ثورة، فهي ليست كما يقولون عورة".
وعالجت جودت من خلال فنها الأدائي قضايا أخرى، انتقدت فيه الواقع المأسوي الذي تعيشه النساء وظاهرة الانتحار، وتناولتها بشكل فني مختلف باستخدام الألوان ولغة الجسد والتعبير عنها بطرق عدة، قد تكون إيحائية رمزية غير مباشرة يصعب البوح بها لحساسيتها الشديدة أو باستخدام الطرق المباشرة البسيطة في الصياغة والأداء.
المرأة غير قابلة للذوبان
تحت هذا الشعار، نفذت جودت العديد من الإعمال ذات الابتكارات البصرية الجديدة في الرؤيا والتشخيص والمعالجة، فهي تقوم برصد الانتهاكات غير المعلن عنها والتي تستهدف النساء بشكل خاص، وتطرحها باستخدام اللونين الأسود والأحمر لما لهما من دلالة على الظروف القاسية التي تواجه المرأة العراقية وترتبط بالعنف الموجه ضدها، وتتعرض المرأة إلى الكثير من المضايقات والتحرش وعلى الرغم من أنها ضحية، يفرض عليها المجتمع كبت صرختها وعدم البوح بآلامها.
فرقة مسرحية نسائية
وعملت جودت بمساعدة زميلاتها على استقطاب ورعاية الطالبات الموهوبات في معهد الفنون الجميلة في محافظة الديوانية لإنتاج عروض مسرحية إبداعية بلمسات نسائية، وتضيف "بعد أن شاركت أكثر من (40 طالبة) بتقديم (خمسة عروض) مسرحية متنوعة خلال مهرجان معهد الفنون الجميلة لهذا العام وما قدمنه من أداء رائع، قررت أنا وزميلاتي في إدارة المعهد تشكيل فرقة نسائية مسرحية ستكون الأولى من نوعها على مستوى العراق وسيجري الإعلان عنها بشكل رسمي خلال العام المقبل.
تحديات وقيود
ولم تكن طريق الفن المسرحي بالنسبة للفنانات الشابات سهلة، بل كانت مليئة بالأخطار ومحفوفة بالحذر بسبب القيود المجتمعية الرجعية، وبحسب جودت فإن "نظرة المجتمع ذات الطابع الديني الشكلي مليئة بالشوائب تجاه المرأة، خصوصاً العاملات في مجال الفن المسرحي، على اعتبار أن الفن المسرحي يقوم على حركة الجسد والصوت المباشر على خشبة المسرح أمام الجمهور، الذي يتكون من أفراد مختلفين بالأفكار والآراء وبعضهم جزء من المجتمع الذي يعتبر المرأة عورة، ولذلك فقد منع الكثير من الأسر بناتها من دخول عالم الفن خوفاً من كلام الناس، ولهذا نحن نحاول تغيير تلك النظرة القاصرة من خلال ما نقدمه من أعمال فنية مهمة ومعالجة للواقع، واستطعنا أن نحدث تغييراً إيجابياً سيثمر قريباً من خلال أعمال ووجوه فنية جديدة".