ربما كان عقد "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" الذي ضمّ عدداً من دول الإقليم المجاورة للعراق، يطرح أسئلة لها علاقة بالوضع العراقي الداخلي والإقليمي، لا سيما بعد الانسحاب الأميركي: ما السيناريوهات المحتملة للفراغ الأمني الذي تتركه الولايات المتحدة في كل حالة تدخّلت بها؟ ما موقف إيران التي تعتبر العراق أولوية أمنية وله مكانة محورية في الفكر الاستراتيجي الإيراني؟
ففي حين يحاول العراق انتهاج سياسة مستقلة بعيدة من التجاذبات الإقليمية، وإعلانه مرات عدة أنه لن يكون ساحة لإطلاق هجمات من أطراف ضد أخرى، وكان ذلك في خضم التوترات بين إيران والولايات المتحدة خلال فترة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي شهدت إطلاق هجمات صاروخية عدة على قواعد تضم قوات أميركية، اغتيل قائد فيلق القدس على أراضيه.
في النهاية، أدت التوترات إلى الضغط من قبل الجماعات المرتبطة بطهران على رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي من أجل إجلاء القوات الأميركية من البلاد، وجرى الاتفاق بين واشنطن وبغداد على انسحاب القوات الأميركية القتالية بنهاية العام الحالي.
الانسحابات الأميركية من المنطقة، لا سيما في الدول التي تدخلت فيها بهدف بناء نظام سياسي جديد في أعقاب إطاحة النظام القديم، ومن ثمّ العمل على إعادة بناء مؤسسات وهياكل سياسية وأمنية وعسكرية جديدة، كلها كشفت في أعقاب أي انسحاب عن هشاشة ما جرى بناؤه، وأحدثت فراغاً أمنياً، سرعان ما احتلته التنظيمات والجماعات التي سبقت إطاحتها. ففي حين استولى تنظيم "داعش" على الموصل عام 2014، يتكرر المشهد منذ أسابيع قليلة بسيطرة حركة "طالبان" على أفغانستان. وقريباً سيشهد العراق استكمال انسحاب القوات الأميركية على أن يتولّى حلف "ناتو" تدريب قواته.
السيناريوهات المحتملة هنا، إما عودة تنظيم "داعش" الذي ربما يتحيّن فرصة خروج القوات الأميركية، وإما السيناريو الأكثر ترجيحاً وهو استئثار إيران بمزيد من النفوذ للسيطرة على العراق كاملاً.
والسيطرة الكاملة هنا تعني استكمال مشروع الهيمنة، ليكون شاملاً في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتكثيف الاستراتيجية الصلبة التي تقوم على تعظيم منافع الدولة الساعية للهيمنة من دون أي درجة من التشاركية مع الطرف الآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا السيناريو يتناقض تماماً مع ما سعى إليه العراق على مدار الأعوام القليلة الماضية، التي شهدت لقاءات وزيارات لرؤساء الوزراء العراقيين وشخصيات عراقية، مثل مقتدى الصدر، إلى دول خليجية، منها السعودية، وكلها تعني رغبة لديه باستعادة العلاقات العربية، ونجد كذلك التنسيق المصري- العراقي- الأردني في كثير من القضايا. وكان آخر التحركات "مؤتمر بغداد"، الذي عبّر عن رغبة عراقية بممارسة دور جديد ورغبة عربية باحتواء العراق الجديد.
بالتالي، هل يمكن أن يسهم الانسحاب الأميركي من العراق في استكمال سياسته الجديدة والعودة عربياً والبعد عن تأثير إيران وهيمنتها؟
ربما كان أهم ما يؤشر إلى السيناريو المحتمل والإرادة الإيرانية في عدم منح العراق هذه الفرصة، صورة وزير الخارجية الجديد أمير حسين عبد اللهيان، التي جاءت مخالفة للقواعد البروتوكولية، وبعد ما أثارته من رد فعل، صرّح بأن وقوفه في الصف الأول إنما تعبير عن مكانة بلده إيران.
للصورة دلالة رمزية لا يمكن أن تنفصل عن إدراك صانع القرار والنخبة الإيرانية لذاتهم ودورهم إقليمياً، فضلاً عن اعتبار العراق أهم مساحات الإقليم التي استثمرت إيران فيها كل أدوات استراتيجيتها الإقليمية، هذا عدا عن سياسة طهران الخارجية في ظل إبراهيم رئيسي الذي أعلن أنها سترتكز على دول الشرق الأوسط وآسيا.
وبالنسبة إلى إيران، لا يمكن أن تفرّغ استراتيجيتها الإقليمية من توظيف العراق وما فيه من شبكة ميليشيات استطاعت من خلال هجماتها الصاروخية دفع الولايات المتحدة إلى إخراج قواتها القتالية، وربما نقل قواعدها بعيداً من منطقة الخليج العربي إلى الأردن.
أمام تلك السيناريوهات التي ستعيق عودة العراق إقليمياً وعربياً، لا بد من مزيد من الاحتواء والاحتضان العربي، عبر دعمه اقتصادياً وسياسياً، وفتح قنوات تواصل بين الدول السنية والمؤسسات الدينية فيها والمرجعية الشيعية للعراق في النجف.