Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة موسكو في "البلقان الأوراسي" لا تحتمل دخول الصين

فطنت روسيا أخيراً لتعاظم دور بكين في آسيا الوسطى مستغلة انشغالها بالصراع مع أميركا

ساهم نموذج التغلغل الصيني القائم على التنمية الاقتصادية في توسع وجودها في آسيا الوسطى على حساب الروس (أ ف ب)

منذ بدء الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وروسيا تحذر من اندلاع الفوضى في البلاد الأفغانية مخافة انتشار التطرف إلى بلدان وسط آسيا (تركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان)، والاهتمام الروسي لا ينصب فقط على أمن المنطقة واستقرارها، بل أيضاً بغية إبعاد المنافسين الدوليين وفرض هيمنتها السياسية إقليمياً.

صاحبَ التحوط الروسي تكهنات سياسية وإعلامية بعزم الإدارة الأميركية تشييد قواعد عسكرية لها في دول آسيا الوسطى، وهو الأمر الذي دار عقب تخلي إدارة بايدن عن تمركزها العسكري في أفغانستان، واعتقاداً لدى بعض الخبراء من أن الولايات المتحدة تختط لنفسها خطةً مغايرة تأخذ في الاعتبار الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، لا سيما وآسيا الوسطى تقع على حدود خصميها الدوليين، روسيا والصين، إن أرادت احتواءهما.

روسيا كوريث شرعي للاتحاد السوفياتي السابق، تتحرز ضد أي اختراق أمني أو سياسي للمنطقة، سواءً الصادر عن الجماعات دون الحكومية أم عن قوى دولية منافسة. بيد أن المنطقة بما تزخر به من غاز طبيعي وموارد نفطية، وما تكتنزه أراضيها من مياه جوفية، وما لها من مكانة جيوسياسية، غدت مطمعاً لقوى إقليمية ودولية عدة منذ تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال دوله بعد عام 1991. على رأس هذه القوى الولايات المتحدة والصين وتركيا وإيران، مما حث روسيا على التحرك ضد ما يقوض مصالحها السياسية واعتباراتها الاستراتيجية.

دواعي التحذيرات الروسية والدولية تعزى إلى هشاشة الأجهزة الأمنية لدى دول آسيا الوسطى، ناهيك عن زعزعة الجماعات الإسلامية المتطرفة لاستقرار أنظمة الحكم المنكبة على التطبيقات العلمانية، ونزوع العديد من المعارضين في الداخل إلى الانضمام إلى الجماعات المسلحة خارجياً، لا سيما "القاعدة" و"داعش خراسان". واللافت أن صعود "طالبان" فاقم من قدر المخاوف الأمنية لدى الدول المتاخمة لأفغانستان، وهم تركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان، حيث أن الشمال الأفغاني يحتضن أعداداً معتبرة من الإثنيات الثلاث، فنحو 22 في المئة من سكان أفغانستان من الطاجيك، و 9 في المئة من الأوزبك، و 3 في المئة من التركمان.

صراع القوى العظمى في "البلقان الأوراسي"

إبرازاً لمكانة آسيا الوسطى الاستراتيجية، أطلق العديد من الخبراء الجيوسياسيين مسميات لافتة على المنطقة، العالم البريطاني هالفورد ماكندر، أسمى آسيا الوسطى والقوقاز "جزيرة العالم" وعدها بمثابة القلب منه لأن السيطرة عليهما تتيح السيطرة على العالم أجمع.

في سياق تنافس القوى العظمى، وصف مستشار الأمن القومي الأميركي الشهير زبغنيو بريجنسكي، آسيا الوسطى "بالبلقان الأوراسي"، مشبهاً التنوّع العرقي وما يفضي إليه من تنازع في المنطقة بالحالة التي عصفت بدول يوغسلافيا السابقة وما تخللها من اشتباكات عنيفة، كما أوصى حكومته في نهاية التسعينيات على أن تضع نصب عينيها ركيزةً أساسية ألا وهي الحيلولة دون أن تحظى أي قوة أخرى بالسيطرة التامة على هذه الجغرافية الاستراتيجية.

