Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف ستحكم "طالبان"؟

إن توجيه دفة أفغانستان أصعب من غزوها

تكشف بسرعة مذهلة خلال بضعة أسابيع تقدم "طالبان" إلى كابول وانهيار الحكومة الأفغانية الديمقراطية. وأدى مآل تطور الأحداث المذهل ومشاهد الفوضى واليأس التي تلت، إلى سيل من الأسئلة حول السبب الذي جعل الأمور تسوء على هذا القدر من السرعة.

لكن النجاح السريع لـ"طالبان" يخبرنا أيضاً أموراً كثيرة عن التوقعات في شأن حكمها، على مستويين: اليد المطلقة إلى حد كبير في إرساء رؤيتها خلال السنوات القليلة المقبلة و[سبل معالجة] التحديات الحادة التي ستبرز مع مرور الوقت.

لقد أثبتت "طالبان" أنها المنظمة السياسية الأكثر فاعلية في أفغانستان. فطوال عقدين، وفي حين كان السياسيون الأفغان يتشاحنون وكانت الديمقراطية تتعثر، أثبتت قيم "طالبان" وتنظيمها وتماسكها أنها دائمة. ففي ظل التماسك الذي تتمتع به بفضل مفاهيمها في شأن الوحدة والهوية الأفغانية، تجاوزت "طالبان" تحولين على مستوى القيادة، وبروز تنظيم داعش [خراسان]، وحضور عسكري أميركي دام 20 سنة. وهي الآن تتولى المسؤولية ومن المرجح أن تواصل تولي المسؤولية لبعض الوقت.

لكن ذلك لا يعني أن انتصارها يضع حداً لمعاناة أفغانستان طوال 40 عاماً من الحرب وغياب الاستقرار والصدمات. فـ"طالبان" تواجه فقراً، وفتنة داخلية، ومحاصيل غير مشروعة، وجيراناً متطفلين، وتهديد التمردات المسلحة، وكلها مشاكل مستوطنة في بلادها، وأثبتت أنها لعنة لحكامها جميعاً.

تبلور منذ فترة طويلة

على الرغم من أن الاستيلاء على أفغانستان بدا سريعاً في شكل لم يمكن تخيله، كانت "طالبان" في الواقع ترسي الأساس لهجومها النهائي منذ سنوات. فمنذ عام 2014، كانت تجبر القوات الحكومية على الخروج من الريف ومراكز المناطق المحيطة وعواصم الولايات. وبحلول نهاية عام 2020، كانت كل عاصمة من عواصم الولايات في أفغانستان عرضة إلى هجوم من "طالبان".

وبدأ الهجوم الذي انتهى بسقوط كابول في مايو (أيار). واستولت "طالبان" على ما يصل إلى 50 مركزاً إقليمياً محاصراً. وكان الجنود والشرطة يفرون أحياناً، مخلفين وراءهم أسلحة ومركبات. وأحياناً وافقوا على تسليم الإقليم إلى "طالبان"، تجنباً لإراقة الدماء في مقابل الحصول على ممر آمن. وأحياناً، في حالات أكثر مما يمكن تذكرها، قاوموا – تذكروا تقارير نشرتها الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية عن مستويات مرتفعة من العنف خلال أواخر الربيع وأوائل الصيف. ومن التحركات الاستراتيجية الرئيسة التي طبقتها "طالبان" كان قطع الطرق أو المعابر الحدودية إلى مدن رئيسة: كانت المدن الرئيسة كلها تقريباً مطوقة في الوقت الذي بدأ فيه الهجوم.

وفي الأسبوع الأخير من يوليو (تموز)، بدأت "طالبان" هجمات كبرى على هيرات وقندهار وعاصمة ولاية هلمند لشكر كاه. ووصف ضابط أفغاني كان على الأرض في لشكر كاه –وهو محارب قديم [متمرس] لـ20 سنة– القتال في أوائل أغسطس (آب) بأنه أشد قتال شهده يوماً. ومع استعار هذه المعارك، شنت "طالبان" هجمات جديدة على عواصم ولايات أخرى. وسقطت زرنج، الواقعة على الحدود الإيرانية، أولاً ومن دون قتال؛ تلتها شبرغان في الشمال؛ ثم قندوز، أيضاً في الشمال، حيث كانت القوات الحكومية تقاتل منذ ست سنوات. وسرعان ما سقطت عواصم الولايات في الشمال في يدي "طالبان".

