Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تساهم حدة الصراع في ترسيخ دعائم العنف السياسي في السودان؟

"أدى الاقتتال العسكري والقبلي الداخلي والتهجير القسري والنزوح إلى خسارة الآلاف حيواتهم قبل وبعد الثورة"

يمكن تصنيف ما يحدث خلال فترة الحكم الانتقالي الحالية ضمن دائرة العنف المنخفض الشدة (اندبندنت عربية - حسن حامد)

إذا كانت ثقافة العنف المتفشية في أقاليم مثل دارفور وجبال النوبة هي نتيجة لسنوات الحرب الطويلة، فإن حالة التفلت الأمني والعسكري والسياسي نقلت هذه الثقافة إلى بقية الأقاليم والعاصمة الخرطوم.

وتنبأ كتاب "عنف البادية"، الذي نُشر في عام 2006 ويحكي عن تنفيذ الرئيس الأسبق جعفر النميري عمليات إعدام قادة الحزب الشيوعي في بداية سبعينيات القرن الماضي بعد محاولتهم الانقلابية، بأن "ثقافة العنف ستظل ملازمة أنظمة الحكم في السودان إلى عشرات السنين، وستمر فصولها المفجعة بفترات من الظلام، وسيكون للإسلاميين دور هدّام ومدمر في مسيرة الشعب، سيعاقبهم عليه التاريخ وما زالت فصوله نافذة في السودان إلى اليوم".

ربما تحقق جزء أساسي من هذا التوقع، لما يشكله العنف السياسي من حروب وحركات تمرد وعنف قبلي واجتماعي، بالإضافة إلى عدم سلوك طرق سليمة لإنهاء الحروب. فحرب جنوب السودان لم تنته إلا بانفصاله عام 2011، والحرب في دارفور ربما تكون من أكثر الحروب في أفريقيا التي وُقّع خلالها عددٌ كبير من اتفاقات السلام من دون أن تضع أوزارها. ولعل ما خفف تسليط الضوء عليها حالياً هو أنها فقدت مبررها الأخلاقي بعد سقوط النظام السابق، وامتداد العنف السياسي بين الأحزاب ثم توسعه ليشمل حالات العنف الاجتماعي والاقتصادي، هو إيذانٌ باستمرار العنف. وليس بغريب أن تستمر أيضاً كيانات مثل "لجان المقاومة" التي بدأت نشاطها عام 2013 لتنظيم نشاطات العصيان المدني ثم مشاركتها في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، تعويضاً لما كان يتم على يد النظام السابق حين كان الناس محرومون من الحق في المقاومة، وتحول الأمر الآن إلى تلاشي الخط الفاصل بين المقاومة والعنف السياسي.

إعدام الموالين

لم تتغير ظاهرة العنف في السودان خلال حقبه التاريخية السياسية المختلفة، فالتصفيات السياسية ومجازر المناوئين السياسيين من قِبل الحكومات العسكرية لا تزال تُناقش مسبباتها بالخروج عن سياق العنف السياسي العام إلى ربطه بخصائص سياسية سودانية منذ عهد ما قبل استقلال البلاد. وبسبب الحالة المحمومة التي كانت تصاحب النظم العسكرية في السودان، حدثت ردة الفعل العنيفة، ومنها إعدام قادة الحزب الشيوعي الذي نفذه جعفر النميري بعد انقلابه على النظام الديمقراطي في مايو (أيار) 1969. ثم قام موالون للنميري هم، قائد الانقلاب هاشم العطا، وزعيم الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب، والقائد النقابي الشفيع أحمد الشيخ، والقيادي جوزيف قرنق، والمقدم بابكر النور، والرائد فاروق حمدالله، بما عُرفت بـ"حركة يوليو التصحيحية" وهو انقلاب عسكري ضد نظام النميري، نفذوه في يوليو (تموز) 1971، وتسلموا السلطة لمدة ثلاثة أيام، ولم ينل الانقلاب حظه من الدعم الداخلي أو الدولي ففشل، وعلى أثره اعتُقلوا وأُعدموا بعد محاكمات عسكرية سريعة سُميت بـ"محاكمة الشجرة".
 


ومع أن العنف كان سائداً، إلا أن وتيرته اشتدت خلال عهد النظام السابق إلى درجة أن شبّهه البعض بعهد "الخليفة عبد الله التعايشي" الذي حكم بعد وفاة الإمام محمد أحمد المهدي في 22 يونيو (حزيران) 1885 حتى مقتله في معركة أم دبيكرات في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1899. وقيل عن التعايشي إنه كان يدفن أعداءه من المواطنين السودانيين أحياء، وناصب كثيرين من زعماء القبائل الذين رفضوا الانصياع له، العداء، وكان يأمر جنوده بالإغارة على قراهم الآمنة.

ما يحدث خلال فترة الحكم الانتقالي هذه يمكن تصنيفه ضمن دائرة العنف المنخفض الشدة، ولولا انتقاله من الهامش إلى المركز لما أحس به أحد، إذ إن هذا الانتقال حوّله إلى مشكلة مركزية، بدأت تتفاقم بوجه ما بذلته الحكومة الانتقالية من جهودٍ للتخلص مما يحيط بمؤسسات الدولة والنخبة الحاكمة وسلطاتها ومحاولات الذود عن حياضها بملاحقة أعضاء النظام السابق خوفاً من أن يتسربوا أو ينتظموا ضد مؤسسة الحكم.

عنف مضاد

أدى الصراع العسكري والقبلي الداخلي والتهجير القسري والنزوح، إلى العنف السياسي وخسارة الآلاف حيواتهم قبل وبعد الثورة، مع موجة نزوح لم تتوقف منذ بداية التمرد في الجنوب الذي أدى إلى الحرب هناك، وإن كانت مناطق الجنوب في ذلك الوقت (عام 1955) مُسيطراً عليها من قِبل الاستعمار. من الناحية التاريخية فإنها بعد ذلك وفي الحروب الأخرى، شهدت نزوحاً كبيراً منذ تجدد الحرب مرةً أخرى في عام 1983 وتفاقهما بعد انقلاب الرئيس السابق عمر البشير. ثم تواصل النزوح من دارفور وجبال النوبة بسبب الحرب أيضاً لعوامل تنوعت بين الدوافع السياسية والأيديولوجية وعدم المساواة الإقليمية والبحث عن ظروف معيشية أفضل. أما بعد الثورة وبعد دعوة الحركات المسلحة إلى الخرطوم، فازدادت هذه الظاهرة بسبب تعزيز هذه الحركات وتقوية المجموعات شبه العسكرية، وإطلاق يدها في كثير من العمليات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما أن للعنف والنزاع السياسي تأثيراً واضحاً وممتداً في النظم الاجتماعية وتدمير المؤسسات الخدمية بفعل الغبن أو الاحتجاج غير السلمي. وهذه الحالة ظهرت في مواجهة المتظاهرين السلميين قوات النظام السابق وأجهزته الأمنية عندما بدأت بفض التظاهرات، فكان الثوار يقومون بتتريس الشوارع (وضع حجارة ضخمة في الطرق) لمنع دخولهم وسياراتهم ومعداتهم إلى أماكن الاحتجاجات. ثم انتقل التتريس إلى ميدان الاعتصام، فأُغلقت المداخل والمخارج وعندما تسربت القوات وفتحت منفذاً للدخول إلى الميدان ونُفذّ الاقتحام والقتل، وجد الثوار أنفسهم محصورين في هذه المنطقة محاطين بالحجارة ولم يستطيعوا الفرار بسهولة وأسهم ذلك في تزايد أعداد الضحايا. وبعدها ازدادت محاولات حماية المدنيين أنفسهم بالعنف المضاد، فكانوا يردون عبوات الغاز المسيل للدموع إلى القوات الأمنية، ثم تطور العنف بشكل مطرد إلى أن وصل إلى حد تنفيذ السرقات من المنازل تحت تهديد السلاح، وقطع الطرق في الأحياء السكنية والنهب من الشارع العام.

سمات خاصة

ليست الأحداث التي تنشب بين الإثنيات المختلفة في دارفور، والتفلت الأمني في الخرطوم وبعض المدن، هما أهم هذه المظاهر فحسب، بل إن المعاناة جاءت نتيجة لحالة الركود السياسي في الفترة الانتقالية، في حالة بين المدنية والعسكرية، ثم تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار نتيجة التضخم، والاحتكاكات القبلية والإثنية، هذه الأزمات استمدت جذوة استمرارها من جذور رسخها النظام السابق. وما يحدث الآن هو اتساع دائرة الأزمات وصولاً إلى حالة تفلت أمني واسعة.

لعل ما أطال أمد الحرب في دارفور ومنطقة جبال النوبة، إضافة إلى ارتباطها بنُظم سياسية مثل النظام السابق، هو السمات الخاصة بالإقليم الجغرافي، لذا لم يسهم تغيير النظام في تضييق نطاقها وحجمها، بل بدلاً عن حرب بين المجموعات القبلية والحكومة، تحولت بشكلٍ صارخ إلى حرب في ما بين المجموعات. ولا يُتوقّع أن يسهم الوصول إلى حكومة مدنية وديمقراطية وتحسين نظام الحوكمة، في تقليص الاقتتال، وذلك لارتباطه بجماعات مسلحة تمردت على النظام السابق ولا يزال بعضها يحمل السلاح مشكلاً كياناً عسكرياً وسياسياً خارج سلطة الدولة ولا يرضخ للمطالبات بتوقيع اتفاقات السلام. وذلك ما يجعل إمكانية إنهاء الحرب وإرساء السلام أو على أقل تقدير إدارة الصراع السياسي من دون عنف، صعب التحقيق، خصوصاً أن دارفور من ضمن أقاليم السودان التي تعاني التهديد المستمر للسلم الأهلي وتفتقر إلى الاستقرار والتنمية.


عنف انتقائي

لم يحدث تحول في ممارسة العنف السياسي، ولكنه تحول من عنف الدولة أو السلطة الذي كان يستهدف المعارضين وفئات المجتمع في ظل النظام السابق، إلى عنف المكونات الاجتماعية في ما بينها، وهو ما يحدث الآن في ظل الحكومة الانتقالية ولا تراه الإدانات المدبجة هاجساً مؤرقاً بحجم عنف السلطة مما يحوّله إلى حالة من العنف الانتقائي. والفرق هو في أن هذه المكونات تمارس عنفها ضد الدولة بمؤسساتها الاقتصادية والتخريب وإتلاف الممتلكات وإعاقة النمو الاقتصادي وزعزعة الاستقرار، وما يمكن أن ينتج عنه من آثار سلبية إقليمية أو دولية. بالإضافة إلى اتساع رقعة الفقر المصاحب للنازحين من مناطق النزاع، خصوصاً في حالة عدم استجابة الدولة لحسم النزاع أو عجزها عن ذلك.

الآن وعلى الرغم من المكاسب على صعيد الحريات الفردية بعد الثورة، فإن التجربة السياسية الحالية وقبل أن تبلغ الديمقراطية منتهاها، يطغى عليها العنف السياسي بالإضافة إلى مشاكل الفساد والخلل الاقتصادي. ونظراً إلى الاعتقاد القائل بأن العنف السياسي الحالي هو امتداد لممارسة السلطة السابقة، فإن تيارات الإسلام السياسي تبدو مترقبةً انفراط عقد الأمن نهائياً للقفز على السلطة مرة أخرى، وظهر ذلك في إعادة الترويج لأحاديث رجال السلطة في النظام السابق وعلى رأسهم عمر البشير، التي كانوا يحذرون فيها من أن البلاد بعد الثورة سيكون مصيرها مثل مصير سوريا وليبيا. وتبدو هذه التيارات هنا مطمئنة إلى العلاقة بين الجيش والسياسة في السودان، ففي ضوء أي حراك سياسي ستستفيد من حالة الوفاق الخفية بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، ولن تفلح عمليات لجنة إزالة التمكين التي تحاول تصفية المؤسسات الحكومية من أعضاء النظام السابق، على الرغم مما في التصفيات من تجاوزات ترقى أيضاً إلى الدخول في باب العنف الانتقائي.

المزيد من تحلیل