Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في وداع صديق

"كانت لهجته الفلسطينية التي حافظ عليها على الرغم من ولادته وعيشه بالكويت معظم حياته، ميزة حوارية وإضافة لقوة حجته"

شفيق الغبرا (حساب الراحل على فيسبوك)

اتصلت بابنته حنين قبل أيام مستفسراً عن عدم رده على اتصالاتي المتكررة منذ مدة، فقالت لي: لم يعد يرد على أحد. تذكرت القول:

"من طاوَلَه سُقم الليالي غَدَت به".

 رحل الدكتور شفيق الغبرا، رحمه الله، امتدت زمالتنا وصداقتنا أكثر من ثلاثين عاماً، تناظرنا بالمكاتب الإعلامية الكويتية بالوقت نفسه بطلب من الراحل الشيخ سعود الناصر الصباح، وزير الإعلام حينها: كنت بلندن، وكان بواشنطن. كان يفترض أن يكون العكس لكن القرار تغير باللحظة الأخيرة. مازحته جاداً: تمنيت لو أن الوزير اختارني لواشنطن بدلاً من لندن.
صرت وزيراً للإعلام بعد ذلك بعامين، فاتصل مهنئاً وممازحاً: تستطيع الآن أن تصدر قراراً بنقلك لواشنطن ونقلي للندن.
كان منافحاً هادئاً وصارماً بقوة الحق ومدافعاً صلباً عن بلده الكويت، كانت لهجته الفلسطينية التي حافظ عليها على الرغم من ولادته وعيشه بالكويت معظم حياته، ميزة حوارية وإضافة لقوة حجته في مواجهة أصوات المزايدة والاسترزاق باسم فلسطين.
كانت قيافته بالبدلة والياقة تشوش على الصورة التي يرسمها الغوغاء من بني يعرب: دشداشة الخليجي المتخلف على ظهر ناقته المحملة بالبترودولارات.
تزامن والدكتور أحمد الربعي وسامي النصف والدكتور عايد المناع وآخرون في التصدي للافتراءات الصدّامية المنهمرة بمحاولة تحويل الكويت -ضحية العدوان والاحتلال- إلى الجاني الذي يحاصر أطفال العراق.
اختلفنا بعد الربيع العربي، هل هي ثورات ضد الاستبداد والفقر؟ أم أنها ثورات من أجل الحرية والديمقراطية؟ اختلفنا حول تسلم الأحزاب الدينية السياسية السلطة إن أتت بصناديق الاقتراع، هل تؤمن هذه الأحزاب بالتحول الديمقراطي المدني بعد وصولها إلى السلطة؟ هل يمكن أن تتحقق الدّمقرطة بالتحول؟ أم أن الديمقراطية نتيجة للحريات الاجتماعية التي يجب أن تسبقها؟ هل الحرية شرط يجب أن يتحقق كي تولد الديمقراطية وتتطور؟ أم أن مسارهما متزامن وواحد؟ هل يمكن التعايش بين الأحزاب المدنية والأحزاب الدينية في الدولة المدنية؟ هل يعني السماح بالتنظيمات الدينية السياسية أيضاً السماح بالأحزاب الطائفية السياسية، والأحزاب القبلية السياسية، والأحزاب العرقية السياسية، والأحزاب العنصرية السياسية، والأحزاب اللغوية السياسية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كنا متفقين على رفض القمع والتنكيل بأي فرد وبأية جماعة كانت، لكننا اختلفنا حول مَن له الحق في دخول اللعبة السياسية في الدولة المدنية، اختلفنا حول الاستبداد الفردي والاضطهاد الديني، هل هما سيان؟ أم أن الاضطهاد الديني هو أسوأ أشكال الديكتاتوريات؟ هل تختلف مصادرة الحريات السياسية عن الاجتماعية وأيهما أولى بالتحقيق؟ هل ترتيب تحقيق الحريات بنوعيها السياسية والاجتماعية مهم في تحقيق الديمقراطية أم لا؟ أيهما يجب أن يسبق الآخر: الحريات السياسية أم الحريات الاجتماعية والفكرية؟ كانت نقطة خلاف فكرية مفصلية. تجادلنا حول العلمانية كشرط أساس لدخول اللعبة السياسية في الدولة المدنية العلمانية، هل تغيرت الأحزاب الدينية -خصوصاً الإخوان المسلمين- ويمكن أن يصبحوا ديمقراطيين وعلمانيين؟ تناقشنا حول القضايا الحقوقية الإنسانية التي تبنوها -إن وجِدت. تجادلنا حول مواقف الأحزاب الدينية من حرية التفكير والنقد والفن والرواية والثقافة والمسرح والموسيقى وحرية المرأة وحقوق الأقليات وغيرها. تبادلنا الاختلاف وبقينا على الرغم من ذلك صديقين.

مثل كثير من الكتاب والمثقفين بالخليج، اتُّهم الغبرا بالانحياز "المدفوع" في الأزمة الخليجية المقرفة. لا أعرف أحداً نجا من تهمة الانحياز تلك.
أثار كتابه "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت" جدلاً واسعاً. لمته على العنوان قائلاً إنه "استفزازي يا بو يزن!"، أجاب "بداخلي وإياك إعلامي، فالاستفزاز للإثارة والجدل في الخبر والمعلومة مهم أحياناً لاستقطاب الجماهير". زادت حدة الانتقادات ضد شفيق بعد هذا الكتاب حتى وصلت حد التخوين والمقاضاة. دافعت عن حقه بالرأي ودفع القضاء الكويتي ببراءته وعن حقه بالتعبير والنشر الأكاديمي. اتصل شاكراً بعد أن انتشر دفاعي الصوتي على نطاق واسع، ووجدتها فرصة لانتقاد كتابه بشدة وبحدة، تقبل ذلك وأنهينا المكالمة على أن يزورني لأكمل انتقادي الشديد لكتابه، لكن القدر لم يمهله للقاء المرتقب.
من مركز السدرة التطوعي للعناية النفسية بمرضى السرطان بمراحل حياتهم الأخيرة، اتصلت بي الإنسانة العظيمة ألطاف العيسى باكية: "ادع لشفيق بالرحمة فإنه ينازع بالرمق الأخير". حاول المركز الإنساني تلطيف الأيام الأخيرة من ليالي المرض الدامسة ولكن "مَن طاوله سقم الليالي غدت به".
دعوت له بالرحمة.

كل نفس ذائقة الموت.

المزيد من آراء