ومن هناك، تطورت الأحداث بسرعة البرق. مع استسلام عواصم الولايات يمنة ويسرة، قرر الجنود والقادة الفرار، أو الاستسلام، أو الاختباء بدلاً من القتال حتى الموت. كان في مقدورهم أن يروا اتجاه هبوب الريح [منحى تطور الأمور]. وفي 12 أغسطس، اخترقت "طالبان" الخطوط الحكومية في هيرات وقندهار واستولت على مركزي المدينتين. واستسلمت مزار شريف، جوهرة التاج في الشمال، في 14 أغسطس. واليوم التالي، بدا أن القوات الحكومية، بما في ذلك قواتها الخاصة المتفاخرة، انسحبت من محيط كابول وتركت "طالبان" تدخل. واختفى الرئيس أشرف غني إلى المنفى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ليس الانهيار الذي يبدو تلقائياً غير مسبوق بأي حال من الأحوال في التاريخ الأفغاني. فكما يشرح الخبير في الأنثروبولوجيا، توماس بارفيلد، لطالما تسببت الهزائم في الولايات بالانفراط السريع للأنظمة الأفغانية، فالمؤيدون يغيرون ولاءهم أو يلقون السلاح بدلاً من القتال حتى الموت. ويُعَد كل من الصعود الأولي لـ"طالبان" إلى السلطة، في التسعينيات، وسقوط "طالبان" عام 2001، مثالاً على هذه الظاهرة.

"لم يكن أمامهم خيار"

تعني سرعة انتصار "طالبان" ومداه أن "طالبان" تملك الآن سبباً أقل لمشاركة السلطة مقارنة بإعلانها علناً إعادة إرساء الإمارة الإسلامية. فانتصارها وضعها في موقع يسمح لها بنزع سلاح الأغلبية العظمى من خصومها، مثلما تفعل الآن؛ وأي أطراف سياسية فاعلة تفاوض الحركة الآن على تركيبة الحكومة الجديدة، مثل الرئيس السابق حامد كرزاي والرئيس التنفيذي السابق عبد الله عبد الله، هي في موقع ضعف ومكرهة في مرمى "فوهة بندقية" طالبان. وشرح قائد أفغاني لماذا قبل أصحاب القرار الشماليون النظام الجديد بأن رد باقتضاب "لم يملكوا خياراً يعتد به".

مع سيطرة مهيمنة لـ"طالبان" كهذه، تتبلور الخيوط العريضة لدولة "طالبان" الجديدة. وتفيد "طالبان" بأنها تضع دستوراً جديداً للبلاد ويحل زعيم "طالبان" الملا عبد الغني برادر في كابول لمناقشة الحكومة المستقبلية مع كرزاي وعبد الله وغيرهما. وبغض النظر عما ستفضي إليه هذه المناقشات، ستكرس الحكومة الجديدة على الأرجح الشريعة الإسلامية باعتبارها الأساس الوحيد للنظام القانوني، وستركز السلطة بين يدي زعيم واحد من "طالبان"، وتشارك شطراً رمزياً من السلطة مع قادة أفغان آخرين (يشملون ربما كرزاي أو عبد الله، لكن من المرجح أكثير بكثير أن يضموا قادة دينيين وقبليين أقل شهرة يتعاطفون مع قضية طالبان). وقد يجيز الدستور الجديد إجراء انتخابات، لكنها ستُصمَّم بطريقة تحفظ سيطرة "طالبان" على الوظائف الرئيسة للدولة.

وفي مسار انتصارها، وعدت "طالبان" الخصوم بأنهم لن يتعرضوا إلى أذى إذا ألقوا سلاحهم. وستواصل بالتأكيد إطلاق وعود كهذه بهدف استمالة الدعم للنظام الجديد، وقد تعرض حتى بضعة تنازلات لشراء ولاء الخصوم القدماء. لكن مدة السيطرة العسكرية لـ"طالبان" تجعل التزامات في هذه الأطر أبعد ما تكون عن المصداقية. فمع مرور الوقت، سيكون لدى قادة "طالبان" سبب أقل لاستخدام قوتهم العسكرية لتعزيز السيطرة واحتكارها.

وبين انتصار "طالبان" أيضاً درجة من التماسك من المرجح أن تستمر. فلطالما كان من الصعب معرفة مقدار وحدة "طالبان" على وجه التمام: هي تتألف من حركة "طالبان" الرئيسة في جنوب أفغانستان، وشبكة حقاني من شرق أفغانستان، ومجموعة متنوعة من الجماعات القبلية والكوادر العسكرية الأصغر ذات الصلة. ويعكس الهجوم المنسق في مختلف أنحاء أفغانستان التعاون والتماسك بين هذه الجماعات المختلفة. وخلافاً للمجاهدين عام 1989، لم تتفكك "طالبان" إلى فصائل متنازعة أثناء انسحاب المحتل الأجنبي. وفي الواقع، كانت الحكومة السابقة هي التي عانت من الانقسام (ولا سيما بين غني، المدعوم من البشتون الشرقيين، وعبد الله وقادة شماليين آخرين). وفي الأسبوع السابق لانهيار الحكومة، كان القادة الشماليون يقولون للمسؤولين الأميركيين "إن أحداً لا يرغب في الموت من أجل أشرف غني". وتبدو "طالبان" أقل عرضة إلى التفكك مما كان عليه النظام الديمقراطي.

ويجب على هذا التماسك أن يساعد "طالبان" على فرض درجة من النظام في مناطقها، ولا سيما في الولايات الجنوبية والشرقية حيث جذورها ضاربة. فالشدة وحدها لا تفسر قدرة "طالبان" على إرساء النظام. فقادة أفغان آخرون يتميزون بالوحشية أيضاً. أما الفارق فهو أن قادة "طالبان" يستطيعون ممارسة الغلظة من دون أن يقاتلوا بعضهم بعضاً. قال لي عضو في الهيئة القيادية لـ"طالبان"، شورى كويتا، عام 2019 محاضراً "إن طالبان تتبع أميراً. نظامنا نظام طاعة.... نحن لسنا مثل الأفغان الآخرين".

قد يكون من المقلق أكثر أن انتصار "طالبان" يشير إلى أن حكومتها الجديدة قد تتمتع بشعبية أكبر مقارنة بفترة حكمها السابقة بين عامي 1996 و2001. وتعني سنوات من القتال في الشمال أنها تتمتع بدرجة ما من الدعم في صفوف الطاجيك والأوزبك اللذين قمعوها في السابق. وفي المدن، يلتقط شباب حليقون الصور بتوق مع مقاتلي "طالبان"، ويبدو أن البعض في الأقل من الأفغان الحضريين المتعلمين يعملون معهم.

لعنة الحكومات الأفغانية

لكن مع أوجه القوة كلها التي ظهرت في الانتصار العسكري، ثمة تحديات وأوجه ضعف أخرى ستستمر، ومن المرجح أن تنمو مع مرور الوقت.

أولاً، يُعَد العمل السياسي القبلي والعداوات القبلية لعنة الحكومات الأفغانية كلها. وستعاني "طالبان" أيضاً في إدارتها. فلدى القبائل خصومات قديمة وهي تعطي دائماً الأولوية لأعمال الشرف الفردي [الثأر والبطولية الفردية] على حساب قبول الوساطة [والمساومة]. وحين يتعلق الأمر بمسائل الأرض والمياه، ستحاول "طالبان" إسعاد الفلاحين المفتقرين إلى أراضٍ الذين يمثلون مصدراً رئيساً للدعم الذي تحظى به الحركة، لكن هذه القرارات نفسها ستزعج القادة القبليين الذين سيُمنَون بخسارة. وحتى في ظل شريعة إسلامية، سيرغب القادة القبليون في الدفاع عن أرضهم، مصدر سبل العيش لعائلاتهم. فالصدامات القبلية والدعوات إلى الانتقام حتمية وستسبب صداعاً لـ"طالبان"، كما كانت الحال في التسعينيات.

وستعاني "طالبان" أيضاً في موازنة الضرورات المتنافسة في ما يتعلق بزراعة الخشخاش. فالضرائب المفروضة على القطاع غير المشروع تشكل مصدراً رئيساً لعوائد "طالبان"، كما أن السماح بزراعة الخشخاش ولد دعماً للحركة في صفوف المزارعين الفقراء، وهذا عامل رئيس في انتصارها العسكري، فالملاذ الذي وفره هؤلاء المزارعون ساعد "طالبان" في الإطباق على مراكز الأقاليم خلال السنوات الست الماضية. وفي السلطة، ستواجه "طالبان" ضغطاً خارجياً كبيراً – قد يصدر بما في ذلك عن جيران أقوياء مثل الصين وإيران– لقمع هذه الزراعة (كما فعلت لفترة وجيزة تحت ضغط دولي عام 2000). وفي ظل الأهمية السياسية والاقتصادية للخشخاش، قد يكون لانتقاد دولي كهذا أثر هامشي.

ويعني النجاح العسكري السريع أيضاً أن "طالبان" ستخسر التمويل الدولي الذي كان من المرجح أن يستمر في التدفق، إلى حد ما في الأقل، لو أنها وصلت إلى السلطة من خلال حل سياسي بالتسوية. ولا يبدو استمرار تمويل كهذا ممكناً سياسياً لكثير من المانحين الآن. وهذا يجعل "طالبان" أكثير اعتماداً تماماً على زراعة الخشخاش وعلى التمويل من الصين.

قبل هجومها وخلاله، سعت القيادة السياسية لـ"طالبان" لتمتين علاقاتها بالعالم الخارجي. فقد زار ممثلوها باكستان وإيران وروسيا والصين، ولم يبدِ أي من هذه الدول معارضة جدية لاستيلاء "طالبان" على أفغانستان. وتُعَد الرغبة في قبول إقليمي سبباً لتجشم "طالبان" كثيراً من العناء لإظهار نفسها بمظهر الخبرة والاعتدال والحياد. لكن من المستبعد أن تواصل الحركة الحصول على دعم مستمر من القوى الإقليمية الأربع كلها، في ضوء ديناميكيات التنافس الإقليمي. وسيجد في مرحلة ما جار أو أكثر من جيران أفغانستان، على ما تظهر سوابق التاريخ، سبباً لمعارضة نظام "طالبان" وحتى لدعم قوى معارضة تقاتل لتقويضه.

وقد تتحول معارضة كهذه إلى تحدٍّ، بغض النظر عن ضعف احتمالات ذلك كما يبدو حالياً. ومن المستبعد أن تستمر سيطرة "طالبان" على أفغانستان من دون تحديات. فأحمد مسعود (ابن المقاوم الشهير أحمد شاه مسعود) وأمر الله صالح (نائب الرئيس خلال ولاية غني) يزعمان بالفعل أنهما يعيدان إشعال حركة مقاومة في وادي بنجشير. وفي ضوء أحداث الأشهر الثلاثة الأخيرة، ثمة سبب يدعو إلى التشاؤم في ما يتعلق بالتوقعات الخاصة بالرجلين. فقوى كهذه كانت في وضع قتالي أفضل قبل بضعة أشهر. وفي ذلك الوقت، تساءل مراقبون كثيرون (بمن فيهم أنا) إن كان القادة في الشمال سيحركون قواتهم للدفاع عن ولاياتهم. فلطالما أكد هؤلاء القادة للمسؤولين الأميركيين أنهم يخزنون الأسلحة ومستعدون لـ"الذهاب إلى الجبال" لخوض حرب عصابات جديدة إذا دعت الحاجة. لكن مع بعض الاستثناءات (محمد عطا، عبد الرشيد دوستم، إسماعيل خان)، كانت استجابة هؤلاء القادة وقواتهم ضعيفة. فقد كان قادة الميليشيات الشمالية على خلاف مع غني وترددوا بالتالي حين تعلق الأمر بالدفاع عنه. وفي تطور مهم بدرجة مماثلة، يملك كثير منهم الآن منازل مريحة خارج البلاد ومؤيدين تعلموا كيف يستمتعون بالحياة الحضرية، لقد أصبحوا، على حد توصيف أحد الصحافيين في كابول، "بورجوازيين". (أثناء كتابتي هذه السطور، يُقَال إن أحمد مسعود يجري محادثات مع طالبان).

وفي أفغانستان، قلما يشمل الأسلوب التقليدي للحرب مواجهة العدو وجهاً لوجه بل خوض حرب عصابات على الأرض [في الميدان]. ووجد البريطانيون والسوفيات والأميركيون –إلى جانب "طالبان" خلال توليهم السلطة المرة الماضية– أنفسهم هدفاً لحرب عصابات.

مهمة ناجزة؟

خلال السنوات الـ40 الماضية، لم يتمكن حاكم من تحقيق الاستقرار في أفغانستان. ومرت فترات أخرى بدا فيها الشعب الأفغاني مرهقاً من الحرب وبدا أن العنف انتهى: الانسحاب السوفياتي عام 1989، واستيلاء "طالبان" على البلاد للمرة الأولى عام 1996، والتدخل الأميركي عام 2001. وكل مرة، لم يطل الأمر قبل عودة العنف، مدعوماً بالانقسامات الداخلية في أفغانستان، وتضاريسها الوعرة، ومواردها الشحيحة، وجيرانها المزعجين. وتستمر اليوم العقبات نفسها أمام الحكم المستقر. وحتى لو بدت "طالبان" في وضع يسمح لها بفرض النظام، لا تزال تواجه تحديات هيكلية حقيقية.

الآن، تعيش "طالبان" في شكل مفهوم لحظة "المهمة المكتملة" [إنجاز المهمة]. لكن ثمة سبباً كافياً للاعتقاد بأن السنوات الـ40 في أفغانستان من الحرب الأهلية والصدمة ربما لم تنتهِ بعد. وفي شكل أو آخر، من المرجح أن تجد "طالبان" أن حكم أفغانستان أصعب بكثير من غزوها.

*كارتر مالكاسيان مؤلف " الحرب الأميركية في أفغانستان". وعمل كبير المستشارين لرئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دانفورد بين عامي 2015 و2019 ومسؤولاً في وزارة الخارجية الأميركية في ولاية هلمند الأفغانية بين عامي 2009 و2011.

مترجم من فورين أفيرز، آب (أغسطس) 2021

المزيد من تحلیل