Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جون بول بلموندو... رمز لجاذبية الموجة الفرنسية الجديدة

النجم الأسطوري بطل فيلم "متقطع الأنفاس" Breathless رحل يوم الإثنين الماضي، مخلفاً وراءه إرثاً فرنسياً في السينما بأبعاد تفكيرية معمقة

أيقونة السينما الفرنسية جون بول بلموندو الذي فاز بالعديد من الجوائز العالمية، كان يمتاز بأسلوبه الفكاهي المرح (أ ف ب)

مع الخبر الحزين عن وفاة النجم الفرنسي الأسطوري جون بول بلموندو يوم الإثنين الماضي، عن عمر ناهز 88 سنة، ثمة صورة سوف تقبل الصحف والمواقع الإلكترونية على استخدامها مراراً وتكراراً، وهي تظهر بلموندو يرتدي قبعة يضعها على رأسه بطريقة مرحة، ويتدلى من شفته السفلى سيكاراً سميناً، أما ملامح وجهه فتتصدرها نظرة لامبالاة "غاليّة" (من بلاد الغال) غير مفتعلة. إنها الهيئة التي ظهر عليها بلموندو في فيلم "متقطع الأنفاس" (بريثليس) Breathless (1960) لـ "جون لوك غودار"، بدور شاب في مقتبل العمر سيغدو عضواً في عصابة.

هذا الفيلم يمثل إلى حد ما، على الأقل بالنسبة لجمهور السينما العالمي، العمل الذي ما زال طوال هذا الوقت مرتبطاً بالممثل جون بول بلموندو. والنجم خاض مسيرة مهنية مديدة وظهر بالكثير من الأفلام الجيدة في فرنسا وأمكنة أخرى. كما عمل مع مخرجين بارزين من بينهم جون بيير ميلفيل، ولويس مالي، وفرنسوا تروفو. كذلك أدى أدواراً بمواجهة معظم النجمات العظيمات في زمنه، من ضمنهن بريجيت باردو، وآنا كارينا، وراكيل ويلش، وأورسولا أندريس، وصوفيا لورين. ومثل في أعمال كوميدية، كما في مغامرات بوليسية، ومسلسلات درامية، وأفلام حركة صاخبة. لكن، على الرغم من هذا، حين يذكر اسم "بلموندو"، فإن ما يتبادر إلى الأذهان على الفور بالنسبة لمعظم عشاق السينما، هو دوره ذاك في تحفة غودار الكلاسيكية ضمن "الموجة الجديدة" (متقطع الأنفاس)، بمواجهة النجمة الأميركية ذات الشعر القصير والعابثة، جين سيبيرغ.

لماذا؟ لأن بلموندو كان مرتاحاً جداً مع جسمه، وبدا هذا الممثل في "متقطع الأنفاس" (بريثليس) متمتعاً بسهولة الحركة، وبشخصية شهوانية لم يجاريه فيها سوى قلة قليلة من الممثلين الآخرين. لقد كان بلموندو قاسياً، بيد أن ذكوريته تخففت عبر الطرافة والكياسة. وكحال جون غابان، النجم الفرنسي العظيم بالنسبة للجيل السابق، فقد تمتع بسطوة طبيعية بغض النظر عن الدور الذي كان يؤديه. آلان ديلون مثلاً، معاصره، كان أكثر لزاجة ونعومة، لكنه لم يستطع محاكاة تلقائيته القاسية والخشنة. إذ سبق لـ بلموندو أن كان ملاكماً هاوياً، وقد اكتسب وجهه بفعل ذلك خبرة وضراوة جذابة. كما أن ذوقه في الثياب أيضاً كان مؤسلباً وحاذقاً.

