Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جيل بيالو يوثق أشهر كورونا الأولى في فرنسا: لم نكن مستعدين

رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى تينون في باريس يتحدث في يومياته عن مواجه القطاع الطبي لجائحة غير مسبوقة في التاريخ الحديث

رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى تينون في باريس البروفيسور جيل بيالو (أ ف ب)

في 9 يناير (كانون الثاني) 2020، وصلت رسالة إلكترونية إلى رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى تينون في باريس البروفيسور جيل بيالو، لتخبره بأن فيروساً جديداً غادر ووهان في الصين وقد وصل بالفعل إلى هونغ كونغ، وهو فيروس يمتلك خاصية الانتقال السريع إلى كل مكان على سطح هذا الكوكب.

منذ تلك اللحظة راح البروفيسور بيالو يبحث مع فريقه عن أسرار الفيروس الغامض ويوثق بالقلم والورقة كل ما يحدث في مستشفى تينون، وكان من أولويات البحث العثور على المريض رقم صفر. وقد جمع كل كتاباته الموثقة في كتابه "لم نكن مستعدين ـ يوميات في زمن فيروس كورونا"، الذي صدر في أغسطس (آب) 2020 عن دار نشر "JC Lattes" واستطاع أن يحقق حتى الآن نجاحاً كبيراً في المكتبات الفرنسية. 

ملامح الأزمة

بدأ بيالو توثيقه من صباح يوم 30 ديسمبر (كانون الأول) 2019، مع عودة كارلوس غصن إلى لبنان وهو الخبر الذي كان مسيطراً على القنوات الإخبارية التلفزيونية في كل العالم، وفي فرنسا كانت الجهات المتخصصة تعمل على قدم وساق من أجل تشديد الإجراءات الأمنية في المدن الكبرى عشية رأس السنة. لقد كانت شهوراً مرهقة مع "السترات الصفراء" وعلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يؤكد في هذه الليلة خططه الإصلاحية وطموح حكومته الجدي أمام الفرنسيين. 

وتابع مستعرضاً الأوضاع في ذلك الوقت في بلدان أخرى من العالم، حيث لكل بلد قضاياه ومشكلاته التي تؤرقه، وأكد باختصار أنه ومع نهاية عام 2019 وبداية عام 2020 لم تكن الدول جاهزة لكارثة جديدة، فالجميع غارقون في الفوضى، ولم يكن أحد ليتوقع أن ميكروباً يبلغ قطره 125 نانومتراً، غير مرئي ولم يره أحد، يترك عالم الحيوان ويأتي ليغزونا فيزيد من ارتباكنا. 

قبل أزمة "كوفيد-19" كان مستشفى تينون يعيش أزمته الخاصة. لقد شارك موظفوه وأطباؤه في تظاهرة غاضبة يوم 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 في باريس، طالبوا فيها بتحسين ظروف العمل في القطاع الصحي وتعديل ظروفهم الشخصية كموظفين حكوميين.

وهنا أيضاً لم يكن أحد ليتوقع أن هؤلاء الغاضبين سيكونون جيش فرنسا القوي والصامد في المعركة المقبلة، وسيعملون ليلاً ونهاراً في ظل نظام صحي سيء، وهم يفتقرون إلى الأقنعة الطبية والبدلات العازلة والحقن وأجهزة التنفس وغيرها من المستلزمات الضرورية، وسيتعين عليهم إعادة فتح أسرّة القسم تحت ضغط الفيروس القادم من الصين.

إن العاملين في إدارة المستشفى وأطباءه والذين كانوا حتى تلك اللحظة في حال نزاع، سوف يتعاضدون ويلتصقون بعضهم ببعض كما لم يحدث من قبل، من أجل الوقوف في وجه جائحة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وكما هو الحال في كل الحروب الفظيعة كان هؤلاء يكافحون ويناضلون بشجاعة وتفان عظيمين، معتمدين على أنفسهم فقط، مع العلم أنه لم يسبق ولا لأي واحد منهم أن تلقى تدريباً يؤهله لخوض مثل هذه المعركة. 

وبالنسبة إلى بيالو فإن بداية الكارثة ظهرت في فترة بعد الظهر من اليوم ذاته، عندما وصلت رسالة إلكترونية من الجمعية الدولية للأمراض المعدية تنبه إلى إصابة 10 أشخاص في الصين بالالتهاب الرئوي غير المعتاد، وربما الفيروسي. وكانت المعادلة: 10 حالات من أصل 1.38 مليار ساكن... وماذا في ذلك؟ إلا أن البروفيسور أرنو فونتانيت الذي يترأس وحدة الأمراض الوبائية الناشئة في معهد باستور، وهو من الذين يقدمون المشورة لرئيس الجمهورية الفرنسية في إطار المجلس العلمي، وجد في الرسالة تهديداً حقيقياً قادماً وراح يتقصى عن الموضوع، وبتاريخ 16 يناير 2020، طلب تنظيم اجتماع للباحثين في المعهد عقد بعد أيام. 

أما من الجانب الصيني فقد اكتشف مدير غرفة الطوارئ في مستشفى ووهان المركزي الدكتور آي فين اكتشافاً مزعجاً، لعدة أسابيع تم علاج العديد من المرضى من عدوى غريبة في الرئة، في حين نبه الدكتور لي وين ليانغ، طبيب العيون في مستشفى ووهان، زملاءه في نقاش عبر الإنترنت إلى مخاطر هذا الفيروس الجديد الذي يمكن مقارنته بحسب قوله بـ "السارس" عام 2003، وما كان من السلطات الصينية إلا أن اعتقلته في اليوم التالي بتهمة نشر معلومات خاطئة ومضللة.

ورأى بيالو حقيقة أن مدينة ووهان الصينية لم تكن بهذه الشهرة قبل أن تصبح موطناً لكورونا، وكطبيب للأمراض المعدية شاهد سوق ووهان للمأكولات البحرية، ويستطيع تخيل كيف يمكن أن تنتشر الأمراض الحيوانية المصدر في الهواء الطلق في هذا السوق الأشبه بحديقة للحيوان. 

المعركة الفرنسية ضد كورونا

يقول البروفيسور في كتابه "إنها معركة المستشفى العام ضد الأزمة الصحية. نكتشف كل يوم عدم قدرتنا على إدارة هذا الوباء سلفاً. وفوق كل شيء إدارة النقص في احتياط الموظفين في الخدمات التي كانت تعاني بالفعل ضغوطاً قبل الأزمة". 

وواحدة من أكثر الأخطاء التي أكد مدى آثارها الكارثية على مواجهة الموقف في فرنسا هي عندما نشرت المديرية العامة للصحة علناً أن أي قناع يمكنه أن يحمي من عدوى انتقال الفيروس، وبالتالي صار ممكناً استخدام أقنعة "FFP2" من قبل الموظفين المسؤولين عن المرضى الذين تظهر عليهم علامات عدوى الجهاز التنفسي، ومن هنا جاءت أزمة الأزمات. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويؤكد، "لقد جعلنا فيروس كوفيد-19 على دراية بعدم قدرتنا على إعادة إنتاج قواعد النظافة التي تم تعلمها على مر العصور بشكل صحيح. من جهة أخرى، كان المد لا يرحم، فقد تسلل الفيروس الموجود بيننا بالفعل إلى جميع المستشفيات مع أو من دون إنعاش، مع أو من دون مساعدة طبية، بما في ذلك مراكز غسل الكلى ودور رعاية المسنين. كان يكفي لمنحنا الإذن لنفحصها بشكل أكبر للعثور عليها كامنة في ظلال أمراض أخرى".

من الناحية العلاجية، يذكر البروفيسور كيف أنهم استخدموا كل ما يمكن استخدامه من أدوية في مثل هذه الحالات. ببساطة لم يكونوا متيقنين من العلاج الصحيح ولم يفضلوا مساراً على آخر. لقد جربوا كل شيء. 

أيضاً، يحكي البروفيسور عن الصعوبات التي واجهت الفرق الطبية والمرضى على الصعيد النفسي، وعلى سبيل المثال يذكر كيف ماتت سيدة مصابة بالسرطان وحيدة في المستشفى بعد إصابتها بفيروس كورونا، مبيناً أن ما هو مفهوم وضروري صحياً لا يمكن استيعابه إنسانياً، حتى إن بعض العائلات اعتدت بالشتائم على الطاقم الطبي الذي كان يبذل أقصى ما باستطاعته، مع تهديدات عنيفة ومخيفة بسبب عدم السماح بالدخول لها لرؤية أقاربها ومحبيها. 

بُعد آخر لبداية الأزمة

في 25 مايو (أيار) 2020، كان البروفيسور يأخذ استشارات من المرضى. اتصل به المدعو "H" ليس من أجل متابعته المعتادة وإنما لاستشارته بما حدث لصديقته الموسيقية التي هي جزء من فرقة معظمها من سكان منطقة واز شمال فرنسا، أقامت سلسلة حفلات موسيقية في الصين بدءاً من 27 ديسمبر 2019.

41 شخصاً جابوا الصين من الشمال إلى الجنوب، من تشنغندو إلى بكين عبر تشنغتو، مهد السارس في عام 2003. تبدو كخريطة لانتشار "كوفيد-19"، وكان جزء من الجوقة مريض، وحتى المرشدة الصينية كانت مريضة واضطرت إلى ارتداء قناع خلعته أثناء الرحلات والمحادثات الطويلة. 

وبالنسبة إلى مغنية سوبرانو، صديقة H،  فقد عبروا العديد من المناطق التي سيثبت أنها مستوطنة لـ "كوفيد-19" بعد بضعة أسابيع. وهذا حدث قبل تحذير منظمة الصحة العالمية بوقت طويل. سعال على الطائرة ومعظم الموسيقيين والمغنين والمتفرجين لم يرتدوا الأقنعة خلال هذه الحفلات.

انتهت جولة الفرقة في 8 يناير 2020 أي قبل ثمانية أسابيع تقريباً من إعلان الحالة الأولى في واز، وهو أستاذ للتكنولوجيا، وهي أول حالة وفاة فرنسية، وقبل أسابيع من إصابة عميل مدني في قاعدة كري الجوية. 

هنا بدأ البروفيسور ليس فقط بالتشكيك في حقيقة الحالة رقم صفر في فرنسا، وإنما بإثارة العديد من الأسئلة حول وجود إصابات أخرى سابقة مات بعضها ولم يكن معروف وقتها أنه بسبب الإصابة بـ "كوفيد-19"، ومن وجهة نظره يعتقد بضرورة تعقب هؤلاء الأشخاص الذين ربما كانوا أول تجمع مصاب في فرنسا. 

وبالفعل حاول بيالو تتبع أثرهم بعد وصولهم من رحلتهم في الصين، لكن للأسف لم يحصل على ما يريد، فالخوف من أن يجد هؤلاء الموسيقيون والمغنون أنفسهم مسؤولين أمام جيرانهم وزملائهم وعائلاتهم عن وفاة 359 شخص في منطقة واز ليس بالأمر السهل!

ماذا بعد؟

آخر يوم في السجل التوثيقي للبروفيسور بيالو كان 31 مايو 2020. لقد اضطر للتوقف عن التوثيق، ففي وقت ما سيتعين عليك إغلاقه لأنك لم تجد بعد نهاية "كوفيد-19". كتب هذه اليوميات بأمانة طبيب عاش المعركة على حقيقتها الصعبة، وكان من أوائل وأشرس الجنود المدافعين في فرنسا. 

اقرأ المزيد

المزيد من كتب