Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جابر عصفور يرسخ "متعة القص" انطلاقاً من 40 كتاباً

حصيلة 25 عاما من التطبيق على نصوص لكتاب من أجيال مختلفة

الناقد والمفكر المصري جابر عصفور (الدار المصرية اللبنانية)

كان من الأنسب أن يختار الناقد الأكاديمي جابر عصفور لأحدث كتبه عنوان "متعة النقد"، أو "متعة القراءة"؛ نظراً إلى أن مضمون مقدمته الضافية يصلح أن يكون نواة لدراسة وافية لصاحب كتاب "زمن الرواية" حول مصادر الشغف والمتعة، وحتى اللذة، في الإنتاج النقدي، وفي قراءة الأدب عموماً ومن ثم الكتابة عنه، باعتبارها إبداعاً موازياً.

ولكن الكتاب الذي أقصده صدر بعنوان "متعة القص" (الدار المصرية اللبنانية) في 565 صفحة، ويضم مقالات سبق أن نشرها صاحب كتاب "المرايا المتجاورة" في صحف عدة خلال الخمسة والعشرين عاماً الأخيرة. وفي المفتتح الذي يتألف من 35 صفحة، يقول عصفور عن استمتاعه بالنقد "حين أمسك بالقلم لأبدأ ما أكتبه من نقد للنص أشعر بمتعة موازية، هي متعة أن توصل إلى قارئك بعض ما أمتعَك، فأنا من الذين لا يزالون يؤمنون أن النقد كتابة عن الكتابة، وبمعنى أدق كتابة موازية للكتابة".

أجيال مختلفة

يتضمن الكتاب بعد المفتتح، قسمين، الأول "مراجعات"، والثاني "قراءات"، وكلاهما يتطرق نقدياً إلى أربعين عملاً أدبياً، لكُتَّاب من أجيال مختلفة، منهم إبراهيم عبد المجيد، وخيري شلبي، ومحمد المنسي قنديل، وعلوية صبح وجوخة الحارثي، والطيب صالح، وميسون صقر، وزكريا تامر، وطالب الرفاعي، وخليل صويلح، وعلاء الديب، وإدريس علي، ومحمد المخزنجي، وسعيد الكفراوي، ورضوى عاشور، وبشرى خلفان.

يبدأ القسم الأول من الكتاب بمقال عن كتاب "منسي... إنسان نادر الوجود على طريقته" (دار رياض الريس) للطيب صالح، وقد رأى جابر عصفور أنه لا يخلو من بعض الملامح التي ينطوي عليها العالم الروائي للطيب صالح، خصوصاً في "موسم الهجرة إلى الشمال". هو رواية - يقول عصفور- من حيث طرائق السرد وتقنياته، ومعهما عنصر التشويق الذي يدفع القارئ إلى المضي صوب النهاية، فضلاً عن عناصر السخرية والمفارقة والحس الفكاهي الذي لا ينقطع في العمل، فيذكرنا بكتابة الطيب صالح الروائية وأسلوبه اللغوي الفريد الذي يجمع ما بين ميراث الفصحى وطرائف العامية أو قفشاتها الأسلوبية. ويخلص إلى أن الكتاب ليس سيرة عن شخصية من أحب الشخصيات إلى الطيب صالح، صديقه، إنما هو سيرة ذاتية في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه... سيرة نقرأ فيها حياة الطيب صالح وذكرياته منذ عام 1953.

 قراءات ومراجعات

وبالعودة إلى "التمهيد"، نجد أن جابر عصفور يقول "ما يقدمه هذا الكتاب هو قراءات في نصوص أعجبتني، فكتبتُ عنها نوعين من الكتابة: نوع أقرب إلى المراجعة السريعة التي فرضها عليَّ مكان النشر في جرائد مثل (الحياة) اللندنية، أو (البيان) و(الاتحاد) الإماراتيتين، فضلاً عن (الأهرام) القاهرية، وكلها كتابة تخضع -للأسف- لما تفرضه الجريدة على الكاتب من عدد محدود من الأسطر التي لا ينبغي أن تتجاوز رقماً بعينه من الكلمات".

ويضيف "ولذلك تختلف هذه المراجعات عما كتبتُه تحت عنوان (قراءات)، حيث تتسع الصفحات لما أعتبره قراءة موازية لكتابة الروائي في عمله الخاص، وهذا هو ما أراه بمثابة كتابة على الكتابة، أو قراءة موازية لكتابة النص الروائي، ويقيني أن عدداً من المقالات التي جمعتها تحت عنوان (مراجعات) عن أعمال بعينها تستحق تأنياً أعمق، ومن ثم جهداً أكبر في التأمل والكتابة".

ويكشف عصفور في "التمهيد" عن أنه كتب بالإنجليزية دراسات عن رواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، و"البلدة الأخرى" لإبراهيم عبد المجيد، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، "ولكن ضاعت في الرحلة من الولايات المتحدة إلى القاهرة".

ويؤكد أن هناك أعمالاً كثيرة لأدباء عرب قرأها ولكن لم يجد الوقت الكافي للكتابة عنها، منهم: عبده خال ومحمد حسن علوان وليلى الجهني وعلي بدر وخالد خليفة وبثينة العيسى ولطيفة الدليمي وإنعام كجه جي وبنسالم حميش ومحمد برادة ومحمد الأشعري.

ويقول أيضاً "لا أقرأ النص الأدبي إلى نهايته إلا إذا شدَّني إليه، وجذبتني علاقاته الإبداعية إلى عوالمه، شريطة أن يحقق لي نوعاً من المتعة. وهذا النوع من المتعة هو ما أشعر به وأنا أبحر في عوالم القص، مفتوناً بملامحه الذاتية أو العلاقات التي تخايلني بين عناصره التكوينية، فأترك نفسي وراء ما ألمحه من خلال هذه العلاقات التي تضيف شيئاً فشيئاً إلى متعة القراءة التي تتزايد، بل تتصاعد إلى أن ينتهي النص. ولا غرابة في ذلك، فالقص الأدبي -كالنص الأدبي- حمَّال أوجه، متعدد الأبعاد الظاهرة والباطنة، وكلما ازداد عمقاً، ازدادت دواله تعدداً في المدلولات، وأحياناً إلى ما لا نهاية، فالدوال حائمة في مجرى الإبداع للنص الذي لا ينغلق على نفسه قط، بل ينفتح على مدلولات لا تنتهي، وتتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والمجموعات القرائية".

معنى المتعة

ويرى أن متعة القص توازيها متعة الكتابة عنه، والمتعة المترتبة على قراءة النص في كل الأحوال هي متعة لا تخلو من معنى اللذة الذي تحدث عنه الناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه "لذة النص"، والذي يقصد إلى نوع من اللذة لا يبتعد كثيراً عما أقصد بعنوان "متعة القص".

وكما جاء أيضاً في "التمهيد"، فإن المتعة التي يقصدها الدكتور جابر عصفور مقترنة بالنص وأقرب إلى المعنى اللغوي القديم لمعنى المتعة في المعاجم اللغوية العربية القديمة، وهي متعة تنطوي على شيء من العناصر الروحية والمعنوية والحسية في آن، موضحاً أن فهمه متعة القص ربما هو فهم يومئ إلى تمييز رولان بارت نفسه بين النص القرائي والنص الكتابي، خصوصاً حين يؤكد أن نص القراءة هو نص محدود الدلالة، يعطي القارئ ما يبتغيه من أول وهلة ولأول مرة، أما نص الكتابة فهو النص الذي تحوم دواله في مجرى سيالٍ لا يتوقف عند ضفة أو ضفاف، بل تتعدد دلالاته إلى ما لا نهاية.

ويضيف "الفارق الأساسي بين ما أقصد إليه بالنص المفتوح، وما قصد إليه رولان بارت، هو تأكيد حضور التاريخ والزمان والمكان. وبما أن القص -من حيث هو نص- لا يفارق زمن كتابته أو مكانها، فإن فعل قراءة هذا النص يرتبط بزمن هذه القراءة ومكانها على السواء. ولولا ذلك ما فهمتْ لجنة تحكيم جائزة نوبل، مثلاً، دلالات رأتها في (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، لم يرها أو يفهمها المتعصبون من رجال الأزهر وأعضاء الجماعة الإسلامية، ما دفع تلك الجماعة إلى محاولة قتله. ولولا ذلك أيضاً ما اختلفت قراءة محمود أمين العالم في كتابه (تأملات في عالم نجيب محفوظ)، سنة 1970، عن قراءة عبد العظيم أنيس لنجيب محفوظ في كتابه المشترك مع العالِم نفسه (في الثقافة المصرية) 1955. هذا الفارق هو ما يؤكد تعدد المعنى داخل النص وإمكان تعدد القراءة في أي نص مفتوح".

أصل الواقعية السحرية

وفي مقال نشر عام 1995 عن رواية "لبن العصفور"، التي استخدم فيها يوسف القعيد العامية لغة للسرد، محتذياً رواية مصطفى مشرفة "قنطرة الذي كفر"، "إلا أن النسق الشفاهي انقلب برواية القعيد إلى فعل من أفعال الأداء الشفاهي، وانقلب بالقارئ إلى مستمع، مفروض عليه أن يشارك في هذا الأداء بالانصياع إلى أنساقه السمعية لا البصرية، ومن ثم استبدال آليات الحكي الشعبي، بآليات السرد الروائي المناقضة" ص 41.

ويلاحظ عصفور في مقال عن رواية رضوى عاشور "قطعة من أوروبا"، أن مشروع هذه الكاتبة والباحثة الأكاديمية، النقدي، لا ينفصل عن مشروعها الإبداعي، فالتجاوب متصل بين خطاب مقاومة التبعية الذي تنبني عليه كتاباتها النقدية والخطاب نفسه الذي يتجسد إبداعياً في رواياتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووجد عصفور أن من المناسب وهو يكتب عن رواية "سيدات القمر" للكاتبة العمانية جوخة الحارثي أن يتطرق إلى جدل المركز والهوامش، الذي واكب حصول ترجمة هذه الرواية إلى الإنجليزية بجائزة "مان بوكر"، ليؤكد أن "أدبنا العربي بكل أنواعه، وخصوصاً الرواية، انتقل من مرحلة المركزيات التي تهيمن فيها بعض المراكز الإبداعية، ويزداد إشعاعها الضوئي في هذا النوع أو ذاك"... "وهذا القياس النقدي يختلف بالتأكيد عن القياس التقليدي المتوارث، ولا يسمح لنا بأن نطلق نعرات إقليمية تندفع هنا أو هناك بلا عقل أو منطق أو اتزان" ص 417.

ويتوقف في المقال نفسه عند الواقعية السحرية التي تجلت في "سيدات القمر"، عبر عدم اكتفاء الكاتبة بالعودة إلى الموروث الصوفي، وإنما بالانفلات من قبضة العقل المنطقي، أو المزج بين الميراث الشعبي الأسطوري، أو الخلط بين أحلام النوم وأحلام اليقظة، أو في مزجها بين علاقات المكان والزمان التي تسقط أوائلها على ثوانيها، أو في تعويذاتها السحرية التي تستدعي الكواكب لتمزج بين تأثيراتها في البشر الذين تتعلق حيواتهم وأشكال سلوكهم بهذه الكواكب وغيرها من الأفلاك. ويخلص إلى أن "الواقعية السحرية هي ميراث عربي انتقل منا إلى الآداب الأوروبية، قبل أن يشتهر بها غابريال غارثيا ماركيز".

عنصر القيمة

وفي خلاصة "التمهيد" يقول جابر عصفور "لا يمكن اكتمال الحديث عن متعة القراءة، سواء عند الناقد أو عند القارئ، دون الإشارة إلى عنصر القيمة، صحيح أن النقد المعاصر، خصوصاً منذ صعود البنيوية وما بعدها، يتجاهل عنصر القيمة، لكن هذا العنصر لا بد من إعادة الاعتبار إليه في التصور النقدي لمفهوم (متعة القراءة) الذي لا يكتمل إلا به، فالمتعة التي يشعر بها القارئ أو الناقد ليست واحدة في كل الأحوال، وتختلف درجاتها من عمل إلى آخر، ومن كاتب إلى كاتب. ولذلك لا نضع نصاً مثل (باقي من الزمن ساعة) في نفس المستوى القيمي لنص مثل (الحرافيش) لنجيب محفوظ، كما لا أضع بالقدر نفسه (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني، في المستوى نفسه لرواية (الحب في المنفى) لبهاء طاهر أو (الزيني بركات) لجمال الغيطاني، وما ينطبق على هذه الأمثلة ينطبق بالقدر نفسه على كل النصوص الروائية والسردية، وإذا لم نضع هذا العنصر في اعتبارنا، تساوت رواية دان براون (شيفرة دافنشي) ورواية (اسم الوردة) لأمبرتو إيكو.

ولعل قراءاتي للنصوص التي عرضتُ لها تبرز الفارق في القيمة والمتعة التي شعرتُ بها في نص (أداجيو) لإبراهيم عبد المجيد، ونص مثل (تذكرة وحيدة للقاهرة) لأشرف العشماوي، فالنص الأول أخلص للتجربة الإنسانية، وقوانين تشكلها الذاتي في بناء شديد الثراء، متعدد الدلالات بما يجعل منه نصاً كتابياً مفتوحاً، فيما أغوت النص الثاني توابل النص القرائي وبهاراته، فتباينت القيمة لصالح النص الأول، ومن ثم لطبيعة المتعة الكتابية التي يخلقها في قارئه، وفي الوقت نفسه غلبت الصفة القرائية على النص الثاني في حالي تلقيه وقراءته".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة