Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تأريخ صوت المرأة العربية سينمائيا

أفلام المخرجة اللبنانية شيرين أبو شقرة تقدم أرشيفاً سماعياً مصوراً لقضايا النساء

مشهد من فيلم "سليمى" ل شيرين أبو شقرة (اندبندنت عربية)

تقدم أعمال المخرجة اللبنانية شيرين أبو شقرة خلطةً فريدةً من نوعها بين الصوت والموسيقى والصورة في قالب درامي لا يعتمد (في معظم الأحوال) على السيناريوهات التقليدية في السينما. وعند مشاهدتك لأحد أفلامها، عليك أن تشحذ حواسك جيداً، وأن تهيئ ذاكرتك وتدعوها للاستعداد أيضاً، فكثير مما تقدمه هذه الفنانة الشابة، يرتبط ربما دون سابق إصرار، بذكرياتنا البعيدة أو القريبة منها.

من "سُليمى" و"لحظة أيها المجد" وصولاً إلى "What Happens to a Displaced Ant" وغيرها المزيد، تعكس المَشَاهد السينمائية تلك العلاقة القوية جداً بين ما اختبرته وعاشته أبو شقرة الحاصلة على شهادة في التاريخ والعلوم السياسية وبين الأحداث العامة الاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية والسياسية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية وسط حالة من الضياع والبحث عن الذات.

تنوع الأمكنة أثر في تنوع الموضوع والأسلوب

ومن يحظى بفرصة مشاهدة هذه الأفلام، سيتبادر إلى ذهنه السؤال حول التنوع الفني فيها وارتباطه بالتجربة الشخصية لصانعتها. وعنه تجيب أبو شقرة فتقول، "في حياتي، انتقلت بين عدة بلدان عربية وأجنبية. كل بلد ترك في نفسي أثراً عميقاً لا يمكن زواله. وهذا المزيج الثقافي والحضاري انعكس دون شك على محتوى أفلامي. لكن لا أستطيع أن أنكر أن الجذر العربي في نشأتي ظل قوياً حتى أنه صار يحاصرني لا شعورياً، مثلاً، صرت أجد نفسي أتمتم أغانٍ عربية لا أعرف من غناها ولا أذكر أنني سمعتها. وهكذا دخلت في دوامة لا تنتهي من البحث عن كل أغنية أتمتمها لأعرف مطربها وأحفظها بشكل صحيح".

وتضيف، "عشت في كل الأماكن ومع الوقت بدأت أميز ماذا أحب في كل بلد وماذا أكره فيه. إلا أن الإحساس بالمسؤولية تجاه ثقافتنا العربية لم يفارقني للحظة، على العكس تماماً، فقد كان يتجسد أمامي بطرق غريبة في كل لحظة عشتها في بلد أجنبي، الأمر الذي جعلني أرغب باستكشاف هذه الثقافة بوسائل وأساليب مختلفة".

 الانتقال بين بلد وآخر أثرى التجربة الثقافية والمعرفية لأبو شقرة وأثر في استخداماتها التقنية خلال العملية الإخراجية لكل عمل. وتؤكد أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يخضع لها الإنسان في صغره، تنعكس على خياراته الثقافية. على سبيل المثال، أتاحت لها الحياة في كندا الفرصة منذ طفولتها لاستكشاف الجانب التقني لعملية الإنتاج الدرامي، في الأقل جعلتها تميز شغفها في هذا المجال. وفي كندا أيضاً، ومن خلال المدرسة، أُغرمت أبو شقرة بالمسرح والسينما، على الرغم من أنهما كانا يُقدمان للطلاب بأساليب مبسطة جداً، إلا أنها كانت بالفعل البداية التي طورتها لاحقاً..

وبعد انتهائها من دراسة العلوم السياسية، سافرت أبو شقرة إلى شمال فرنسا، لتدرس في استوديو فرينوا للفن المعاصر. وهي تجربة تصفها بأنها شبيهة بالعثور على الفانوس السحري. ففي ذلك المكان تعلمت استخدام التقنيات في الصناعة الدرامية بصورة احترافية  جداً.. كانت تجد كل ما تريد فعله سينمائياً، عليها فقط أن تبحث وتستكشف بنفسها، وكانت تطيعها أكثر الأجهزة المتطورة عالمياً في هذا المجال.

وتحكي لنا أن الدعم المادي بالمقارنة مع مواضيع أفلامها ومتطلباتها، كان من السهل إيجاده، حيث لم يكن بالمبالغ الكبيرة والخيالية. وتبين أن كل فيلم قد خضع لظروف إنتاجية لا تشبه ظروف أي فيلم آخر. وقد ساعدت دراستها في "فيرنوا" على حصولها على ما تحتاجه من الدعم التقني من معدات وبرامج.

صوت المرأة العربية علاج روحاني

قدمت شيرين أبو شقرة أنموذجاً للصوت الأنثوي أكثر من مرة في أفلامها، ولم تستطع أن تخفي ولَعها بالأغاني العربية القديمة، تحديداً في فيلم "لحظة أيها المجد" وفي فيلم "سُليمى"، حيث قدمت في الأول الذي يعرض حالياً في معرض "الديفا" في معهد العالم العربي بباريس، السيرة الذاتية للمغنية اللبنانية "وداد" صاحبة الصوت العذب والمنسي، دخلت بيتها، تحدثت معها وسلطت الضوء على تجربتها المثيرة، في حين قدمت في "سُليمى" حياة مطربة صعدت السلم في اتجاه الشهرة، ورصدت نزولها ووحدتها وانطفاء الأضواء من حولها.

وأما السبب في هذا الاهتمام بأغاني المرأة العربية، فتفسره لنا أبو شقرة بالقول، "في فترة من فترات حياتي أصبت بمرض شديد. أجبرت وقتها على مقاطعة ما أحبه كالمسرح والرقص وغيرها من النشاطات التي تتطلب الحركة. وحدها الموسيقى بقيت دواءً لي. في مرحلة لاحقة، اكتشفت أن تلك الألحان والأغاني التي أدمنتها خلال مرضي، وأقصد الأصوات النسائية هنا، تمتلك خصائص شفائية مثبتة علمية، إذ لها تأثيرها المباشر في الأذن الوسطى وهو ما ينعكس على الحالة النفسية للإنسان.

تخيلوا أن الأغاني والموسيقى قد ساعدتني بعد المرض على تعلم بعض الكلمات التي كنت قد نسيتها وعلمتني التعبير من جديد عن مشاعري.. أذكر أيضاً أنني في فترة الانتكاسة الصحية قد فقدت الإحساس بالوقت، فالنظر إلى الساعة لم يعد يهمني.. مدة "السي دي" صارت معيار الوقت الجديد بالنسبة إلي"..

الأفكار تولد في لحظتها

لم تعتمد أبو شقرة حبكات تقليدية في أفلامها. هذه خاصية يستطيع كل مشاهد أن يدركها. وبالنسبة إليها فهي لا ترسم خطاً واضحاً منذ بداية عملها على الفيلم للأحداث المتسلسلة. بكل بساطة، هي تسمح لكل فكرة أن تستدعي التي بعدها بما تفرضه طبيعة كل فيلم وظروف تصويره وإخراجه. وتؤكد، "كل فيلم يفرض إيقاعه وطريقته. في بعض الأحيان تتحول الأغاني التي أسمعها إلى صور ومشاهد تجبرني على تصويرها وتجسيدها على أرض الواقع، أو قد تولد الأفكار في لحظتها دون تخطيط مسبق لصناعة فيلم".

لم تكن أبو شقرة تنوي صناعة فيلم عن وداد، كانت الفكرة أن تصنع فيلماً عن جغرافيا الأصوات النسائية، حيث الصحراء في صوت سميرة توفيق، والجبل في صوت صباح، والبحر في صوت الإسكندرانية بدرية السيد. "لكن ما حدث أن والدي أعطاني أغنية "تندم وحياة عيوني بتندم" فسمعتها وصار عندي فضول شديد لمعرفة من المرأة التي غنت بصوتها الرائع هذه الكلمات، بحثت ووجدت أنها وداد، الشخصية الدرامية التي جذبتني لصناعة فيلم عنها، وعلى الرغم من أنها رفضت في البداية، إلا أنني استطعت إقناعها إلى أن نسيت الكاميرا وراحت تروي قصتها كما لو أنها تعيشها من جديد".

يبدو أن عمل شيرين في بداياتها كمؤرخة، لعب دوراً كبيراً في مواضيع أفلامها. إنها اليوم كما تقول عن نفسها، مهووسة بالأرشفة، لا سيما الأرشيف السماعي الإبداعي. كذلك تؤكد ولكونها لم تدرس الأدب العربي، ولم يكن لديها الوقت ولا التجربة الكافيين لاختباره والاطلاع عليه بسبب دراستها في كندا، ترغب دوماً بتعويض ما فاتها، وبملء هذه الفجوة. لذا هي تسعى إلى تقديم محتوى سينمائي يفيض بالشعر العربي وبالأصوات العربية.

فيلم في عرض البحر

في فيلم What Happens to a Displaced Ant تطرقت أبو شقرة إلى موضوع قديم ومعاصر جداً لدرجة أنه بات يؤرق الإنسان العربي أثناء رحلات نزوحه التي يبدو أنها لم تنته.. وفيه تجمع بين العمل الوثائقي والمتخيل، بين الحقيقة وافتراض ما يمكن أن يحدث على قوارب إنقاذ اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط. هي تسلط الضوء على الحب في البحر الذي يحكي دون توقف، فهو لم يكن مكاناً لفيلمها فقط، بقدر ما كان فضاءً وبطلاً كما باقي الشخصيات والعناصر، بألوانه وأحداثه والأهم بأصواته.

وكان لا بد من أن نسألها لماذا ذهبت في اتجاه مختلف في هذا الفيلم، وخرجت من إطار التوثيق السماعي سينمائياً من أجل رصد قضية معاصرة؟ فأجابتنا موضحةً بأنها تجربة غريبة بالفعل. في البداية لم تكن تنوي العمل على هذا الفيلم إطلاقاً. وما حدث أنها ذهبت للعمل كمترجمة ثقافية على متن بواخر منظمة أطباء بلا حدود..

وتشرح، "عرفتني هذه التجربة على لغة جديدة لدي لم أكن أعرف أني أمتلكها. قبل الفيلم ومنذ بدء الثورات العربية في عام 2011، في كل مرة كنت أحاول كتابة سيناريو حول مشروعي المستقبلي وهو فيلم مستوحى من كتابات وحياة أحمد فارس الشدياق، كنت أقوم بتمزيقه في النهاية. فعلى الرغم من أني أتحدث عن القرن التاسع عشر، إلا أني أشعر بأن المسافة يجب أن تكون أطول لأتمكن من مقاربته بإحكام"..

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتكمل، "حراك الشارع العربي جعلني أتجمد في مكاني. كيف نستطيع صناعة أفلام حول مجتمع يولد من جديد؟ إلى أين سنذهب وما المفروض أن أقول؟ ولماذا الفن في الوقت الراهن؟ كلها أسئلة استوقفتني طويلاً إلى أن صعدت على متن البواخر والتقيت بالمهجرين. ولا أنكر أن كثيراً من الوقت لزمني  حتى استطعت اكتشاف جانب مذهل من العمل الإنساني الطارئ الذي يعطي نتائجه على المدى القصير، والمختلف عن العمل الإنساني الثقافي الذي تظهر نتائجه في المدى الطويل. وأدركت أنه إذا استطعنا التنسيق بين العملين، ستكون النتائج مذهلة"..

على متن البواخر، أحست أبو شقرة بأنها تقف على خط تماس شائك، كان لا بد من أن تنطق أخيراً وتروي قصة هؤلاء الذين يعانون ويغامرون بأرواحهم من أجل الحصول على حياة أفضل في رصيد المجهول. بداية الانطلاقة كانت مع مقال كتبته لمنظمة أطباء بلا حدود ترصد فيه الوضع العام، حيث دفعتها الكتابة إلى الأمام وكسرت لها حواجز كثيرة بعلاقتها مع ما يحدث الآن وهنا. بعدها صارت تمسك كاميرا الموبايل وتصور لقطات ومشاهد من هنا وهناك، دون أن تكون قد حسمت قرارها بصناعة فيلم، مع العلم أن المقاطع التي تضمنت الأشخاص على الباخرة هي من تصوير المنظمة في البداية.

وخلاصة القول هنا، إن الحالة هي من فرضت نفسها على أبو شقرة لتصنع فيلماً حول قضية تمسها هي المهاجرة بالأمس واليوم، ولربما غداً..

المزيد من سينما