Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أنا أموت ساعدوني"... نداء استغاثة من "عاصمة المخدرات" في إنجلترا

تصدرت مدينة بلاكبول معدلات الوفيات الناجمة عن المنشطات في المملكة المتحدة طوال ما يربو على عقد من الزمن. الآن، يشارك العشرات من المدمنين المتعافين في برنامج تجريبي يرمي إلى إيجاد حل لأزمة خارجة عن السيطرة، بحسب ما يكتب كولين دروري

لٌقبت بلاكبول بـ"عاصمة الموت" من قبل الصحافة البريطانية، بسبب الأعداد الكبيرة للمدمنين على المخدرات في هذه المدينة (رويترز)

مرت 15 دقيقة على مغادرة ستيفن براون مكتبه الكائن في بلاكبول Blackpool، اقترب منه واحد من متعاطي الهيروين الكثيرين في هذه المدينة الإنجليزية، الذين يقدر عددهم بنحو ألفين و400 شخص. كانت الساعة بالكاد جاوزت 11 صباحاً... لم يتبادل الرجلان أي حديث قصير مهذب.

سرعان ما استغاث الرجل بـ"ستيف" قائلاً له، "أنا أموت بهذه الطريقة. أحتاج الى المساعدة."

على هذا النحو تستهل الحياة أحد أيامها على الخط الأمامي من أزمة المخدرات الأكثر تدميراً، والأطول، في إنجلترا.

ربما تشتهر بلاكبول بأرصفتها البحرية وبرجها (المستوحى من برج إيفل في باريس) ومهرجانها السنوي للأضواء؛ ولا ننسى بحرها ورمال شاطئها وعرضها الراقص "ستريكتلي كوم دانسينغ" Strictly Come Dancing (تعال ارقص بدقة). ولكن خلف هذا الغطاء الجميل، تنوء مدينة يستشري فيها إدمان الهيروين وكراك الكوكايين (شكل من أشكال الكوكايين الصلب القابل للتدخين).

تكشف أرقام صدرت خلال الشهر الجاري أنه، للسنة الحادية عشرة على التوالي، كان منتجع لانكشير الساحلي في بلاكبول عاصمة الموت الناجم عن تعاطي المخدرات في إنجلترا وويلز. هنا، فارق 42 شخصاً الحياة بسبب المخدرات عام 2020. ويبلغ معدل وفيات المواد المخدرة 31 حالة لكل 100 ألف شخص، أي ما يساوي أربعة أضعاف المتوسط الذي يبلغه هذا الشكل من الوفيات على صعيد المملكة المتحدة برمتها.

حاضراً، تشهد بؤرة المخدرات هذه برنامجاً تجريبياً بتكلفة 4.95 ملايين جنيه إسترليني، علّه يتوصل أخيراً إلى كسر هذه الحلقة من تعاطي المواد الممنوعة والوفيات الناجمة عنها.

برنامج "أدر" Adder (مع الإشارة إلى أن ترجمتها الحرفية "الثعبان" الذي يرمز إلى الشفاء) كما سُمي، الذي تموله وزارة الداخلية في بريطانيا إنما يتولى إدارته المجلس المحلي في المدينة و"هيئة الخدمات الصحية الوطنية" ("أن أتش أس"NHS ) وجهاز الشرطة، يرمي إلى خفض أعداد الوفيات من طريق تضييق الخناق بحزم أكبر على مروجي المخدرات، وكسر سلاسل توريد هذه الممنوعات. منذ إطلاقه في يناير (كانون الثاني) الماضي، ألقت الشرطة القبض على 45 مروجاً، وضبطت مخدرات بقيمة 40 ألف جنيه إسترليني.

بيد أن هذه التجربة التي ستستمر ثلاث سنوات متتالية لا تخلو أيضاً من مبادرة فريدة من نوعها: نُشر العشرات من المدمنين السابقين، أو "فريق التجربة المعاشة" كما أُطلق عليهم، في صفوف مجتمع بلاكبول بغية العثور على الأشخاص الأكثر عرضة لخطر الموت جراء تعاطي المخدرات، والانخراط معهم، ومد يد العون لهم.

هنا يأتي دور ستيفن براون وجولاته اليومية حول بلاكبول.

عشرون سنة من حياته أمضاها متنقلاً بين السجن والعالم الخارجي قبل أن يتخلص تماماً من هذه الآفة عام 2016، متخفياً يؤدي الرجل البالغ من العمر 43 سنة دوراً استخباراتياً في الكشف عن بؤر تجمع المدمنين، والمواد المخدرة الجديدة الرائجة. نظرياً، يُقال إن في وسعه الوصول إلى المدمنين بطريقة يعجز عنها المحترفون الآخرون ببساطة. في إحدى المرات، بعدما توقف مستخدم مصاب بمرض عضال عن حضور جلسات العلاج، تعقبه براون إلى دورة مياه اتخذها مكاناً يعيش فيه، وأقنعه بالمشاركة في الاجتماعات مجدداً.

اليوم، يقول ستيفن، وله ولد وحيد، متحدثاً عن المتعاطين المستهدفين في المشروع، "يعرفون أنني كنت في مكانهم، لذا يثقون بي. يدركون أني لا أحكم عليهم لأنني قاسيت المشكلة عينها. كنت ذلك الرجل الذي يحقن المخدرات في فخذه. كانت آثار الثقوب والتقرحات الجلدية تغزو ساقي. لقد تعاطيت المخدرات مع نصف المدمنين في هذه المدينة، مرة أو أكثر".

عليه، عندما اقترب منه ذلك المدمن هذا الصباح، أدرك براون بحدسه الأهمية التي تكتسيها هذه اللحظة. عرف أنه لا بد من أن يتصرف بسرعة تجاه نداء الاستغاثة المفاجئ والعفوي الصادر من الرجل.

"يتخذ مدمن ما قراراً بطلب المساعدة، ثم يُحدد موعد له بعد أسبوعين، وربما لا يأتي قبل سنتين، ذلك أن المدمنين لا يحضرون إلى مواعيدهم تلك لأنهم يكونون، خلال فترة الانتظار لأسبوعين، قد عادوا إلى حقن أنفسهم بالمخدرات"، كما يشرح براون.

ولكن، فريق "التجربة المعاشة" يتحرك بسرعة أكبر. بموجب برنامج "أدر"، تضع المجموعة ذلك المدمن ضمن المواعيد ذات الأولوية في محاولة للاستفادة الكاملة من ساعات العلاج البالغة الأهمية. في هذه الحالة، يستعد براون لاصطحاب الرجل إلى اجتماع المساعدة المتبادلة عصر ذلك اليوم. من هناك، يمكن توفير جوانب الرعاية الشاملة كافة، من مسكن وعلاج وإرشادات.

هل سيتخلص من الإدمان؟ يجيء الرد: "يعتمد ذلك عليه. من جانبنا، نحاول أن نعطيه الفرصة الأفضل لتحقيق ذلك."

مشروع "أدر" Adder، علماً أن الاسم عبارة عن مجموعة الحروف الأولى من الكلمات التالية، الإدمان Addiction، والتحول Diversion، والانقطاع Disruption، والإنفاذ Enforcement، والتعافي Recovery، طُرح في خمسة مناطق مختلفة، هي بلاكبول Blackpool وهيستينغز Hastings، وميدلسبره Middlesbrough ، ونوريتشNorwich ، وخليج سوانزي Swansea Bay.

ينظر بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، إلى البرنامج على أنه "نهج جديد وموجه من شأنه أن يعزز الإنفاذ على الصعيد المحلي، وفي الوقت نفسه يحمل أعداداً إضافية من المدمنين على التعافي" من المخدرات.

في الحقيقة، يعزى الصراع الشديد الذي تعانيه بلاكبول بحد ذاتها مع الإدمان إلى عوامل اجتماعية وتاريخية متعددة.

أدى الانهيار الاقتصادي الذي قاسته المدينة منذ تألقها كوجهة سياحية في الفترة ما بين الحربين العالميتين (1918- 1939) إلى مستويات هائلة من الفقر. عام 2019، صنفت كأكثر المناطق حرماناً في إنجلترا بأسرها. تنحو الوظائف فيها إلى أن تكون ذات مهارات ضعيفة وأجور متدنية وموسمية أيضاً نظراً إلى اعتماد المدينة على الزوار الذين يقصدونها كملاذ يمارسون فيه أنشطتهم السياحية. التحصيل التعليمي لأبنائها يواجه أزمة أيضاً. في دائرة بلاكبول الجنوبية، يحقق 34 في المئة فقط من طلاب شهادة الثانوية العامة البريطانية (GCSE) العلامات المرجعية التي تضعها الحكومة لثماني مواد تعليمية. في المقابل، يبلغ المتوسط الوطني 46.9 في المئة.

لما كانت وجهة العطلات هذه تضم عدداً كبيراً من العقارات الكبيرة الخالية في الغالب، وتعتبر بشكل رئيس أماكن مبيت بسعر يشمل وجبة إفطار في اليوم التالي لمرة واحدة، نقلت المجالس المحلية في مختلف أنحاء الشمال، على مر السنين، مقيميها من الفئات الضعيفة إلى هنا. كذلك تميل أعداد كبيرة من المدمنين إلى القدوم إلى هنا بمحض إرادتهم، غالباً لأنهم يربطون المكان بعطلات الطفولة.

في ضوء ذلك، قلة منهم لديها شكوك في أن إنجاح "أدر" لن يكون سوى تحدٍ هائل.

وفق جوني هول، قائد الفريق في برنامج "خدمة البالغين" في "أدر"، بلغت العلل الاجتماعية التي تشوب هذه المدينة حداً مستعصياً لدرجة أنه بغض النظر عما نقوم به [في ما يتعلق بالتدخلات]، ستبقى بلاكبول تعاني مشكلات مستمرة في المستقبل". ولكنه مع ذلك، يعتقد أن في المستطاع إحداث فرق كبير.

حتى الآن، التحق 34 من المدمنين الأكثر ضعفاً في المدينة بالمشروع الجديد. سيحصل كل واحد منهم على دعم مكثف تشارك فيه هيئات عدة، ومصمم خصيصاً لتلبية احتياجاتهم. سيُصار إلى تبسيط المسارات المعقدة والبيروقراطية للحصول على الخدمات من قبيل توفير المأوى، والوصول إلى استشارات الصحة العقلية والنفسية، والعثور على وظيفة، مع تعيين مراقب لكل مدمن كنقطة تواصل واحدة متكاملة، بمعنى أنه سيكون المعني الوحيد الذي يمده بالنصائح وكل ما يحتاج إليه. عندما يتوقف الاتصال معه فجأة، سيلجأ "فريق التجربة المعاشة" إلى صلاته في المجتمع للعثور عليه والتحقق منه.

هول، علماً أنه مدمن متعافٍ، يقول إنه وزملاءه يلتقون بالمدمنين "حيث يكون هؤلاء، لذا فإذا كانوا في أوكار كراك الكوكايين أو حيث يتسولون، سنقصدهم هناك. ننطلق من كوننا على دراية بالصدمات النفسية، وندرك أسباب عزوفهم عن التفاعل مع العلاج المعمول به."

بينما سيكون من الصعب قياس مدى النجاح الذي يحرزه المدمن، سيعتبر مجرد البقاء خارج السجن إنجازاً للبعض من ضمن المشاركين الـ34. ثمة شعور بأن الهدف النهائي لخفض معدلات الوفيات الناجمة عن المخدرات في المستقبل يسير على الدرب الصحيح.

يقول هول في هذا الصدد، "نصب تركيزنا على هذا الهدف (خفض الوفيات)، ونحاول إبقاء الناس على قيد الحياة."

ولكن أحد الشواغل الأوسع نطاقاً ربما يتمثل في ما إذا كان هذا الدعم المكثف مستداماً، لا سيما أن تكلفته باهظة. بل إن تقديم مستويات مماثلة من الدعم لجميع مدمني الهيروين والكراك كوكايين الذين يبلغ عددهم 300 ألف شخص ستكون خيالية. لنكون دقيقين، 1.75 مليار جنيه استرليني على مدى السنوات الخمس المقبلة، وفق البروفيسورة دايم كارول بلاك.

أمضت المديرة السابقة لإحدى كليات "جامعة كمبريدج" البريطانية الأشهر الثمانية عشر الماضية في العمل على مراجعة مستقلة بارزة للحد من الاستخدام السيء للمخدرات وعلاجها. وتشير في استنتاجاتها، التي نُشرت كاملة الشهر الماضي، إلى أنه لا بد من "تغيير تام للأنظمة". صحيح أن المشروع التجريبي في بلاكبول لا يرد في تقرير البروفيسورة بلاك، غير أنه يدعو إلى اتباع نهج مماثل في مختلف أنحاء البلاد.

"علينا فعلاً أن ندخل تحسينات إلى نظام العلاج والتعافي من المخدرات، ولا أقصد بذلك الخدمة السريرية فحسب"، تضيف البروفيسورة بلاك، "أعني بكلامي دعم الصحة العقلية والنفسية، ودعم الصدمات النفسية، وتأمين المسكن، وفرصة الدخول في العمل... من الضروري توفير هذه الباقة كاملة بغية حمل الناس على المضي قدماً في العلاج والوصول إلى الضفة الأخرى، والمساهمة في المجتمع."

وفي حين أن البعض ربما يبدي اعتراضه على المبلغ المطلوب لتنفيذ مشروع من هذا القبيل، تصر كارول على أن تلك الأموال ستشكل استثماراً جيداً.

في الواقع، "تنفق الحكومة البريطانية 19.2 مليار جنيه استرليني سنوياً على آفة تعاطي المخدرات في ما يتصل بنظام العدالة الجنائية، ونظام السجون، والمزايا الصحية، والرعاية الاجتماعية. المخدرات مسؤولة عن 50 في المئة من جرائم القتل في البلد، ونحو 50 في المئة من الجرائم الخطيرة. يملأ هؤلاء ثلث مساحة سجوننا. لا يمكنك [حل هذا] من دون توظيف بعض الاستثمار. أعني، مبلغ 1.75 مليار جنيه استرليني. لا بد من أن يستأهل ما ينفق في سبيله"، على ما قالت البروفيسورة بلاك.

إذا كانت أروقة السلطة والأوساط الأكاديمية قد خلُصت إلى هذا الاستنتاج، فإنه ينسجم أيضاً مع شوارع بلاكبول. حيث أن ستيفن براون، يعتبر مثالاً في هذا الصدد.

يقول في هذا الشأن، "يفارق كثيرون الحياة هنا (في بلاكبول)، وفي كل مكان. هؤلاء بشر. لم يكن وقوعهم في الإدمان خياراً اتخذوه لأنفسهم. إنهم بحاجة إلى مساعدتنا".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات