Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أرنالدور اندريداسون يكتب الرواية البوليسية بنكهتها الإيسلاندية

 في "خفايا الليل" يكتشف التحقيق المجرم والضحية بعد 23 عاماً

الروائي الإيسلندي الشهير أرنالدور أندريداسون (صفحة الكاتب على فيسبوك)

إذا كانت ماهية الرواية البوليسية تكمن في أن حكاياتها تنويعات على  حكاية واحدة، تقوم على وجود جريمة يرتكبها مجرم مجهول، من جهة، ووجود تحقيق يهدف إلى اكتشافه من جهة ثانية، فإن كيفية سرد هذه الحكاية تختلف من رواية إلى أخرى، وهي ما يعول عليه في الرواية البوليسية، ما يجعلنا إزاء مئات الروايات لحكاية واحدة. وعلى هذه الكيفية تتوقف روائية الرواية، بمعزل عما تطرحه من أسئلة، وتعالجه من قضايا.

"خفايا الليل" هي الرواية الثانية عشرة التي تُصدرها دار "ثقافة للنشر والتوزيع" للكاتب الإيسلندي أرنالدور أندريداسون. وقد ترجمها أوليغ عوكي عن لغة وسيطة هي الفرنسية وليس عن اللغة الإيسلندية مباشرة، ما يجعل النسخة العربية ترجمة للترجمة. على أن هذه الوساطة لم تحل دون توصيل النسخة الأصلية إلى القارئ العربي نصاً وروحاً. ومعروف أن الرواية الإيسلندية البوليسية من أرقى هذا النوع من الأدب في العالم، وباتت تمثل إرثاً مهماً شارك في ترسيخه روائيون ينتمون إلى أكثر من جيل، وقد أضفوا على هذا النوع خصائص متفردة.  

لا تشذ "خفايا الليل" عن الرواية البوليسية في ماهيتها. فثمة جريمة أصلية مرتكبة فيها تتفرع منها جريمة فرعية. وثمة تحقيق يتمحور حولها يفشل في اكتشاف المجرم والعثور على الضحية، حتى إذا ما حصلت الجريمة الفرعية بعد ثلاث وعشرين سنة من ارتكاب الأصلية، يقود التحقيق فيها إلى اكتشاف المرتكب في الجريمتين. أما في كيفية القول، فللرواية خطابها الخاص بها.

حلقات ثلاث

 يشكل اكتشاف جثة على سطح مجلدة لانغيوكل من قبل مرشدة سياحية إيسلندية ومجموعة من السياح الألمان، البداية النصية للرواية، والحلقة الأولى في سلسلة من الأحداث المثيرة التي تؤدي في حلقاتها الأخيرة إلى جلاء الخفي وكشف المستور. ولعل الحلقة الثانية في هذه السلسلة تتمثل في الاتصال الهاتفي الذي تجريه الطبيبة الشرعية في المستشفى الوطني سفانهيلدور بصديقها المحقق المتقاعد كونراد لمعاينة جثة سيغورفن، وهو الذي سبق أن حقق في جريمة اختفائه منذ ثلاثين سنة دون التوصل إلى نتيجة. وتتمثل الحلقة الثالثة في اتصال مارتا رئيسة جنائية ريكيافيك بكونراد طالبة مساعدته لأن المشتبه فيه القديم/ الجديد هجاليلتن يريد التكلم إليه فقط. وهكذا، تدفع الحلقات الثلاث المحقق المتقاعد كونراد نفسه، من حيث لا يريد، إلى إعادة فتح ملف قديم، لم يتمكن من العثور على الضحية فيه والقبض على القاتل في حينه. فيقدم على فتحه بعد تردد، لعله يتحرر من شعور ملازم بالذنب، ويعوض عن تقصير مزمن.

فرضية الترابط

بين إحساسه بضجر التقاعد، وميله إلى ملء الفراغ، وشعوره بالتقصير، وتعيير زملائه له بعدم المهنية، ورغبته في الوصول إلى الحقيقة، يجد كونراد نفسه مضطراً لمجاراة التحقيق دون الغوص فيه، فيلبي دعوة الطبيبة الشرعية لمعاينة الجثة، ويمتثل لدعوة رئيسة الجنائية للتحقيق مع المشتبه فيه القديم/ الجديد هجالتلين الذي يصر على إفادته السابقة، ويدفع ببراءته مما ينسب إليه، ما يترتب عليه عدم فتح الملف. غير أن قيام هيرديس، المرأة غريبة الأطوار، بعد انتشار خبر العثور على جثة سيغورفن بطرق باب المحقق منتصف الليل، وإخباره أن رجلاً غريباً مخيفاً كان قد هدد أخاها  الصغير فيلي بالقتل منذ ثلاثين عاماً، عندما شاهده على تلة أوسكجوليد في وضع مريب، وأن أحدهم دهس الأخ بسيارته منذ سبعة أعوام، يشكل نقطة تحول في مجرى الأحداث، فيقرر كونراد الغوص في التحقيق بعد أن كان مكتفياً بمجاراته، ويفترض أن ثمة علاقة بين الجريمتين الأصلية والفرعية، ويروح يعمل على إثبات هذه الفرضية لعله ينجح حيث فشل في السابق ويضع الأمور في نصابها.

في تحقيقه، يستخدم كونراد التقنيات المعروفة، في هذا المجال، يجمع المعلومات، ويستجوب الأشخاص، ويراقب المشتبه فيهم، ويقوم بزيارات ميدانية، ثم يعمد إلى مقارنة النتائج وتحليلها واستخراج القرائن منها. وفي إطار تطبيق هذه التقنيات، يجمع كونراد المعلومات من الطبيبة الشرعية سفانهيلدور، ورئيسة الجنائية مارتا، وموظفة الأرشيف أولغا، وعالم الأرصاد الجوية فروستي. ويستجوب في الجريمة الأصلية المشتبه فيه هجاليلتن، وحبيبته السابقة سالومي، وشقيقة الضحية الأولى يورون، وزوجته السابقة ليندا، وسائق شركته ستاينر، والكاهن بيار، والنجار أغل وزوجته فريدني، والمرشد السياحي لوكاس، وقائد الكشافة هولمستن، والميكانيكي برنهارد، وغيرهم. ويستجوب، في الجريمة الفرعية، شقيقة الضحية الثانية هيرديس، وزميل العمل إنغي، وصديق الطفولة إنغفار،و فتاة المقصف إليسا، والشرطي المحقق ليو، والأشخاص الذين حقق معهم يالينا وعمر وتوماس وبرنهارد،و زوجة برنهارد السابقة جومانا، وصديق  طفولة المحقق ماغنوس، وغيرهم. ويراقب مراقبة سرية بيت المشتبه فيه برنهارد ومكان عمله. ويزور المدرسة التي تعلم فيها.

نتائج التحقيق

خلال هذه التقنيات، يقع المحقق على مجموعة من الأدوات المادية كالجيب المخصص للتضاريس والصورة المدرسية وصورة الكمبيوتر الخلفية، فتشكل نقاط استدلال له، وتضع التحقيق في المسار الصحيح، ونكتشف معه أن الميكانيكي برنهارد والمرشد السياحي لوكاس، هما من قتل الضحية الأولى سيغورفن لخلاف على عائدات تهريب المخدرات، وأن برنهارد هو من دهس الضحية الثانية فيلي لأنه خشي أن يشي به لدى مشاهدته في المقصف، على الرغم من مرور ثلاثة وعشرين عاماً، على مشاهدته في وضع مريب على تلة أوسكجوليد. وبذلك، يتحرر كونراد من عقد الإحساس بالذنب والتقصير وعدم الكفاءة. مع أنه على الرغم من ذلك، لا يفرح بما أنجز، بل يشعر بالحزن لأنه لم يستطع رفع الظلم الذي لحق ببعض المشتبه فيهم، وحين أوشك أن يفعل كان الأوان قد فات.

انطلاقاً من هذه الوقائع، تقدم "خفايا الليل" صورتين اثنتين للمحقق، الأولى إيجابية، يجسدها كونراد بدقة ملاحظته، ومثابرته، وجرأته، وهدوئه، وطول نَفَسه، واهتمامه بالتفاصيل الصغيرة. الثانية سلبية يجسدها ليو بتسرعه، وافتقاره إلى الضمير المهني، وابتزازه الشهود، وإجبارهم على قول ما يريد. وتصور الرواية، من جهة ثانية، فداحة الإحساس بالظلم من خلال شخصية هجالتلين الذي اتهم بقتل سيغورفد، وجرى اعتقاله ظلماً مرتين، جراء قيام المحقق ليو بإجبار ستاينر على الإدلاء بشهادة كاذبة وكتمان الأمر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل ما يزيد الظلم فداحةً أن المظلوم قضى قبل أن تُعلَن براءته. وتصور، من جهة ثالثة، ثقل وطأة الإحساس بالذنب الذي يعيشه المجرم، فيلازمه طيلة عمره، وينغص عليه حياته، فبرنهارد لا يتحرر من هذا الثقل إلا بإقدامه على الانتحار، ولوكاس لا يتحرر منه إلا بسقوطه في النهر. وتصور، من جهة رابعة، عذاب الضمير الناجم عن التصرف بمال الآخرين، وهو ما يعيشه النجار أغل وزوجته فريدني اللذان عثرا على مبلغ من المال في  شقة  سيغورفن السابقة، وتأخر اعترافهما بذلك حتى وقت العثور على جثته. ولعلهما أرادا بهذا الاعتراف المتأخر التخفف من عذاب الضمير، بعد فوات الأوان. وتصور، من جهة خامسة، العبء الذي يُثقل كاهل شاهد الزور واضطراره إلى عدم البوح بما فعل، وهو ما يعيشه السائق العجوز ستاينر الذي أدت شهادته، تحت وطأة التهديد، إلى اعتقال إنسان بريء وتشويه سمعته، حتى إذا ما أراد التكفير عن شهادته واحتفاظه بالسر، وهو على فراش الموت، يكون المشتبه فيه قد فارق الحياة.

وعلى الرغم من الترابط بين الوحدات السردية، وحركة البطل الرشيقة بين الخيوط المختلفة، فإن المسار العام للأحداث هو مسار كمي، تراكمي، الأمر الذي ينطبق على الحبكة الروائية والحل، في الوقت نفسه. ففي حين تتراكم الوقائع المتعلقة بالحبكة في خط أفقي، نرى أن جزئيات الحل تتضح تباعاً، بدورها، حتى جلاء الخفايا عن آخرها.   

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة