Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"طوف الميدوزا" لجيريكو أضخم اللوحات الفرنسية للتعبير عن فن معارض

الصراع السياسي بين البونابرتيين والملكيين يسفر عن كارثة ولوحة فريدة

ثيودور جيريكو (1791 - 1824) (غيتي)

تأثر على الأقل أربعة من كبار الرسامين الأوروبيين خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر بتلك اللوحة العملاقة، المعلقة الآن، في إحدى قاعات متحف اللوفر الباريسي، لتعتبر ليس فقط واحدة من أضخم لوحاته، بل كذلك واحدة من أشهر تلك اللوحات. نتحدث طبعاً عن لوحة ثيودور جيريكو، المعروفة باسم "طوف الميدوزا"، ذلك الاسم الذي غالباً ما يخلق نوعاً من سوء التفاهم، حيث إن كُثراً يعتقدون أول الأمر أنها تمثل مشهداً مستقى من أسطورة قديمة ما، لكنهم سرعان ما يدركون أنها إنما تمثل مشهداً يعبّر عن حادث مأساوي وقع قبل فترة من رسم اللوحة، ما يجعل هذه تعد إضافة إلى مزاياها الأخرى، واحدة من أولى اللوحات التي فعلت فعل الإعلام بنقلها حدثاً واقعياً ملموساً إلى الجمهور العريض، زمن حدوثه تقريباً، وهو أمر لم يكن مألوفاً، إلا إذا تعلّق الأمر باحتفال سياسي أو حدث مشابه له، لكن لوحة "طوف الميدوزا" صوّرت ما تلا غرق فرقاطة فرنسية في البحر مذكرة، وإن بشكل موارب، بمستتبعاته السياسية والإنسانية.

ابن الـ27

وإذا كنا قد أشرنا قبل سطور إلى تأثر أربعة من كبار معاصري جيريكو بلوحته، فإن تأثرهم كان فنياً لا سياسياً على أية حال، ما حفظ لهذه اللوحة فرادتها، "الإعلامية الحدثية" على الأقل. أما الرسامون الذين نشير إليهم فهم الإنجليزي تورنر، والفرنسيون ديلاكروا ومانيه وكوربيه، من الذين يمكن اعتبارهم اليوم أوسع شهرة من صاحب "طوف الميدوزا" بكثير، علماً بأن هذا لم يعش وقتاً كافياً للتمتع بتلك المكانة، بالتالي لم يرسم ما يكفي من اللوحات ليعزز أستاذيته هو الذي رسم هذه اللوحة بين عامي 1818 - 1819، وكان لا يزال في نحو السابعة والعشرين من عمره ليرحل بعد ذلك بسنوات قليلة، وقد اعتبر المؤسس الكبير للتيار الرومنطيقي في الرسم الفرنسي.

ومع ذلك، لن يكون من السهل القول إن "طوف الميدوزا" لوحة رومنطيقية، بل هي لوحة تكاد تكون مفرطة في واقعيتها، إلى حدّ جعل الحكومة الفرنسية تحاول منع عرضها في صالون عام 1819، وسنعرف لماذا بعد قليل، مكتفية بتبديل عنوانها في الصالون إلى "مشهد غرق" لسبب سنعرفه أيضاً في السطور التالية.

حكاية فرقاطة غارقة

لقد أشرنا أول هذا الكلام إلى ضخامة اللوحة التي يصل ارتفاعها الى أربعة أمتار و90 سنتيمتراً، ويزيد عرضها على سبعة أمتار، كما لمّحنا إلى كونها تتناول موضوعاً كان آنياً في ذلك الحين. ولنوضح هذا هنا، ففي البداية يتعلق الأمر بغرق الفرقاطة الفرنسية "ميدوزا" التي كانت تمخر مياه شرقي المحيط الأطلسي في طريقها من ميناء "روشفور" الى ميناء "سان لويس" في السنغال محملة بمئات الركاب من مستوطنين ومسؤولين تنقلهم إلى المستعمرة الفرنسية، لكن السفينة التي كانت تعد من روائع منتجات الترسانات الفرنسية، سرعان ما جنحت ما إن وصلت إلى محاذاة المنطقة التي تعرف اليوم بموريتانيا مصطدمة بجرف رملي وبدأت تغرق. على الفور استبد الرعب بالركاب بعد أن بدأ عديدون منهم يتساقطون في المياه الصاخبة على بعد نحو 160 كيلومتراً من الشواطئ الأفريقية، حينها سارع البحارة الذين لم يكن عددهم يقل عن 150 إلى تركيب طوف خشبي من بعض حطام السفينة يصل عرضه إلى سبعة أمتار، وطوله إلى 20 متراً لتحميل الناجين عليه، بما أنه قد تبين أن قوارب الإنقاذ الثلاثة لم يكن في إمكانها استيعابهم، بالكاد يمكنها أن تفيد في جرّ الطوف، وكان هذا يتسع لما لا يزيد على 150 راكباً يتكومون فوق بعضهم البعض، بينما كان عدد الذين يتوجب إنقاذهم لا يقل عن 250، لكن المعضلة الحقيقية لم تكن هنا.