شبهه النقاد في بعض الأحيان بنجوم هوليوود، أمثال هامفري بوغارت وستيف ماكوين، بيد أن تلك المقارنات لم تكن صائبة تماماً. إذ إن المزمجر والعصبي بوغارت، والهادئ ماكوين، افتقرا لبهجة بلموندو وإقباله المطلق على الحياة (مقابل تمتعهما بميزة "نمطية" أقوى). فقد كان جون بول شخصية فرنسية أصيلة، لا يشعر أبداً أنه في موطنه وبيته حين يكون مسافراً للعمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اعتبر "متقطع الأنفاس" نمطاً فنياً نخبوياً يناسب بلموندو، إلا أن الممثل حظي أيضاً بشعبية واسعة. وللمفارقة، إذا اعتبرنا أنه خلق من أجل السينما، فقد بدأ مسيرته المهنية على المسرح. وحين انتقل لتمثيل الأفلام قام باختيار وجهة يبلور فيها نسخة حديثة من صيغة "معبود الجماهير" القديمة، في مسرح "الماتينيه" (الحفلات النهارية).

في فيلم المغامرات المرحة "ذاك الرجل من الريو" That Man from Rio عام 1964، من إخراج فيليب دو بروكا الذي كان من الذين عمل معهم بانتظام، ظهر بلموندو متنقلاً في أنحاء البرازيل، "راكضاً، وسابحاً، وغاطساً، وقافزاً، ومراوغاً السيارات، ومتفادياً التصادم بأشجار منهارة" كما كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" آنذاك. فهو كان مثل وسيط بين شخصيتي "تان تان" Tintin وإنديانا جونز، إذ راح يجوب طول البلاد وعرضها محاولاً تحرير خطيبته من الخطف (أدت دورها فرونسواز دورلوك).

بيد أن حبه للمسرح بقي قوياً. وذكر مرة، حين قام لفترة قصيرة في مرحلة متقدمة من حياته المهنية بالتحول من السينما إلى المسرح، فقال "عملت في المسرح عشرة أعوام قبل انتقالي إلى السينما، وفي كل سنة كنت أخطط للعودة إليه (المسرح). ثم حققت هذه العودة قبل أن أغدو عجوزاً".

مضى اليوم 20 سنة على الجلطة التي أصابت بلموندو وشلته. وهو، كعادته، واجه ذاك الشلل الذي كان من شأنه هزيمة أي ممثل آخر أقل عزيمة وإرادة. ثم ما لبث أن استأنف مسيرته. وكان لاسمه ذلك الثقل، وظل يتمتع بالحضور الذي جعل من المخرجين يعاودون تكييف أعمالهم كي تلائم حالته الجسدية الواهنة. أفلام الحركة (الأكشن) استثنيت في هذه المرحلة، إلا أنه ظل قادراً على استنفاد الأدوار العاطفية، كمثل "رجل وكلبه" (2008) A Man and His Dog، فيلم فيتوريو دي سيكا الكلاسيكي المتميز من نمط الواقعية الجديدة التي تعرف بـ "أومبيرتو دي" Umberto D. في هذا الفيلم بدا "رمز الجنس" بأداء رجل مسن واهن، لا مال لديه ولا بيت، ولا رفيق له سوى كلبه الأليف.

وكانت سمعة بلموندو أحياناً قد وقفت في طريقه. إذ إن أحد أفضل أداءاته وأقلها انحصاراً بسمات محددة جاء في "كاهن، ليون مورين" (1961) Leon Morin, Priest لـ ملفيل، حيث لعب بلموندو دور كاهن عطوف ومثالي في فرنسا إبان الحرب. لكن، ولأن الجميع أحبوه كثيراً في دور البطل القاسي، في مسيرته المهنية على الأقل، فإنه لم يحظ بفرصة حقيقية لإظهار كامل موهبته وإثبات مدى اتساع المجال الذي يمكنه ملؤه.

وفي عام 2011 حين عاد بلموندو إلى مهرجان "كان" السينمائي بعد غياب سنوات عدة، فقد نال ترحيباً عاصفاً. لم يهتم أحد بوقائع سيئة في حياته الخاصة. ولم يلتفت أحد إلى ترهله الجسدي. جمهور السينما في فرنسا والعالم ما زالوا يعتبرونه ذاك الشخص الجامح ذاته الذي يتذكرونه في فيلمي "متقطع الأنفاس" و"ذاك الرجل من الريو". لقد عشقوا شيطناته وغروره. على أن السينما الفرنسية في السنوات الماضية لم تنتج نجماً آخر يضاهيه، وهي ربما لن تفعل ذلك أبداً.

© The Independent

المزيد من سينما