هكذا كان يفكر صانع القرار الأميركي، أما نظيره الروسي فله موقفان متباينان، ظهر الأول في حماسة الرئيس فلاديمير بوتين للشراكة مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب بعد عام 2001، على رغم أن الكرملين يعتبر آسيا الوسطى فناءً خلفياً له، إلا أن بوتين آنذاك لم يقف في طريق استخدام الولايات المتحدة لقواعد جوية في أوزبكستان وقيرغيزستان بغية دعم الحرب التي تخوضها في أفغانستان.

الموقف الآخر، ظهر بعودة روسيا بقدر ما إلى حيز الصراع القطبي دولياً، بعد تعافيها اقتصادياً وتفعيلها لقوتها العسكرية. فقد انقضت المهام الأميركية في مطار "خان أباد" العسكري في منطقة كاشكاداريا بأوزبكستان بحلول نهاية عام 2005، بعد أن ألغت أوزبكستان اتفاقية استخدام القاعدة مع واشنطن، ولاحقاً انسحب الأميركيون من قاعدة ماناس الجوية في قيرغيزستان بمنتصف 2014، وكلا الحالتين تمتا بتفعيل روسيا لأوراقها السياسية والاقتصادية في مقارباتها مع الدولتين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المشهد الجيوسياسي الحالي ينطوي على اختلافات جذرية في التعاطي الروسي تجاه الوجود الأميركي- الغربي على مشارف أراضيها، وبدت روسيا مستعدة لاستغلال قوتها الصلبة متى ما جوبهت بتهديد لأمنها القومي، كما حدث في ضمها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، وما أفرزه هذا الحدث من شقاقات حادة بينها وبين الأطراف الغربية. لكن الصراع في آسيا الوسطى لا يقتصر فقط على روسيا والولايات المتحدة الأميركية، بل تعج المنطقة بمنافسين آخرين، أبرزهم الصين التي تتقاسم المصلحة مع روسيا في وقف الزحف الأميركي- الغربي نحو مناطق نفوذهما، لكنها أيضاً وبمعزل عن روسيا، لها أهدافها الأمنية والاقتصادية الذاتية في المنطقة والتي لا تتماشى بالضرورة مع الرؤية الروسية الشاملة.

الصين وروسيا... قواسم مشتركة ورؤىً متفاوتة

الصين لا تحفل بماهية النظم السياسية في دول آسيا الوسطى ولا تكترث بمسائل الإصلاح السياسي كما تفعل الولايات المتحدة، ومن جانب آخر بكين لا تضغط على حكومات المنطقة وتوجهاتها السياسية والأمنية كما تفعل روسيا بتوظيف الإرث السوفياتي، بل إن جاذبية الصين تكمن في تركيزها على التنمية الاقتصادية متى ما توافر الاستقرار في أي بلد.

يمكن تلخيص الرؤية الصينية إزاء دول آسيا الوسطى في إطارين اثنين، الأول اقتصادي وهو الرافعة الأساس لتحركات الصين الخارجية كون مشروعها العالمي "الحزام والطريق" يعبر من خلال دول آسيا الوسطى. حيث بدت محورية المنطقة في الاستراتيجية الصينية بأن كانت كازاخستان محطة كشف النقاب عن مشروع الصين الطموح عام 2013.

تعمل الصين عبر الورقة الاقتصادية إلى الاستحواذ على حصص متزايدة من مشاريع البنى التحية واستخراج موارد الطاقة في المنطقة، وعلى رغم أن لديها عديد من الاتفاقيات الثنائية مع كل دول الإقليم، إلا أنها حافظت على توازن العلاقة مع روسيا ضمن منظمة شنغهاي للتعاون، لتكون المنظمة الآلية المحفزة لرفع معدل صادراتها إلى أسواق آسيا الوسطى، لا سيما إلى الدول المحاذية الثلاث؛ طاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان.

الإطار الآخر ناجم عن المخاوف الأمنية الصينية وتهديد الجماعات الانفصالية لديها في إقليم سينكيانج، لذا عمدت بعد تدعيم علاقاتها الاقتصادية بدول آسيا الوسطى إلى دفعهم باتجاه ممارسة الضغوط على انفصالي أقلية الإيغور المسلمة، بموجب الروابط العرقية والثقافية الدينية بين الإيغور وشعوب المنطقة. وقد جنحت الصين بسرية تامة نحو تأسيس قاعدة عسكرية بشرق طاجيكستان قرب التقاء الحدود الافغانية- الصينية تحت ستار مكافحة الإرهاب، بهدف منع التسلل وقطع الطريق على الإمدادات البشرية والتسليحية لانفصاليي الإيغور.

الجانب الروسي فطن إلى تعاظم الدور الصيني وتجاوزه للجوانب الاقتصادية، واسترعى انتباهه زيادة مبيعات الأسلحة الصينية لدول آسيا الوسطى على مدار السنوات الماضية، وعلى رغم توافق الطرفين الصيني والروسي حيال التصدي للزحف الأميركي- الأوروبي، إلا أن مظاهر التنافس تظهر على السطح يوماً بعد يوم مع تغلغل القوة الصينية وطرحها لمبادراتها الخاصة بعيداً من شراكاتها السياسية مع موسكو.

الإرث السوفياتي لآسيا الوسطى ومحاولات السيطرة الروسية

في سياق عام، وبحسب الرؤية الروسية فإن ميزان القوى في آسيا الوسطى كالمعادلة الصفرية، ما تتنازل عنه روسيا في مجالات الأمن والعسكرة يفضي إلى تناقص في مقدار نفوذها إقليمياً، لذا تحتفظ بقواعد عسكرية في طاجيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان، وأهم ما يضطلع به القائمون على القواعد العسكرية الروسية، هو مهمة حفظ الأمن الإقليمي والحدودي. كما أن لروسيا أوراقاً اقتصادية ثمينة تبرز في احتكارها الأسواق المالية، ومحاولاتها تعزيز النفوذ في قطاعي الطاقة والثروة المعدنية، فضلاً عن تعاونها مع دول المنطقة في مجالات الطاقة النووية.

أمنياً، تسيطر روسيا على دفة القيادة في التكتل العسكري المعروف باسم "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، ويشكل التكتل مظلةً أمنية للدول الأعضاء من آسيا الوسطى (كازاخستان، قيرغيزستان، وطاجيكستان)، فإليه تستند القوى الحكومية لهذه الدول في مواجهة تحدياتها الأمنية سواءً كانت نابعة من الداخل جراء تحركات الجماعات المعارضة المتطرفة، أم من الخارج كما هي الحال القائمة مع صعود "طالبان" واضطراب الوضع في أفغانستان.

يبقى أن نقول إن روسيا في توجهاتها الخارجية حيال آسيا الوسطى وفي معرض التجاذب الدولي مع الولايات المتحدة الأميركية، تتخذ مبدأ "مونرو" ديدناً سياسياً لها، فكما أن الولايات المتحدة في صعودها كقوة عظمى عالمية آنذاك سعت لتحييد مجالها الإقليمي الغربي، في القارتين الأميركيتين الشمالية والجنوبية، عن متناول القوى العالمية الأخرى، فإن روسيا تحرص على أن تكون الضامن الأمني الوحيد في إقليم وسط آسيا بعيداً من الوصول الأميركي- الغربي المنافس أو المد الصيني المتزايد. 

حيثيات الأمن والنفوذ في المنطقة تتكئ على ركائز اقتصادية حاسمة، إذ تلعب سياسات الطاقة بتفاصيلها المتشعبة دوراً محورياً في تحديد المعالم السياسية والأمنية لدول آسيا الوسطى، كما أن دولاً أخرى إقليمية كتركيا وإيران تحث الخطى على إيجاد موطئ قدم في المنطقة مما يذكي التنافس الدولي المحموم في سبيل حيازة المكاسب الاقتصادية والنفوذ السياسي. في جزء لاحق سنتطرق إلى تطلعات تركيا وإيران وأدواتهما في اختراق المنطقة، إضافة إلى البحث في السياسات المتخذة في مجال أمن الطاقة للوقوف على حقيقة الفاعلين الدوليين في المنطقة.

المزيد من تحلیل