... وتحولوا إلى أكل رفاقهم

كانت المعضلة في الافتقار التام للمياه والأطعمة وأدوات الإسعاف الأولي التي لم تكن لتكفي إلا إلى ما يقل عن ثلاثة أيام، وغياب أية وسيلة لطلب النجدة، لقد كانت هناك سفينتان ترافقان الفرقاطة، لكنهما سبقتاها من بعيد، بحيث لم تدركا إلا متأخرتين غرقها والمأساة التي بات يعيشها ركاب الطوف. وكانت في الحقيقة مأساة حقيقية لأن الأمر انتهى بعد 15 يوماً إلى العثور عليها، ولكن ليس على متنها سوى 15 ناجياً سيموت ستة منهم بعد قليل. فأين الباقون؟ ببساطة، إما ماتوا جوعاً وعطشاً وغرقاً، وإما التهمهم رفاقهم ما إن أطلوا على الموت في مأساة أكل لحوم بشر كانت نادرة في التاريخ الحديث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا على أية حال ما سيرويه اثنان من الناجين لاحقاً، وسيرددانه على مسمع الرسام جيريكو الذي ما إن استوعب المأساة تماماً حتى قرر أن يخلّد ما حدث في لوحة عملاقة. والحقيقة أن تصرفه الفني والإنساني هذا سرعان ما سينكشف فعلاً سياسياً، وهنا الجانب الآخر والأساسي من الموضوع، الجانب الذي أتى عرض اللوحة ليذكر به إن كان في حاجة إلى تذكير.

فضيحة سياسية

والحكاية هنا تتعلق بالسياسة عند أعلى مستوياتها، وملخص ذلك أن الفرقاطة التي كانت من درر البحرية الفرنسية، عهدت السلطات الملكية العائدة إلى الحكم حديثاً في شخص لويس الثامن عشر بعد سقوط البونابرتية، بقيادتها إلى ضابط من أنصار الملكية كان قد توقف عن ممارسة الإبحار منذ ما يزيد على عشرين ساعة بالنظر الى أنه من أنصار الملكية، وكان قد سلك درب الهجرة، بالتالي كان تكليفه بالقيادة مكافأة له على ولائه، لا على كفاءته. وهكذا، كما سينكشف لاحقاً وبقوة، راحت الصراعات تتصاعد بينه وبين الطاقم الذي كان من أفضل حرفيي البحرية، لكنهم كانوا يضطرون للرضوخ إلى أوامره، وكانت هذه خرقاء وكيدية حتى اللحظات الأخيرة، ما تسبب في الحادث المأساوي ومقتل المئات في وصمة عار لطخت جبين البحرية الفرنسية لعقود طويلة.

قضية وطنية

طبعاً، لا يمكن أن نزعم هنا أن لوحة جيريكو تعبر عن هذا كله، هي تذكّر به في أحسن الأحوال طبعاً، ولهذا التذكير أهميته و... خطورته بالطبع، ومن هنا كان الهجوم الذي شنته الصحافة الملكية الرسمية على جيريكو ومحاولة السلطات منع اللوحة من الصالون وتغيير اسمها بغية التعميم والتعمية، لكن ذلك كله لم يبدُ مفيداً، فالرأي العام تحلق من حول اللوحة وساندتها الصحافة التقدمية لتصبح المسألة قضية وطنية، لكن الأهم من هذا هو تلك الأبعاد الفنية التي وسمت لوحة تحولت بالتدريج الى أيقونة، سياسية، إنسانية، لوحة تمكّن راسمها الشاب، الذي اشتغل عليها سنتين منفقاً على العمل كل ما يملك، مستأجراً مرسماً ضخماً غير متوان عن رشوة حراس مستشفى مجاور كي يبيعوه أطرافاً وأشلاء لموتى موجودين في مستشفاهم كي يرسمها بأكبر قدر من الواقعية، وسيتبين لاحقاً أن صديقه الرسام ديلاكروا توسط بينه وبين الحراس لشراء الأشلاء. وهكذا ولدت تلك اللوحة المدهشة التي لن يفوت البعض، وعلى الرغم من كل شيء، أن يرى فيها نفحة أمل بالنظر الى أن معظم الذين رسمهم جيريكو كانوا من الناجين، يشفّ تلويحهم بأيديهم عن تلك الآمال التي راحت تولد لديهم، وهم يرون من بعيد أشرعة سفينة أحسوا وأملوا أنها ستصل إليهم أخيرا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

نحو فن معارض

ولنذكر هنا أن جيريكو الذي كان قلقاً على لوحته ومصيرها، ويعرف أنه يحقق عبرها مكانته الأساسية في الفن الفرنسي، تعمّد أن يعرض لوحته قبل افتتاح الصالون بشهر في صالة ضخمة كي يسبر الآراء حولها قبل وصولها إلى الجمهور العريض. وهو في الوقت الذي اكتشف فيه بعض النواقص في لوحته سعى إلى إحداث تعديلات طفيفة فيها شغلته عما دار من نقاش فوري حولها، إذ اعتبرت نوعاً من "فن معارض" وسط مناخ كان يزدحم بالصراعات السياسية، ولا سيما بين "الإمبراطوريين" والثوريين من جهة، والملكيين من جهة ثانية، ما أضفى على "طوف الميدوزا" صبغة سياسية ربما يصعب القول إن جيريكو كان قد تقصّدها هو الذي كان يؤمن بالإبداع أكثر مما بالمناكفات السياسية.

المزيد من ثقافة