Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما مؤشرات إعادة تموضع التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل؟

تصور الجماعات المتشددة الحرب ضد الإرهاب على أنها حرب دينية

مدرب عسكري أميركي يحيي جنود من مالي خلال تدريبات في بوركينا فاسو في عام 2018 (أ ف ب)

خلال خوضها الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، تحاول دول غرب أفريقيا التعامل مع التهديدات التي تعقّد أزماتها وتؤثّر سلباً في مساراتها السياسية وعلاقاتها الدولية. والواقع أن الثقة التي كانت سائدة في أن القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي نشطت في مكافحة الإرهاب في القارة السمراء، ستظل هناك ومعها القوات الدولية المشاركة وقوات الدول الأفريقية، إلى أن يعود الأمن إلى تلك المنطقة؛ بدأت تتبدد. ولفتت تشاد، التي تُعدُّ من بين الدول الأفريقية الأكثر خبرة ضمن القوات المشارِكة في "قوة دول الساحل الخمس المشتركة" المكونة من تشاد وموريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، الأنظار إلى خطورة الأمر، وإمكانية حدوث فراغ أمني سيتسبب في عودة نشاط الجماعات الإرهابية بصورةٍ أكثر قوة. ويجسّد هذا التأثير تقييم القوات التشادية التي تُعدُّ من أكثر الجيوش قدرة في منطقة الساحل، ولعبت دوراً نشطاً في عهد الرئيس السابق إدريس ديبي ضد ضربات جماعة "بوكو حرام" المتشددة ونشاطها في منطقة بحيرة تشاد.

وسحبت تشاد نصف قواتها البالغ عددها 1200 جندي كانوا يقاتلون ضمن قوات مجموعة "دول الساحل الخمس" لمكافحة التنظيمات الإرهابية، وذلك لإرسالهم إلى حدودها الشمالية مع ليبيا والسودان لنزع أسلحة المتمردين التشاديين هناك ودعوتهم للمشاركة في محادثاتٍ مع الحكومة. وتحتاج تشاد إلى قواتها هذه بالإضافة إلى الدعم الفرنسي لتتمكن من وقف هجوم المتمردين، مع تخوف من أن يتحول الصراع التشادي الداخلي إلى حرب أهلية. ومثل تشاد، تعاني دول غرب أفريقيا بشكلٍ أو بآخر من حالات عدم الاستقرار السياسي. ويُتوقع أن يتبع الانسحاب التشادي انسحاب لقوى أخرى منها فرنسا، البالغ عديد قواتها نحو 5100 جندي، ما سيسمح للتنظيمات الإرهابية بإعادة تموضعها في عدد من الدول، لا سيما منطقة الساحل.

تغيير جوهري

وبدأت أفريقيا بالانتباه إلى ضرورة محاربة الإرهاب بعد تفجير تنظيم "القاعدة" السفارتين الأميركيتين في نيروبي عاصمة كينيا، ودار السلام بتنزانيا، بيوم واحد، في 7 أغسطس (آب) 1998. بعد ذلك، وُقِّعت "اتفاقية الجزائر" لمكافحة الإرهاب في عام 1999، ثم تنامى الاهتمام بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، فوقعت الدول الأفريقية على بروتوكول اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية لمنع ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ ومكافحته في عام 2004. وعليه، تم التوافق على اعتماد استراتيجية أميركية في أفريقيا لمواجهة الإرهاب بالعمل العسكري المباشر، فأُنشِئت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) لتكون نواةً لقوة أفريقية موحدة، وأعلن تأسيسها الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش في 7 فبراير (شباط) 2007، ودخلت الخدمة بشكل كامل في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008. وعلى الرغم من مساعدة القوات الأميركية، حكومات المنطقة في صد غارات الجماعات الإرهابية ومنعها من التمركز في المناطق النائية وتكوين ملاذات آمنة لها، فإن أداءها وُصف بأنه أول تغيير جوهري في السياسة الأميركية منذ الستينيات. وفسر البعض أن تأسيس "أفريكوم" نتج عن رغبة الولايات المتحدة في مواجهة أي تحدٍّ أو تهديدٍ لمصالحها بقوات أفريقية مسلحة تحت إشرافها.
وعلى الرغم من أن لدى تنظيم "القاعدة" اهتماماً قديماً بأفريقيا، غير أنه لم يكن يشكل هاجساً للدول الأفريقية إلا بعد تفجير السفارتين الأميركيتين وإعلان الولايات المتحدة خطورته، ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ومطاردة التنظيم الذي اتخذ آلية جديدة هي تأسيس مراكز إقليمية لقياداته. وكانت منطقة غرب أفريقيا إحدى هذه القيادات. في المقابل، كان الجاذب الأكبر والمحفّز لنشاط التنظيم هو ازدياد الوجود العسكري الأميركي الذي حول القارة إلى أرض للقتال في نظر التنظيم. وبذلك تحولت منطقة الساحل إلى إحدى أهم ساحات عمليات تنظيم "القاعدة" في أفريقيا، تلا ذلك، بروز تنظيم "داعش" وانتشاره بغرب أفريقيا في عام 2014. وفي 12 مارس (آذار) 2015، أعلن "داعش" قبول بيعة "بوكو حرام".

تباين داخلي

في الواقع، لم يمكن بالإمكان تحقيق مكافحة الإرهاب من دون تكلفة عالية بالنسبة إلى الأطراف المعنية. وللعوامل الدينية والقبلية تأثير واسع في الحياة السياسية والاجتماعية في أفريقيا، وذلك بفعل تشعبها وتداخلاتها، فالقارة الأفريقية متعددة الأديان والإثنيات. وفي منطقة غرب أفريقيا تتشعب عوامل الصراع أكثر، إذ إن غالبية المسلمين مسلمون تقليديون، وعلى الرغم من أن الإسلام السياسي الراديكالي لم يجد هناك تربةً خصبةً مثلما هو الحال في شمال أفريقيا، فإن الجماعات المتشددة دخلت عنوةً ووجدت فرصةً في تأجيج المجتمعات الأفريقية في بعض البلدان التي كانت الأقلية الحاكمة فيها من المسيحيين، وصورت للمجتمعات الأفريقية أن دخول القوات الدولية هو "غزو ديني لنصرة الحكام". وبعد وصول عدد من الحكام المسلمين إلى السلطة في بلادهم مع موجة التحول الديمقراطي خلال العقد الماضي في عدد منها، مثل نيجيريا وغانا وساحل العاج والسنغال، مدفوعةً بالثقل الديموغرافي والاقتصادي والسياسي والعسكري، تحولت هذه الجماعات إلى محاربة هذه الحكومات بدعوى أنها حكومات مارقة عن الدين وموالية للغرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ونظراً إلى أن الحرب على الإرهاب تصورها هذه التنظيمات على أنها حرب دينية، فقد نبعت الفرصة للمكونات السياسية المتصارعة لاستعمال الدين كذريعة للتصفيات السياسية وأداة للعنف السياسي، وكعنصر حاسم في الصراعات القبلية. وبذلك، تطورت القضية وعمل القوات الدولية والحكومية، من محاربة الإرهاب إلى كيفية التعامل مع الفوضى المستمرة. لكن لم تستطع قوات مكافحة الإرهاب عزل الجماعات الإرهابية عن المتمردين السياسيين، وعليه لم يكن مستبعداً ما يحدث الآن من تداخل بينها وبين جماعات العنف السياسي، واستثمار حالة عدم الاستقرار وتحويل الصراع من داخل الدول إلى صراعٍ إقليمي. وعلى الرغم من التوافق بين الدول الغربية وهذه الحكومات، من خلال توحيد القوى، فإن توقع الغرب بأن هذه الدول الأفريقية ستصبح أكثر ديمقراطية، لا يزال محل شك، إذ لا يزال هناك الكثير مما يُرجى منها، بخاصة ما يتعلق بالحريات عامة وحقوق الإنسان، مما يصعِّب تحقيق عملية اندماجها في المجتمع الديمقراطي.

تباين دولي

وبالإضافة إلى الولايات المتحدة، وضع الاتحاد الأوروبي استراتيجية أمنية لمنطقة الساحل في عام 2011، وتزامنت مع بروز موجات الانتفاضات العربية في جزئها الأفريقي وامتداد تأثيرات انتفاضتي تونس وليبيا على وتيرة الأمن في الساحل الأفريقي.

وشاركت في الوجود الغربي في أفريقيا بالإضافة إلى الولايات المتحدة، كل من فرنسا وبريطانيا، إما مساهمة في قوات حفظ السلام أو عمليات عسكرية ضد دول بعينها. وعلى الرغم من أن واشنطن صرحت العام الماضي بأنها لن تسحب قواتها بالكامل من أفريقيا، فإن احتمال سحبها من الساحل الأفريقي أثار مخاوف فرنسا التي كانت القوة الغربية الرئيسة في المنطقة (5100 جندي)، فقررت تقليص مساعداتها لدولة مالي، بعد تكبدها خسائر مالية وفي الأرواح، إلا أن الولايات المتحدة طالبتها بالإبقاء على دعمها العسكري في غرب أفريقيا. وقد لا تتمكّن فرنسا من تحقيق انسحاب كامل عن مستعمراتها السابقة، لتعدد ساحات تدخلاتها، خصوصاً أنها تحاول الاستفادة من التغييرات في المنطقة وتدعمها. ومن أجل ذلك، يمكن أن تبحث عن مصادر للدعم وإقناع الاتحاد الأوروبي بضرورة السيطرة على الأزمات الأفريقية واحتمال بروز نشاط جديد للجماعات الإرهابية، ينتج عنه تنامي حالة عدم الاستقرار وتواصل نشاط تهريب السلاح والبشر والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

أما بالنسبة إلى القوى الدولية الأخرى، فقد وقفت روسيا والصين، وهما عضوان في حلف منظمة شنغهاي للتعاون والأمن الذي يُعنى بمكافحة الإرهاب، في البداية مع القوى الغربية في الحرب على الإرهاب ثم ما لبثتا أن اتخذتا طرقاً مختلفة. وكان المحرك الأول للصين هو إمكانية تأثير تنظيم "القاعدة" في المسلمين الأويغور في إقليم شينجيانغ. وضمن لها موقفها هذا وجودها الفعلي في أفريقيا لإيجاد موطئ قدم لأغراض اقتصادية واستثمارية.

تحالفات هشة

في المقابل، وعلى عكس تحالفاتها مع القوى الدولية الأخرى، تتسم تحالفات الدول الغربية خصوصاً الولايات المتحدة مع الدول الأفريقية مجتمعةً بالهشاشة، على الرغم مما تحاول أن تضفيه عليها من سمات التماسك والقوة والفاعلية في محاربة الإرهاب. ولفتت هذه الصورة إلى حقيقة أن الاتحاد الأفريقي لا يملك رؤية محددة ولا تعريفاً واضحاً للإرهاب ومسبباته. وأسهم في هذه الضبابية أن المبادرات التي أنشأها الاتحاد الأفريقي كانت تخلط بين التمرد على النظم السياسية والجماعات الإرهابية، حتى صعب الفصل بينهما. كما أن حالة النُظم الأفريقية الشبيهة بالديمقراطية والديكتاتورية، وممارسة كبت الحريات لم تمكّن القوات الغربية من فهم تعقيدات هذه المجتمعات. فمن ناحية القوات الدولية، يبرز التركيز والتشديد على التأهيل الأمني العسكري كأسلوب ومنهج في الأنماط العملياتية لمكافحة الإرهاب، بينما تعمل القوات الأفريقية على إعاقة تقدم التنظيمات الإرهابية وليس تفكيكها. ومن هنا يظهر التباين حول تصور حجم وهدف الإرهاب. وعليه فإن المنطقة تبدو مؤهلةً لتفاعل التنظيمات الإرهابية بتلاحم "الهلال الداعشي الآسيوي" مع الهلال الداعشي في منطقة الساحل ووسط أفريقيا، وهي استراتيجية يتبعها "داعش" بعد كل تحول كبير في المجال الحيوي والاستراتيجي لنشاطه. وذلك بناءً على مؤشرات عدة، هي أولاً، التطورات الأخيرة في أفغانستان، وبروز قوى جديدة آخذة في الصعود مكان الولايات المتحدة في أفغانستان، يمكن أن تعقد تحالفات مزدوجة مع "داعش" و"طالبان"، وتمكين جماعة ضد أخرى وفقاً لمصالحها. وثانياً، التصدعات العميقة بين تنظيمي "داعش" و"بوكو حرام"، مما يستلزم منه إعادة تموضعه في المنطقة بقوة أكبر وقد يكون تحت مسميات أخرى جديدة. وثالثاً، تآكل الحدود الأفريقية بفعل الجماعات المتمردة مثلما يحدث في تشاد وغيرها مما أدى إلى انسحاب قواتها من منطقة الساحل.

المزيد من تحلیل