Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركية مادلين ميلر تكتب ملحمة إغريقية برؤية عصرية

تسترجع وقائع الألياذة والأوديسه وشخصياتهما المتصارعة بنفس روائي متين

الروائية الأميركية مادلين ميلر تخوض عالم الأساطير (غيتي)

لا يبدو جلياً إن كانت رواية "سرسي" للأميركية مادلين ميلر، هي إعادة سرد للأساطير اليونانية والملاحم التي تحدثت عنها الأوديسة والإلياذة وأشعار هوميروس، أو أنها إعادة قراءة لا تخلو من التشكيك، لبعض ما ورد من روايات سواء عن أحداث تاريخية كحرب طروادة، أو عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الأحداث. وبسرد لا يخلو من الرقة تعيد ميلر في روايتها التي صدرت ترجمتها العربية عن (دار الآداب)، تشكيل شخصيات بعينها، والتشكيك بما وصلنا عنها من أضاليل أو مبالغات عبر الملاحم وصل حد الخرافة. لكن ميلر بوصفها باحثة محترفة، لا سيما في الأدب اليوناني الكلاسيكي، لا بد أنها في رواية "سرسي" انشغلت طويلاً بعملها البحثي في الملاحم الإغريقية لتبني ثيمة تظهر فيها ما خفي من مظالم  وراء المعتقدات الإغريقية وحروب الآلهة الإغريقية عبر حياة متخيلة أو ربما فيها شيء من الحقيقة عن الربة سرسي ابنة هيليوس إله الشمس. ورصدت فيها صراعات الآلهة الخالدين على حياة الفانين، لتظهر في أكثر من موقع، بل على مدار الرواية ذلك الكدح البشري الهائل الذي يقدم عليه الفانون، فيما الآلهة منشغلة بصراعاتها وبحياة بذخ مملة مضجرة لا موت فيها، وربما لا حياة بحسب سرسي.

الحياة عند الربة الإغريقية  سرسي الساحرة المنبوذة، لهي أكثر قيمة مما هي عند الآلهة، لأن فيها حقيقة الموت وإلا فهي حياة لا تحتمل. وإن كان ثمة نسوية تظهر هنا وهناك تسقطها مادلين ميلر على شخصيات عدة في الرواية، فاللافت هو سردها للمعاناة التي تولّدها الأمومة في حياة النساء حتى في زمن الإغريق. نرى ذلك في ما كابدته سرسي من معاناة ليس فقط في مخاضها، بل في تربيتها لابنها تليغونوس. نراه أيضاً في الأقدار التي عاشتها سرسي كمنبوذة لأنها لا تمتلك المقومات التي حطت من شأن ألوهيتها وكونها حورية على قدر قليل من الجمال، لا يخطب ودها الآلهة على الرغم من أنها ابنة هيليوس. تدفع ثمناً لممارستها السحر الذي حاولت من خلاله تعويض نقص القوة والحرمان العاطفي كابنة وكامرأة (بحسب ميلر)، لكن ذلك جعلها تدفع ثمناً باهظاً في عزلة المنفى، كما في المساومة التي جعلت من والدها يرضخ لمشيئة زوس في عقابها، كتعبير عن خضوعه له واستمراراً لاتفاق السلام الذي اتخذ وتمت المساومة فيه على بروميثيوس شقيق هيليوس، بسبب علاقته المتينة مع الفانين ومساعدتهم في استخدام النار وتقديره لهم.

في تلك الواقعة تُظهر ميلر الظلم الذي حاق ببروميثيوس ونفاق الآلهة الإغريقية وجبروتها، مقابل عطف سرسي على بروميثيوس وتمردها سراً على إرادة الآلهة ونفاق أعمامها وقسوتهم وهم يشاهدونه يُجلد بعنف من غير أن يحركوا ساكناً، أو يرمقوه بنظرة عطف. فأحضرت له العسل سراً وهو مكبل بالسلاسل ومسحت جراحه.

استعادة حكايات إغريقية

لعل إعادة سرد أو تشكيل الحكايات الإغريقية بقالب عصري وشعري أخاذ، هو ما طبع هذه الرواية بامتياز. لا سيما أن حبكتها الفنية مُحكمة ومشوقة بأسلوبها، على الرغم من تعداد صفحاتها التي قاربت الخمسمائة. أما الجهد الذي بذله المترجم هشام فهمي فبارز للعيان، خصوصاً أن هنالك كثيراً من التعابير القديمة التي استخدمت في السرد وكان من غير الممكن ألا تلجأ إليها ميلر دون تعريض العمل للضعف. ثيمة التمرد ورفض الظلم ومواجهته على الرغم من كل الصعاب، تحاكي زمننا الحاضر وإن على خلفية الملاحم الإغريقية، وتختار فيها مادلين ميلر شخصية نسائية هي الإلهة سرسي التي ظلمها الجميع تقريباً: الآلهة في الغالب. لذلك  تتمرد سرسي"بطلة الرواية" على الآلهة حين تلجأ للسحر لمعاقبة غريمتها سكيلا على قلب جلاوكوس البحار الفاني الذي حولته تعاويذها إلى شخص خالد ينتمي إلى عالم الخالدين، أو الآلهة. حين يحدث ذلك، يصيبه الغرور وينصرف عنها إلى حوريات أخريات ويستمتع برفاه المآدب ويستحوذ على إعجاب الجميع.

 لم تعد سرسي تحوز على اهتمامه وليس قلبه فقط. ولكن حين يقع في غرام سكيلا التي ترى فيها سرسي كل الشرور والبغضاء، وهي التي لم توفر سرسي من سخريتها ونميمتها والحط من شأنها. تقرر الأخيرة إذ ذاك أن ترمي عليها تعاويذها لتشبه حقاً من تكونه في الواقع. تتحول سكيلا تحت تأثير تعاويذ سرسي إلى وحش كريه يصدم معجبيها والمقربين. تتباهى سرسي أمام الجميع وخصوصاً أختها باسيفاي التي لا تكف عن تحقيرها هي الأخرى (كما جميع الحوريات) بأنها "هي من فعلت ذلك" وتعترف أنها لم تفعل سوى أنها كشفت من هي في الحقيقة  باستخدام مهاراتها في السحر. وبالفعل، تحولت سكيلا إلى وحش جبار يهدد البحارة والسفن، وطبقاً لهوميروس كانت وحشاً رهيباً له ستة رؤوس واثنتا عشرة ساقاً متدلية وتقبع في كهف على أحد جانبي مضيق قبالة دوامة كاريبديس. وعلى الرغم من الفعلة هذه وكشف حقيقة سكيلا، لم تتمكن سرسي من استعادة قلب جلاوكوس. وحين تعترف سرسي بفعلتها بعد أن خسرت كل شيء، تكتشف أنها ليست الوحيدة من تحوز على قدرات السحر بل جميع إخوتها، وإن كان ذلك أمر لم يُعرف إلا بعد اعترافها بتلك القدرات. ألقى هيليوس باللائمة على زوجته بيرسي ابنة أوقيانوس. وأكد أن مقدرات أولاده وبناته السحرية إرث أخذوه من أمهم.

حين تصل أنباء فعلة سرسي إلى زوس واستخدامها التعاويذ السحرية، يُستدعى هيليوس إلى حضرة زوس ويُتخذ القرار بنفي سرسي إلى جزيرة آيابا النائية لتمضي بقية حياتها وحيدة معزولة، وتُمنع أمها بيرسي من الإنجاب مجدداً كي لا تنجب لهيليوس مزيداً من السحرة.

السحر والعقاب

في جزيرة آيابا، تُطور سرسي من قدراتها في السحر أثناء عيشها هذا العقاب وبمزيد من التمرد. كما تعمل على تطوير علاجات من أعشاب مختلفة مستفيدة من تحفيز شقيقها إيتيس الذي نمت بينها وبينه علاقة استثنائية. كما تبدأ بترويض حيوانات آيابا لمزيد من تحويل عزلتها إلى فرصة لبناء القوة. فهي معرضة لمواجهة أخطار شتى وحيدة. ليس أقلها زيارات بحارة تائهين جشعين، الذين تخلصت منهم بتعاويذها إلى أن حل عليها ديدالوس الحرفي المبدع رسولاً من أختها باسيفاي تدعوها إليها لأمر طارئ، تبين في ما بعد أنها احتاجت لمهارات سرسي في السحر لتنقذ جنينها الذي حملت به من الثور المقدس. وما كان منها إلا أن تبادلت الحب مع ديدالوس أثناء إقامته القصيرة على الجزيرة، لكن هذا الحب لم يكمل بسبب التزامه العمل قسراً لدى أختها الشريرة باسيفاي حفاظاً على حياة ابنه.

تعود سرسي إلى عزلتها في آيابا لتواصل حياتها الرتيبة إلى أن يكسر أوديسيوس أمير إيتاكا هذه الرتابة مع بحارته القادمين على متن سفينة متهالكة بعد سنوات من حرب طروادة، التي ترأسها أغاممنون حاكم موكناي أكبر ممالك اليونان، بذريعة استعادة هيلين زوجة أخيه منيليوس بعد هروبها مع الأمير باريس شقيق هكتور وابن أريام حاكم طروادة. أوديسيوس صاحب حيلة حصان طروادة، يحكي لسرسي تفاصيل الحرب وحصار طروادة والصراعات التي نشبت بين القادة اليونانيين أثناء الحملة على طروادة، سيما بين أخيل وأغاممنون، لتنتهي بقتل أخيل لهكتور أمير طروادة والابن البكر لأريام، انتقاماً لأحب رفاقه على قلبه باتروكلوس. أحبت سرسي أوديسيوس وشاركته الفراش على الرغم من حبه لزوجته بنيلوبي ومدحه لشخصيتها الحكيمة وشوقه لابنه منها تليماكوس.

كانت سرسي مستعدة لأن تفعل أي شيء من أجله. ماطلته البقاء في آيابا طويلاً، وبعد مغادرته اكتشفت أنها حامل منه. أنجبت بعد مخاض عسير ابنها تليغونوس، وتذوقت معه معنى الأمومة بمشاقها وأفراحها، وعملت المستحيل كي تحميه من غضب أثينا، إلهة الحكمة والحرب وابنة زوس التي عشقت أوديسيوس. سيجت سرسي آيابا بتعويذة خاصة لتحرس ابنها من إلهة قوية كأثينا يصعب التغلب عليها من أشد الآلهة قوة، فالكل يخشى غضبها. غضبت على تليغونوس فقط لأنه ثمرة الحب الذي عاشته سرسي مع أوديسيوس، وثارت بسببه غيرة أثينا وغضبها. فهي الأخرى أحبته وحمته من غضب بوسايدن، وهو ما كان يجعل أوديسيوس يحافظ ممتناً لها وحذراً منها.

الإبن وأبوه

حين كبر ابنها تليغونوس قرر الرحيل ليتعرف إلى العالم وأبيه. بنى سراً قارباً بمساعدة هيرميز الذي حرضه على الرحيل، الذي أقامت معه سرسي علاقة لبعض الوقت لتبديد عزلتها. وعلى الرغم من محاولاتها لثني ابنها عن الرحيل، استسلمت سرسي لرغبته بالرحيل بعد أن حمّلته تحذيرات من أثينا وحذرته من مخاطر التنافس على العرش الذي قد يهدده في إيتاكا من أخيه تليماكوس، وبنيلوبي، وخاطرت بحياتها لتقابل    اترايغون، الإله الفريد من نوعه، وعقدت معه اتفاقاً لتأخذ جزءاً من ذنبه السام لبعض الوقت، ووضعته على رأس حربة ليحمي تليغونوس نفسه بها من أثينا ومن تهديدات محتملة على حياته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعود تليغونوس بعد فترة قصيرة بقاربه مع بنيلوبي وشقيقه تليماكوس بوجه كئيب وإحساس عميق بالذنب، لأنه قتل والده في عراك غير مقصود. تنمو مع الوقت علاقة ودية بين سرسي وتليماكوس تدفعه للبقاء في آيابا، على الرغم من عرض أثينا المغري في تتويجه ملكاً على إيتاكا التي هرب منها فيرفض بإصرار، في حين يقبل شقيقه تليغونوس العرض. وينتهي الأمر بسرسي بالرضوخ لمشيئة تليغونوس. بعد حين، تساوم هيليوس لوقف قرار النفي ثم ترحل مع تليماكوس الذي تنجب منه ابنتين ثم تعود إلى جزيرة آيابا لتواصل حياتها مع زوجها وابنتيها في طمأنينة العزلة، وتستقر بها الحياة هناك على جزيرة آيابا في شغف القلب ومتعة الأمومة.

لعل رواية "سرسي" قائمة على تخييل مبني أساساً على جهد بحثي هو في صلب السرد. وعلى الرغم من قدرات السرد الروائي الباهرة التي امتازت بها مادلين ميلر على مدار الرواية.

قد يقال الكثير، ويجب أن يقال عن هذه الرواية الممتعة والفذة والمثيرة للجدل التي لا تكتفي بتغذية الذائقة الأدبية للقراء، بل أيضاً ستجعل هذا النوع من السرد الأدبي كما في "عزازيل" للروائي الباحث يوسف زيدان، يرتقي إلى مقام راق وبديع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة