Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التعصب الرياضي يدمر نسيج المجتمع المصري

الأجواء العامة ملتهبة والمشاعر الشعبية هائجة وما بدا أنه تشجيع تحول إلى عصبية وقبلية كروية

التعصب الكروي يؤدي إلى اشتباكات عنيفة بين المشجعين   (أ ف ب)

الزمالك يُصعد ضد الأهلي والأخير يرد. الأهلي ينتفض على إهانة الزمالك والجماهير غاضبة. الإعلامي الشهير ينفعل على الهواء ويسب نادي القلعة الحمراء ويسعد جماهير نظيرتها البيضاء. الصحافي المعروف يندد بتحركات الأول ويطالب بالتحقيق ويحوز دعم جماهير الشياطين الحمر. الأهلي فوق الجميع. الزمالك مدرسة لعب وفن وهندسة.

في خضم هذا الزخم الذي يصل إلى الالتهاب والاحتقان والفوران، يأتي من يوحد بين الصفوف ويساوي بين الرؤوس، فيقول إن "الكرة لهوٌ حرام" أو يؤكد أن "مصر فوق الجميع" أو يدعو إلى إيقاف المباريات والمسابقات لحين تدريب الجماهير العريضة وروابط المشجعين العتيدة على أصول التشجيع من دون فتنة والدعم والمساندة والمعاضدة من دون إشعال النار في أرجاء البلاد.

غرق حتى الثمالة

أرجاء البلاد ومعها الأثير العنكبوتي وقبله أثير الشاشات التلفزيونية غارقة حتى الثمالة حالياً في معضلة "السلوك غير المنضبط والمدمر الذي يرتكبه البعض أثناء الأحداث الكروية". تعريف التعصب الكروي الذي يلحق الضرر بالمجتمعات آخذ في التغير والتطور. ساحة المشاركة في "السلوك غير المنضبط" صارت تتسع لغير المشجعين واللاعبين. وبات يضلع فيها مراقبون ومحللون ومدققون وإعلاميون وآخرون. حتى أنصاف المشجعين ممن لا يمكن وصفهم بـ"محبي الكرة" أو عشاقها أو المهووسين بها دخلوا على خط "السلوك غير المنضبط" الذي يغذيه ويقويه ويمده بعنفوان افتراضي أثير منصات التواصل الاجتماعي الحافلة لدرجة التخمة هذه الساعات بكم مذهل من التغريد والتدوين والصور والفيديوهات والتحليلات والتعليقات والاجتهادات والافتراءات والتهدئات، التي يدور جميعها حول قطبي الكرة المصرية؛ الأهلي والزمالك.

 الأجواء العامة ملتهبة. والمشاعر الشعبية هائجة. وما بدا أنه تشجيع تحول إلى عصبية وقبلية كروية. وما كان حتى أيام قليلة مضت زخماً في التشجيع وحيوية في التحفيز تحول إلى استقطابات وتحزبات واستدعاء للنعرات الكروية كأنها دفاع عن قومية أو ذود عن هوية.

الهوية الكروية

هويات ملايين المصريين لا تحددها فقط الاسم والنوع وخانة الديانة المتجادل عليها، بل تحددها خانة غير مكتوبة لكنها أمر واقع. "أهلاوي ولا زملكاوي؟" هو أحد الأسئلة الشائعة في بدايات التعارف والتقارب بل وأحياناً في مقابلات العمل والاختبارات الشفهية ولو من باب إذابة الجليد. لكن التاريخ الحديث يخبر الجميع أن الانتماء الكروي ثنائي القطب أحياناً يخرج عن السيطرة ويتحول من تشجيع وولاء إلى شقاق وعراك.

المعركة المشتعلة حالياً بين منظومتي الأهلي والزمالك على خلفية أحداث تتويج الزمالك بدرع الدوري حلقة في سلسلة. فقد نشبت معركة كلامية بين قائد الفريق محمود عبد الرازق المعروف بـ"شيكابالا" ورئيس اتحاد الكرة أحمد مجاهد، واتهام وجهه الأول إلى الثاني بأنه "أهلاوي" ولذلك لا يريد لأعضاء فريق الزمالك وأسرهم الاحتفال، وهو ما أدى إلى حرب كلامية وافتراضية شعواء على شاشات التلفزيون وأثير الشبكة العنكبوتية وفي التجمعات الشعبية والاجتماعية.

 قبلها كانت هناك سلسلة من الخلافات والاختلافات التي استثمرها الإعلام ونشطاء منصات التواصل الاجتماعي للظهور وتحقيق المشاهدة وعمل الترند. ففي يوليو (تموز) الماضي أعلنت اللجنة المكلفة إدارة نادي الزمالك سحب التهنئة المقدمة منه إلى النادي الأهلي بعد فوزه بدوري أبطال أفريقيا "واعتبارها كأن لم تكن"، اعتراضاً على "عدم مهنية صفحات الأهلي الرسمية في تناول خبر التهنئة".

مسيرة التهاني والمعارك

معارك وأحداث شغب واحتقانات وتوترات عديدة شهدتها المسيرة الكروية الممتدة لأكثر من قرن بين جماهير الناديين، وأحياناً لاعبيهما وإدارييهما ورئيسي نادييهما. ويمكن القول إن هذه التوترات التي يتخذ بعضها شكلاً من أشكال العنف تحدث في العديد من دول العالم، حيث الشعوب المشبعة بحب الرياضة ومتابعتها، لكن تختلف الدرجات ويتراوح المدى بين "محدود تمت السيطرة عليه وتوقيع العقوبات على المعتدين" و"خارج السيطرة حيث وقوع مصابين وربما قتلى وحدوث خسائر". لكن انتقال المعارك الدامية من أثير الشارع والاستاد ومقاهي وأماكن التشجيع حيث يفترض أن تتدخل قوات حفظ الأمن وإنفاذ القانون إلى أثير منصات التواصل الاجتماعي وكذلك أثير التلفزيون وغيره من المنصات الإعلامية صعد بالخلافات الكروية إلى مستوى آخر تماماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

آخر ما يتذكره المصريون من قدرات فائقة الدمار لأمن المجتمعات وسلامها الاجتماعي هو ضلوع مجموعات "ألتراس" (روابط مشجعي الكرة) وعلى رأسها "الأهلاوي" و"الزمالكاوي" في الحياة السياسية والأمنية في مصر في السنوات التالية لأحداث يناير (كانون الثاني) 2011.

الأكثر شعبية

هواية متابعة وتشجيع كرة القدم، وهي الأكثر شعبية والأوسع انتشاراً والأعتى جمهوراً بين المراهقين والشباب في مصر تحولت إلى حراك اجتماعي ونفسي، سرعان ما تلون بألوان السياسة وتحزباتها؛ مجموعات الصبية والشباب الذين كانوا ينظمون أنفسهم لحضور مباراة هنا أو تشجيع فريق هناك دأبوا على إثارة الشغب المتعارف عليه حيناً أو تأخذهم حماسة التشجيع مرات أو يحيدون عن الالتزام بقواعد حضور الاستاد، حتى كانت أحداث بورسعيد الدامية. في 1 فبراير (شباط) عام 2012، وراح ضحيتها 72 مراهقاً وشاباً من ألتراس النادي الأهلي في حادثة هي الأسوأ في تاريخ الرياضة المصرية.

سلسلة دامية

بعدها شهدت المدرجات سلسلة من الأحداث الدامية عام 2013 شملت قيام ألتراس الأهلي بإشعال النار في مدرجات ملعب الجيش في برج العرب بالألعاب النارية والصواريخ في مباراة الأهلي أمام "توسكر" الكيني. وفي عام 2015 وقعت مأساة أخرى معروفة بـ"أحداث استاد الدفاع الجوي" حيث قُتِل 20 مشجعاً من نادي الزمالك بعد حدوث تدافع وأعمال شغب. وأثبتت التحقيقات حينها أن جماعة الإخوان المسلمين تقف وراء الأحداث، إذ استغلت علاقتها بقيادات في ألتراس "وايت نايتس" (مشجعي الزمالك) بهدف "هدم دعائم الاستقرار في مصر"، الذي يحدث بطرق عديدة.

تحول التشجيع الكروي والتعبير عن الانتماء والولاء بين مشجعي الفرق المتنافسة إلى تعصب وشتائم واتهامات وعنصرية من شأنه أيضاً أن يهدم دعائم الاستقرار، ليس فقط عبر القيام بأعمال شغب وحرق الممتلكات والاعتداء على الأرواح، ولكن عبر القيام بأعمال شغب عنكبوتية وحرق أواصر المواطنة والاعتداء على الآخرين باللفظ والاتهامات وغيرها. الاستقطاب الحاد وإحداث الفرقة والخصومة بين جموع المواطنين بسبب السياسة أو الفروق الاجتماعية والاقتصادية أو الرياضة من شأنه أن يخرب المجتمع، أي مجتمع. كما يؤكد الباحث في علم الاجتماع أحمد مصطفى.

ميل مستجد للعصبية

المجتمع المصري ظل لعقود طويلة غير مصنف باعتباره مجتمعاً مائلاً إلى التعصب أو يسهل جره إلى الفتنة، باستثناء بعض النزاعات القبلية المحدودة، لا سيما في صعيد مصر. لكن أحداث السنوات العشر الماضية السياسية والدينية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية ومعها الكروية، وما تحمله من عوامل الاستقطاب الشديد ألقت بظلال وخيمة على المجتمع.

الظلال الوخيمة يراها البعض حاضرة في معارك كانت لفظية تنشب بين "قطبي" كل المجالات منذ عشرات السنين. فريد الأطرش أم عبد الحليم حافظ؟ أم كلثوم أم أسمهان؟ جمال عبد الناصر أم عصر الملكية؟ كوكاكولا أم بيبسي كولا؟ المهندسين أم مصر الجديدة؟ شبرا أم بولاق؟ الأهلي أم الزمالك؟ لكن الظلال صارت أثقل وأعنف وأكثر ميلاً إلى التجذير والربط بينها وبين السياسة والانتماء والولاء. ومع هذا التجذير أتى التخوين والتشكيك المتبادل من الجميع ضد الجميع.

لبان محشو مسامير

الناقد الرياضي المصري حسن المستكاوي كتب في مقال قبل أيام عن "تطهير الخطاب الرياضي" عن التشكيك والتخوين. "مثل قطعة لبان محشوة مسامير، يلوكها الكثير في الوسط الرياضي، هناك تشكيك بإساءات بالغة في نزاهة حكام مباريات، وفي أجهزة تقنية الفيديو (الفار)، وتشكيك في فرق تلعب مباريات ضد فرق بعينها، وفي مدربين يقودون فرقاً في المباريات، وفي عدالة اتحاد كرة القدم، وفي نزاهة إعلاميين، بينما هناك بعض الإعلاميين الذين يلعبون على مشاعر الجمهور، ويغذون التعصب بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومن يريد أسماء وأمثلة، فعليه أن يرجع إلى سجل العصر الحديث، وهو موقع التواصل الاجتماعي، فهناك سوف تجدون ما تريدون".

كتب المستكاوي هذه السطور قبل الحلقة الشهيرة للإعلامي المثير للجدل إبراهيم عيسى، الذي قفز بمؤشر التعصب والتطرف والتشدد الكروي إلى أقصى حد له، على الرغم من أن نيته كانت تناول ملف التعصب حقناً للدماء والأعصاب والوطنية. وبعدما قال عيسى "كلمتين حلوين" كما وصفها كثيرون عن مغبة التعصب الرياضي، لكنه قال كلاماً بدا متضارباً. وذكر أن التعصب الرياضي يختفي فور انتهاء المباريات في مباريات الدوري بالعالم، لكنه في مصر ممتد ولا ينتهي بانتهاء البطولة. ثم عاد وقال إن "التعصب الرياضي يمنح كرة القدم المصرية الحياة"، مشيراً "لو إحنا مش متعصبين يبقى مافيش كرة قدم أساساً في مصر"، وهو ما فسره البعض بأنه يدعم التعصب، في حين رآه آخرون توصيفاً له ينتفع منه البعض ببث الحياة والمال والشهرة في أوقات الركود، حيث لا مباريات أو سجالات أو خلافات. ووصف عيسى كرة القدم المصرية بـ"المتخلفة"، والدوري بـ"البدائي والعشوائي" و"لا يقدم فناً"، و"لولا تعصب جمهوري الأهلي والزمالك لما عاشت كرة القدم المصرية خلال السنوات الأخيرة".

القطبان ظالمان ومظلومان

السنوات الأخيرة وتعصب جماهير الفريقين "القطبين" للناديين ظالمين أو مظلومين، مع الانجراف في كيل الاتهامات للآخر بسبب الانتماء الكروي، وتصاعد النبرة والحدة بفعل منصات التواصل الاجتماعي التي توثق السمات وتسجل التغيرات الحادثة في الشخصيات عبر تغريدات وتدوينات تدعو إلى القلق من حدة الانقسامات وغلظة التحزبات وقوة الاستقطابات.

أستاذ علم الاجتماع هالة منصور، كانت قد حذرت من التعصب الكروي في أجواء ما قبل مباراة الأهلي والزمالك في نهائي دوري أفريقيا العام الماضي، محذرة من خطورة التعصب ولو كان رياضياً، لأنه يحدث نتيجة تغليب المشاعر على العقل وحساباته لدرجة تجعل المتعصب لا يرى سوى محاسن من يشجعه، رافضاً وجود الفريق المنافس من الأصل. ووصفت ذلك بـ"إلغاء العقل" وهو ما يدفع الشخص إلى التهور والعدوانية ما يؤثر سلباً في العلاقات الاجتماعية، حتى إن المشادات الكلامية تصبح مرشحة للتحول إلى تراشقات بالأيدي وربما ما هو أكثر.

تعريف التعصب

التعريف النفسي للتعصب هو "وجود أفكار مسبقة وصلبة ومنزوعة المنطق عن أي موضوع أو شخص أو فكرة. وتمتد هذه الأفكار المسبقة لتكون نقطة الانطلاق لكل التصرفات، بدءاً من تناول الوجبات اليومية مروراً بالألعاب الرياضية والفرق والأبطال وانتهاءً بالسياسة والدين. هذه الأفكار المسبقة تتسبب في الخلافات والنزاعات والانقسامات النفسية والاجتماعية لأتفه الأسباب".

أتفه الأسباب قادرة على إشعال أكبر وأفدح الشروخ في المجتمعات. يقول المستكاوي في مطالبته بـ"تطهير الخطاب الرياضي" إن "القضاء على التعصب المريض والمقيت عملية صعبة وشاقة وستستغرق زمناً، ربما يكون نصف زمن انتشار هذا المرض، فلم يعد الأمر انتماءً وحباً لفريق، وإنما تعصب وكراهية لفريق آخر. ولم تعد الندوات والشعارات القديمة مفيدة فهي تصلح لمجلة ميكي" وأضاف، "إننا أمام أسلوب غير مقبول من جيل يعيش أحوال الرياضة المصرية في كل موقف، جيل يحارب في اللعب، ويلعب حين يستوجب الأمر الجد. جيل خطابه العام مسيء، مغموس في الإساءات. يمارس التهريج، ويغيب عقول الناس ويضحك على الناس، ويتاجر بانتماءاتهم".

مطالبة المستكاوي تنص على تطهير الخطاب الرياضي لا سيما الإعلامي وتجديده، مستنداً إلى العلم وفهم القيم الرياضية وليس الآراء الانطباعية، أو تلك التي تخلط الواقع ومعاييره العلمية بآراء ومواقف دينية تنسب النصر إلى رضا السماء والهزيمة إلى العقوبة الإلهية.

يشار إلى أن رأياً "دينياً" شاع قبل سنوات، وتحديداً أثناء عام حكمت خلاله جماعة الإخوان المسلمين مصر، أشار إلى أن "الكرة لهوٌ حرام". ففي عام 2012، قال المتحدث باسم الدعوة السلفية التي يتبعها "حزب النور" السلفي، عبد المنعم الشحات، إن الإسلام لا يعترف بكرة القدم، ولا يعترف إلا بأربع رياضات هي، الرماية والسباحة وركوب الخيل ورمي النبال. وأفتى بأن كرة القدم حرام شرعاً، "فهي لعبة مأخوذة من الغرب ودخيلة على المسلمين".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات