Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المستشارة الألمانية في موسكو بين الاهتمام المشترك وتباين الأولويات

بوتين: "طالبان" أمر واقع يجب الانطلاق منه... وميركل: سنضطر إلى التفاوض معها

كشفت الزيارة الأخيرة التي قامت بها المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلى موسكو عن تباين أولويات الجانبين، وإن أكدت في الوقت ذاته الاهتمام المشترك للطرفين بكثير من القضايا الثنائية والإقليمية والدولية. وعلى الرغم من حرص الجانب الروسي على الابتعاد بمباحثات الكرملين عن القضايا الخلافية، وفي مقدمتها الموقف من اعتقال المعارض الروسي أليكسي نافالني، وما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني، فقد بدا حرص الجانب الألماني واضحاً في تأكيد أن هذه القضايا تظل في صدارة أولوياته في مباحثاته مع الجانب الروسي. وكانت المستشارة الألمانية قد أشارت في مستهل الجزء العلني من مباحثاتها مع الرئيس فلاديمير بوتين، إلى أنها تتوقع إلى جانب العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية، بحث ما يتعلق بالموقف من اعتقال نافالني، وأوضاع منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير التجارية في روسيا، ولطالما ما استقبل الجانب الروسي ذلك بكثير من الحساسية والسخط "المكتوم".

مراسم تاريخية

إلا أن إصرار ميركل على إثارة "هذه القضايا الخلافية"، لم يحُل دون تقديم واجب التقدير والاحترام للضحايا الذين لقوا حتفهم في الحرب ضد النازية، ما يؤكد إدانتها للممارسات الهتلرية وخطيئة إشعال نيران الحرب العالمية الثانية. ومن هنا يمكن تفسير حرص المستشارة الألمانية على استهلال زيارتها للعاصمة الروسية بوضع إكليل من الزهور على قبر الجندي المجهول قرب "الشعلة الخالدة" بجوار جدار الكرملين، وهو ما عادت لتستهل المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقدته مع الرئيس بوتين، بالإشارة إليه، فذلك ليس من مراسم زيارات العمل، فضلاً عن أنه يحدث لأول مرة في تاريخ العلاقات الروسية - الألمانية، وهو ما يبدو ذا دلالات عميقة المغزى والمضمون، توقف المراقبون في موسكو عندها بكثير من التقدير، ومنهم ألكسندر جاموف معلق صحيفة "كومسومولسكايا برافدا"، في حديثه إلى قناة "روسيا-24" الإخبارية الرسمية الروسية.
وقالت ميركل إن زيارتها لروسيا لا تقتصر على أن تكون مجرد "زيارة وداعية"، بل هي أيضاً زيارة عمل. ولم تغفل المستشارة الألمانية الإشارة إلى أن زيارتها جاءت مواكبة للذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفياتي. ولعلها كانت تريد أيضاً أن تقول إنها لا تريد أن تغادر منصبها وعلاقات بلادها مثقلة بكثير من المشاكل مع روسيا التي يمكن أن تعوق تطور هذه العلاقات بعد انتهاء ولايتها في سبتمبر (أيلول) المقبل.

استقبال وردي

وكان بوتين قد استقبل ضيفته الألمانية في الكرملين بتقديم باقة من الزهور قبيل لقائهما الثنائي الذي شارك فيه وزيرا خارجية البلدين، الروسي سيرغي لافروف، والألماني هايكو ماس، ومستشار الرئيس الروسي للشؤون الخارجية يوري أوشاكوف. وتوقف الرئيس الروسي عند الدور الكبير الذي قامت به ميركل خلال قيادتها ألمانيا على مدى 16 عاماً على صعيد السياسة الأوروبية والعالمية، فضلاً عما قامت به على صعيد تطوير علاقات ألمانيا مع روسيا، بما جعلها أكبر شريك تجاري لروسيا بعد الصين من حيث حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة في كلا البلدين. ومن اللافت في هذا الصدد، أن ميركل زارت روسيا خلال تلك السنوات 20 مرة، خلافاً للزيارات التي قام بها الرئيس الروسي إلى ألمانيا، واللقاءات التي جرت بين ميركل وبوتين على هامش عديد من المؤتمرات والمنتديات الدولية.

المسألة الأفغانية

كان بوتين وميركل قد كشفا عن أولويات كل منهما، في مؤتمرهما الصحافي المشترك الذي عقداه بعد ما يزيد على ثلاث ساعات استغرقتها مباحثاتهما. وافتتح بوتين هذا المؤتمر بإيجاز تراوح بين الإسهاب والإطالة، للموضوعات التي يضعها في صدارة اهتمامات الجانب الروسي. ومن هذا المنظور، وضع الرئيس بوتين قضية أفغانستان في صدارة هذه الاهتمامات. وفي هذا الشأن أقر بوتين بسيطرة حركة "طالبان" على جميع أراضي أفغانستان تقريباً، بما في ذلك العاصمة كابول. وقال إن "ذلك أمر واقع ويجب أن ننطلق منه، مع عدم السماح طبعاً بتفكك الدولة الأفغانية". ومضى ليقول إن "طالبان" أعلنت عن وقف الأعمال القتالية، وشرعت في إرساء النظام العام، وتعهدت بضمان أمن السكان المحليين والدبلوماسيين الأجانب. وأعرب عن أمله في أن "يتم تطبيق كل ذلك على أرض الواقع، وضرورة أن يتابع المجتمع الدولي عن كثب هذه العملية مع أداء مجلس الأمن الدولي دور المنسق في هذا الشأن"، مستبقاً أي محاولات من جانب دوائر بعينها للانفراد بالقرار الدولي والالتفاف حول الشرعية ومجلس الأمن الدولي، مثلما حدث في السابق من جانب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في عديد من المناطق ومنها البلقان والعراق وليبيا، وسوريا.
وكشف بوتين عن أن "روسيا تعرف أفغانستان جيداً، وتأكدت من أن أي محاولات لفرض أي نماذج للحكم والحياة الاجتماعية من الخارج عليها غير بنّاءة، وأنه من غير المُجدي فرض أي نظم إدارة". ودعا إلى "وضع حد للسياسات غير المسؤولة التي تقضي بفرض قيم من الخارج والسعي إلى بناء "ديمقراطيات" في بلدان أخرى بغير مراعاة للسياق التاريخي والوطني والطائفي بما يتناقض مع خصوصيات التكوين العرقي لهذه الدول، وكذلك الخصوصيات الدينية والتقاليد التاريخية". وأضاف أنه "يتعين على روسيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية توحيد الجهود لدعم الشعب الأفغاني وتطبيع الوضع في أفغانستان وإقامة علاقات حسن جوار معها". وخلص بوتين إلى أنه يعتقد أن هذا هو الدرس المستفاد من أفغانستان.
وقال الرئيس الروسي، "لم تتوج تجارب اجتماعية وسياسية من هذا النوع أبداً بالنجاح، ولم تسفر سوى عن تدمير دول وتردّي نظم سياسية واجتماعية". وتحسباً لما يبدو من احتمالات القراءة الخاطئة لخطاب بوتين بهذا الشأن، واعتباره "مهادنة" لـ"طالبان" وانحيازاً لمواقفها، سارع الرئيس الروسي ليحذر من أهمية العمل من أجل الحيلولة دون تسلل الإرهابيين على جميع أشكالهم، إلى أراضي البلدان المجاورة لأفغانستان، لا سيما من خلال التخفي تحت "ستار لاجئين". وفي هذا الصدد أيضاً ورداً على سؤال من جانب الصحافيين الألمان حول تقديره نتائج عملية حلف الناتو في أفغانستان، قال بوتين، "بطبيعة الحال لا يمكن وصف هذه العملية بالناجحة، لكن ليس في مصلحتنا الآن الوقوف عند هذه النقطة، والحديث عنها على أنها فشل تام. كنا مهتمين باستقرار الوضع في هذا البلد، لكن هذا البلد الآن يبدو على ما هو عليه"، مؤكداً ضرورة الحيلولة دون "تفكك" أفغانستان، وأهمية المتابعة عن قرب، كيفية تنفيذ "طالبان" ما تتعهد به من التزامات.

قضية نافالني

أما عن أولويات المستشارة الألمانية فقد أوجزتها في مستهل كلامها حول مضمون مباحثاتها مع بوتين. واختارت ميركل موضوع اعتقال المعارض الروسي أليكسي نافالني ضمن صدارة أولوياتها، فيما طالبت بالإفراج عنه بسرعة، وهو الموضوع ذاته الذي كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد اختار التركيز عليه في حديثه إلى نظيره الروسي، وطالبه أيضاً بالإفراج عن نافالني، وفوراً.
وفي هذا الشأن، قالت ميركل إن الحديث تطرق إلى المسائل المتعلقة بسجن نافالني. وصرحت، "طلبت مرة أخرى من الرئيس إطلاق سراح نافالني، وأوضحت أننا سنبقى متابعين لهذه القضية". وتطرقت أيضاً إلى عدد من قضايا المجتمع المدني، ومنها ما يتعلق بإعلان روسيا ثلاثاً من المنظمات الألمانية غير الحكومية "غير مرغوب فيها" على الأرض الروسية.

وكانت الأسئلة في هذا المؤتمر الصحافي اقتصرت على ممثلي الصحافة الألمانية والروسية بواقع سؤالين لكل من الجانبين. واستهل الجانب الألماني سؤاليه بالاستفسار عن مصير نافالني وما يتعلق بالإفراج عنه، فضلاً عن سؤال آخر حول الفساد في روسيا وأبعاد الموقف من المتورطين في الفساد من "أصدقاء الرئيس". وكعادته في كل المؤتمرات الصحافية أو المناسبات التي يجرى خلالها تناول هذه المسألة، حرص بوتين على عدم النطق باسم "أليكسي نافالني"، الذي وصفه بـ"الكائن المقصود"، مشيراً إلى أنه مسجون بموجب حكم قضائي يتعلق بجريمة جنائية، وأنه من غير الممكن تغطية المخالفات الجنائية بأي نشاط سياسي. واستطرد في استعراض المخالفات التي ارتكبها ويرتكبها ممثلو "المعارضة غير الممنهجة"، وضرورة الالتزام بالدستور والقانون، مؤكداً ضرورة احترام أحكام القضاء الروسي. أما عن الفساد فكانت الإجابة تتسم بالعمومية أيضاً، انطلاقاً من ضرورة الالتزام بالقانون وأهمية مكافحة الفساد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الخيبة من الوضع في أفغانستان

أما في ما يتعلق بالموقف من أفغانستان فعبرت ميركل عن خيبة أملها إزاء سيطرة حركة "طالبان" على كامل أراضي أفغانستان تقريباً. وقالت إن عودتها إلى الحكم "تطور مؤسف جداً غير أنه أمر واقع". وأقرت ميركل بأن الحركة كسبت دعماً أكبر مما أراده الغرب، الذي قد يبدو مضطراً إلى التفاوض معها. وكشفت المستشارة الألمانية عن أنها أبلغت بوتين بأن الأولوية بالنسبة إلى برلين تكمن في مساعدة الأفغان الذين كانوا يساعدون الجيش الألماني والشرطة الفيدرالية خلال السنوات الـ20 الماضية، بنيل فرصة مغادرة أفغانستان، وإجلاء أكبر عدد ممكن منهم في الأيام القادمة، ومنحهم ملاذاً آمناً في ألمانيا. كما أكدت ضرورة أن يخوض المجتمع الدولي صراعاً من أجل منع إعادة تحول أفغانستان إلى مرتع للإرهاب. واستطردت قائلةً، "أما بخصوص مساعدة الشعب الأفغاني في تحديد موقف عام إزاء مستقبله، فأقول بصراحة إننا فشلنا في تحقيق أهدافنا". كما حذرت من خطر ضياع ما تم إحرازه من تقدم في هذه المجالات، معبرةً عن أملها في إيجاد "هياكل ستساعد أفغانستان في تقرير طريقها الخاص بعيداً عن السقوط في شرك أخطار الإرهاب الدولي".

الملف الأوكراني

ولم تكن قضايا العلاقات الثنائية بعيدة عن صدارة المباحثات بطبيعة الحال، وخاصة فيما يتعلق بمشروع "التيار الشمالي-2" الذي تبدو الأطراف المعنية في طريقها إلى الانتهاء منه خلال الأشهر القليلة المقبلة. وبهذا الصدد حرص الجانبان على طمأنة أوكرانيا إلى مواصلة روسيا تنفيذ التزاماتها في إطار مشروع نقل الغاز عبر الأراضي الأوكرانية، وأن أوكرانيا لن تتأثر اقتصادياً بعد إطلاق مشروع "التيار الشمالي-2"، لكن بوتين كان أكثر إصراراً على ضرورة تدخل المستشارة الألمانية خلال زيارتها المرتقبة إلى أوكرانيا في 22 أغسطس (آب) الحالي من أجل إقناع القيادة الأوكرانية بتنفيذ كل بنود اتفاقات مينسك. وقال بوتين إن الجانب الأوكراني انتهك اتفاق وقف إطلاق النار مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك (غير المعترف بهما) نحو ألف مرة خلال شهر أغسطس الحالي وحده. وكان الجانبان قد استعرضا جوانب الأوضاع في أوكرانيا من منظور ضرورة الالتزام ببنود اتفاقات مينسك، واعتبار "مجموعة نورماندي" الآلية المناسبة والوحيدة للتوصل إلى التسوية المنشودة بموجب ما نصت عليه اتفاقات مينسك. وأعرب بوتين عن قلقه من التضارب بين المواقف التي تطرحها الحكومة الأوكرانية في المفاوضات الدولية وتصريحاتها في داخل البلاد التي تظهر عدم نيتها تطبيق اتفاقات مينسك. كما حذر من أن كييف من خلال إعدادها مشروع قانون جديداً تهيئ أرضية للانسحاب فعلياً من اتفاقات مينسك، موضحاً أن هذا التشريع يتناقض مع هذه الاتفاقات بالكامل. وكشف الرئيس الروسي عن أنه أبلغ المستشارة الألمانية بأن "الحكومة الأوكرانية قدمت مشروع قانون جديداً سيعني تبنيه (وهو ليس وثيقة سرية) انسحاب أوكرانيا فعلياً من عملية مينسك".

الملف الليبي

كما كشفت المستشارة الألمانية من جانبها عن أن الأوضاع في ليبيا كانت ضمن الموضوعات التي تطرقت إليها مباحثاتها في موسكو، وطالبت بتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه بهذا الشأن بما في ذلك ضرورة سحب القوات الأجنبية، في إشارة غير مباشرة إلى فصائل مجموعة فاغنر المحسوبة على روسيا.
وتبقى الإشارة إلى أن كل وسائل الإعلام الروسية استعرضت جوانب الزيارة التي قامت بها ميركل إلى موسكو من منظور يتسم بكثير من الاحترام والتقدير للمستشارة الألمانية "ابنة ألمانيا الشرقية"، ولتاريخها الذي قالت إنه يضعها في مصاف أبرز الزعماء العالميين. وعلى الرغم مما أبدته ميركل من خلافات في الرؤى والمواقف مع سياسات الكرملين، فقد اتسم أيضاً موقف الرئيس الروسي من المستشارة الألمانية بكثير من المودة والأريحية، التي قد تعود إلى كونهما الزعيمين الوحيدين في أوروبا، وربما في العالم اللذين يعرف كل منهما لغة الآخر، فميركل تجيد الروسية منذ سنوات إقامتها في "ألمانيا الديمقراطية"، وبوتين يعرف الألمانية منذ سنوات خدمته في الـ"كي جي بي"، ومنها تلك التي قضايا في دريزدن في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. وثمة من كشف في موسكو عن ترشيح ميركل للحصول على جائزة نوبل للسلام، ربما مناصفةً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

المزيد من متابعات