Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العقد اليمني المأزوم خسر رجال التوازنات القبلية

شهدت السنوات العشر الماضية رحيل أشهر شيوخ العشائر في دولة تبحث عن شخصيات توافقية لاحتواء الشقاق الداخلي

في المجتمعات التقليدية تلعب مؤسسة القبيلة دوراً مهماً في التوازن الاجتماعي والسياسي (اندبندنت عربية)

في بلد مضطرب تغيب فيه القوانين الناظمة ودولة المؤسسات، كاليمن، تحضر القبيلة في الغالب كمعادل موضوعي لغياب الدولة، أو بوجود الاثنين معاً، وهو ما جعل لزعماء القبائل سطوة مشهودة، وحضوراً بارزاً في مشهد الأحداث العام على مدى تأريخ اليمن الحديث.

وعندما يغيب القانون ودور السلطة النافذة التي تحتكر القرار والقوة كما يذهب عالم الاجتماع الألماني، ماكس ويبر، تطل القبيلة بعمامتها وجنبيتها لتملأ هذا الفراغ ممثلة بزعمائها "المشائخ"، كما يطلق عليهم في اليمن، لتنتج بطريقتها الخاصة، ووفقاً لمصلحتها الاجتماعية ومكانتها بين قريناتها، أعرافاً وقوانين اجتماعية سائدة تعارف عليها المجتمع اليمني وخصوصاً منه الشمالي، وحلت في كثير من الأحيان مكان الدساتير والنواميس المدنية الناظمة لشؤون الحياة.

هل القبيلة تسند الدولة؟

ظل حضور زعماء القبائل البارزين في اليمن يردد على نحو متواتر منذ عقود، أن تواجده في طليعة المشهد السياسي والاجتماعي العام مساند لحضور الدولة "وإقامة العدل والخير في المجتمع اليمني" كما قال الشيخ عبدالله الأحمر (كبير الزعماء القبليين في التاريخ المعاصر) في لقاء متلفز مع القناة الرسمية، منتصف تسعينيات القرن الماضي، مستنكراً الدعوات التي تقول إن تأثير المشائخ يضعف حضور الدولة.

غير أن البعض يرى أن هذا التأثير شكل إلى حد ما مزيجاً منسجماً تبعاً لحضور المصلحة والنفوذ، وزاوج بين الدولة في مظهرها المدني المتعارف عليه، والقبيلة بأعرافها التقليدية التي أفرزت عقداً اجتماعياً توارثه المشائخ أباً عن جد، أضحى قولها هو القول الفصل متى ما أراد زعماؤها.

هذه الحال أنتجت تفاهماً لإدارة وتوجيه الدولة من نوع خاص، فيما كان يفترض العكس، وخلق كتلة متناغمة أمام جملة المنعطفات التي شهدتها البلاد، لعل أبرزها حرب صيف 1994 بين شريكي الوحدة. إذ حضرت القبيلة بقوة ملحوظة ومثلت عامل ثقل فارق رجح كفة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح في ميزان القوة حينها، وهي الحرب التي شهدت عودة تأثير ونفوذ زعماء القبائل الجنوبية التي حملت سلاحها إلى جانب صالح، بدافع انتقامي من الحزب الاشتراكي الذي أرسى دولة مؤسسات مدنية أفرغت حضورهم المؤثر والنافذ بعيد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عندما كان معظم المشائخ يدينون للبريطانيين بولاء خاص مقابل الإبقاء على نفوذهم الإقطاعي، وعقب إعلان إقامة "دولة الاستقلال" ظلت سلطاتها هي المتحكم الوحيد والحصري بالقوة والقرار.

وأتاح غياب سلطات الدولة للقبيلة أن تضطلع بجل الوظائف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يمكن للدولة أن تقوم بها، لذلك "كانت القبيلة اليمنية تنظيماً حربياً، يضمن أمن أفراده وحماية ممتلكاتهم، وكانت تنظيماً ينظم استخدام الموارد الطبيعية، وأيضاً تنظيم العلاقات وتسوية الخلافات بين أفراد القبيلة".

نواة المقاومة

مع سقوط الدولة بيد الميليشيات الحوثية عام 2014 برز مجدداً دور القبيلة اليمنية، فأنشأت المقاومة المناهضة للمشروع الحوثي  المدعوم من إيران والدخيل على تركيبتها وعاداتها، إلا أن الصراعات السياسات التي اختلجت البلاد خلال العقد المنصرم، وفقدانها عدداً من زعمائها القبليين البارزين يمكن القول إنه شق عصا القبيلة اليمنية التي ظلت متماسكة إلى حد بعيد في مواجهة كافة التحديات والأحداث الكبرى. فراح جزء منها، مع الحوثي الذي انقلب بالحديد والنار على الدولة والقبيلة التي يرى نفسه سيداً عليها، فيما راح الجزء الآخر مع المقاومة المناهضة لمشروعه الذي تعتبره "مشروع استعباد وإذلال" وفقاً لرواية اللواء مفرح بحيبح المرادي قائد محور بيحان، الذي هو بالأساس أحد كبار مشائخ قبيلة مراد بمأرب، أعتى القبائل اليمنية وأشرسها، وشكل رجال القبائل تالياً النواة الرئيسية للجيش الوطني الموالي لحكومة الرئيس هادي.

رحيل وضعف

خلال العقد الماضي وما قبله بقليل، خسرت اليمن العديد من مرجعياتها القبلية البارزة الأمر الذي أضعف دورها بعد أن خفت حضور بعض القبائل بوفاة زعمائها، كما هي الحال بقبيلة حاشد كبرى القبائل اليمنية التي فقدت برحيل الشيخ عبدالله الأحمر عمودها الفقري الذي ظل يتحكم بزمام مواقفها وثقل منتسبيها، الذي يبلغ قوامهم نحو ثلاثة ملايين نسمة (مع قبائل بكيل) وفقاً لبعض المراجع، وهي أكثر القبائل نفوذاً في السياسة منذ سقوط الملكية عام 1962 وبعد الوحدة اليمنية وتشكل بمعية قبائل بكيل قسمي قبائل همدان اليمنية من عصور قديمة وتتواجد في مناطق صنعاء وعمران والجوف وغيرها.

أنت رئيسي وأنا شيخك

شهدت فترات عهد "الجمهورية اليمنية" خصوصاً ما بعد قيام دولة الوحدة عام 1990، بروز دور القبيلة إلى الحد الذي دفع الناس للالتجاء والاحتماء بها في خلافاتهم البينية أو تلك التي تحدث مع سلطات البلد الرسمية ومؤسساتها العسكرية، وهو الأمر الذي لم يحدث لولا فرضها عوامل تأثيرها المباشر في قرار السلطة الحاكمة الذي يتهم الشيخ الأحمر بتبنيه وفرضه على الرؤساء المتعاقبين منذ ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 إلى حد رفع السلاح في وجهها وقتل وأسر الجيش الحكومي، بل أن في كثير من الأحيان ينتهي الخلاف بقيام السلطة بتحكيم (طلب رضى) القبائل وزعمائها.

وعندما يشتد الخلاف لا يجد الشيخ الأحمر غضاضة في مخاطبة صالح بمقولته التي اشتهرت عنه "أنت رئيسي وأنا شيخك" لوجوب رضوخه الملزم لما يراه، كون قبيلة سنحان التي ينحدر منها صالح تقع في الإطار القبلي التابع لسلطات قبيلة حاشد التي يتزعمها الأحمر وأنجاله.

استقرار المزيج الحاكم

في مجتمع كاليمن، لا يمكن فصل السياق السياسي عن المسار الاجتماعي أو ما يمكن تسميته السلطة الاجتماعية غير الرسمية تلك التي تستند إلى سلم الأعراف الممتدة عبر التأريخ. 

ولهذا يقول الباحث السياسي، محمد المقبلي، إنه "لا يمكن إغفال الشخصيات التي تفرض حالة التوازنات الاجتماعية بسلبياتها وإيجابياتها سواء تلك التي تحظى بثقل اجتماعي وأثرت بشكل مباشر في عملية بناء ومسار الدولة".

ويمكن القول إن "تأثير الزعامات القبلية والاجتماعية ارتبط بمولد ثورة 26 سبتمبر بعد انخراط قطاع واسع من القبائل مع المشروع الجمهوري ضد الإمامة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالنظر إلى الزعامات القبلية التي ظلت تتهم بأنها رأت في الثورة فرصة لبلوغ السلطة والنفوذ السياسي والقبلي، يرى المقبلي أنه على الرغم من بحث بعض رؤساء القبائل على دور جديد يضمن لها تمثيل نافذ في السلطة الوليدة، بعد أن كانت خارج سياق التمثيل السياسي بسبب حكم الأئمة، حصلت على مبتغاها وظلت تستأثر بنصيب الأسد في السلطة والثروة بمباركة نظام الرئيس الراحل صالح، ولكن رحيلها ترك فراغاً لا تملأه إلا شخصيات من ذات الوزن، خصوصاً الشخصيات التي كان لها ثقل اجتماعي مساند للمقاومة الشعبية مثل الشيخ علي القبلي نمران والشيخ علي بن علي شطيف وغيرهم.

زعامات آفلة

خلال العقد المنصرم أو ما قبله شهدت اليمن أفول نجومية عدد من الزعامات القبلية ذات التأثير القوي والفاعل في معترك الحياة العامة في اليمن، خصوصاً خلال المنعطفات التي شهدتها البلاد بعد أن غيبها الموت عن الحياة التي ملأتها صخباً وجدلاً واسعاً.

ففي عام 2007 ترك رحيل الشيخ عبدالله الأحمر، رئيس مجلس النواب لفترتين، منذ 1993 حتى وفاته، فجوة كبيرة في علاقة القبيلة المباشر بالسلطة، لتعطي هذه الفجوة مجالاً للخلافات بين أبنائه التسعة من جهة، والرئيس علي صالح وأنجاله الثمانية من جهة أخرى، لأسباب تتعلق بسطوة النفوذ الذي ظل الرجلان يمسكان حصراً بمقاليدها لعقود طبقاً لمصلحتيهما بمشاركة بقية الزعامات القبلية التي تدين لهما بالولاء، وهي الحال التي أنتجت وفقاً لمراقبين سياسيين، سلطة أدارت توزيع المصالح بين الزعامات النافذة أو العسكر والقبائل، ووفر هذا الاستئثار حالة من الاستقرار المؤقت والعابر الذي لم يؤد لبناء دولة وإنما استقرار للسلطة الحاكمة.

كما شهد العام الماضي، رحيل سنان أبو لحوم شيخ قبائل بكيل، ثاني كبرى القبائل اليمنية، الذي قال في مذكراته إنهم - أي المشائخ - يتصدون لأي محاولات تسعى لإضعاف الدولة أو الانتقاص منها.

وقبل أسابيع، توفي الشيخ القبلي البارز غالب الأجدع المرادي، الرجل الذي لطالما قاد القبائل وخاض بها حروباً وغزوات عدة منذ قيام ثورة سبتمبر التي ناصبها العداء، قبل أن "يجمهر" (يعلن الولاء للجمهورية) بعيد صعود صالح للحكم وجلوسهما معاً ليعلن ولاءه التام للجمهورية، ومثّل عنصراً إضافياً في استيعاب وتطويع المزيد من القبائل في صف السلطة الحاكمة قبل أن يختتم حياته بموقف مناهض وداعم ضد الانقلاب الحوثي على اليمنيين ودولتهم.

وأول من أمس، رحل شيخ مشائخ قبيلة مراد، علي القبلي نمران المرادي، الذي غادر الحياة بهدوء لا يشبهه، بعد أن ملأ المجال بحضوره القلق، رامياً خطام جمال القبيلة وسروج خيول السياسة في صحراء سبأ حيث الحوثي يترصد "مطارح نخلا" التي حضرها بخيمته وسيجارته وصدره الملتهب متوعداً "مشروع إيران الطائفي بالانتكاسة في مأرب".

وبرحيله فرغ كرسي مؤثر في مجلس الشورى كما هي الحال بديوان القبيلة بعد أن ملأه بحضور صوته الجهور، كما هي الحال بدوره الكبير في ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962.

وفقدت قبيلة عبيدة، ثاني كبرى قبائل مأرب، الشيخ محسن علي بن معيلي، وقبله الشيخ عبدالله علي معيلي عضو مجلس النواب، وبرحيلهما "فقدت القبيلة ومأرب مرجعية قبلية ووطنية بارزة"، كما قالت برقيات تعاز بعثها الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي.

وقبل أشهر توفي أحمد عباد شريف، شيخ قبائل بني ظبيان خولان، ذي المرجعية الاشتراكية والمشهود له بالمواقف المساندة لجهود الدولة في "إرساء قيم الحق والعدل" كما كان يردد.

فيما شهد العام الماضي، وفاة عضو مجلس النواب وشيخ مشائخ الحيمة، ربيش علي وهبان العليي الذي غادر صنعاء عقب سيطرة الميليشيات، معلناً رفضه بفمه وبندقيته "للمشروع الإيراني في أرض الجمهورية والعروبة". 

ومطلع الشهر الجاري، قتل العميد عبد الواحد دوكر الحداد، قائد اللواء الثاني حماية طرق، وهو شيخ قبيلته المعروفة بمواقفها ضد الحوثي، سبقه الشيخ علي بن علي شطيف، شيخ قبيلة دهم بمحافظة الجوف المحاذية للجارة السعودية، وهي من أشرس القبائل اليمنية التي واجهت الحوثيين وطردتهم من مناطقها.

فراغ يبحث عن بديل

وفي حين يقلل البعض من رحيل هذه الزعامات بل ويعتبرون بقاءها عاملاً معرقلاً في طريق بناء دولة المواطنة، حيث لا سيادة فيها إلا للقانون، يعتبر آخرون رحيلها فراغاً فادحاً يصعب ملؤه في مواجهة التحديات المفصلية الماثلة التي تتهدد اليمن ووحدته وهويته ودولته.

يقول الشيخ علي محمد الحمصي، من مأرب، إن للقبيلة اليمنية دوراً مؤثراً وبارزاً في إشعال ثورتي سبتمبر وأكتوبر والدفاع عن الجمهورية والوحدة ابتداء بثورة 1948 التي تزعمها الشيخ علي ناصر القردعي المرادي ضد الإمام يحيى حميد الدين، وحتى ملحمة فك حصار السبعين يوماً عن العاصمة صنعاء في فبراير (شباط) 1968 بقيادة الشيح أحمد عبدربه العواضي وما كان يسمى حينها بـ"جيش الشارقة" (إشارة للمحافظات الشرقية: مأرب، البيضاء، شبوة).

وبالنظر لعلاقة تلك الواجهات القبلية التي تربطها بالرؤساء والملوك والزعماء العرب علاقة وطيدة، يؤكد الحمصي أنها "كانت تستخدم هذه العلاقات الأخوية في حشد المواقف الدولية إضافة لتأثيرها الاجتماعي والشعبي في مواجهة أي مشاريع تمزيقية أو ضارة بالبلاد وسيادته وأمنه واستقراره وهويته الوطنية، ولهذا نشهد اليوم وقوف أبرز وأهم المشائخ في صف مشروع اليمن الواحد ضد المشروع الحوثي الإيراني العنصري الرجعي".

المزيد من تقارير